كتابة المذكرات ما بين تاريخ متاح وآخر سري

«أحداث ومواقف» لمولاي المهدي العلوي في ندوة بمعرض الرباط للكتاب

كتابة المذكرات ما بين تاريخ متاح وآخر سري
TT

كتابة المذكرات ما بين تاريخ متاح وآخر سري

كتابة المذكرات ما بين تاريخ متاح وآخر سري

كانت إشكالية كتابة المذكرات والسيرة الذاتية، من لدن الشخصيات الدبلوماسية والسياسية، حول التاريخ السياسي والدبلوماسي للمغرب الحديث بأسلوب مغاير موضوع لقاء فكري بمناسبة تقديم وقراءة مؤلف «أحداث ومواقف» للسياسي والدبلوماسي المغربي مولاي المهدي العلوي.
وأجمع المشاركون في هذا اللقاء، الذي جاء ضمن فعاليات الدورة الـ27 للمعرض الدولي للنشر والكتاب التي تحتضنها العاصمة المغربية الرباط، على أن الكاتب استطاع في هذا الإصدار الجديد، أن يتجاوز إلى حد ما مقولة أن «تكتب سيرة ذاتية، كأن تسير على بيض تخشى أن يتهشم أسفل قدميك»، في بلد مثل المغرب تصعب فيه «السياقة» بحنكة في منعرجات السياسة والدبلوماسية.
من هكذا منطلق يبدو أن المؤلف عمل جهد المستطاع والمتاح تجاوز بقدر ما القراءة الانتقائية للماضي، كما هو معروف في الكتابة التقليدية؛ وذلك لأن تجربة الكتابة التاريخية في الوقت الراهن تعرف تجديداً، وتطوراً على مستوى الممارسة المنهجية والمفاهيم، خاصة بالرجوع إلى الأسئلة المطروحة، إلى نقط الاهتمام وتأويل المعلومات.
مؤلف مولاي المهدي العلوي «أحداث ومواقف» كانت له «القدرة الإيجابية على تدوير الحقيقة التاريخية»، كما كتبها البعض، وإعادة إنتاجها من زاوية مختلفة تماماً عن الطرح الآيديولوجي لأوجه الصراع المختلف، من خلال استحضاره الكثير من التفاصيل والشهادات والأحداث التاريخية منذ استقلال المغرب سنة 1956 إلى نهاية الألفية الثانية، وهي مرحلة فارقة طبعت تاريخ المغرب المعاصر.
فالمؤلف يسرد هذه الأحداث والوقائع بـ«خطاب هادئ وخالٍ من التحيز والانفعال، وبالتالي فمتنه يعد وصفة منضبطة وواعية، فيها الكثير من الاتزان والنقد الموضوعي»، حسب ما قاله الدكتور مصطفى الكثيري المندوب السامي لقدماء المقاومين وأعضاء جيش التحرير بالمغرب في بدية اللقاء الذي اعتبر أن هذا الكتاب «قراءة جديدة للتاريخ النضالي والسياسي، قراءة فيها من الواقعية والكياسة ما يمد جسور التواصل، ويغلب لغة الحوار، ويكرّس مبدأ الشفافية؛ مما يجعل هذه السيرة، تتجاوز الكثير من مثيلاتها من المذكرات والشهادات إلى تنحو منحى المواجهة والصراع».
يقول الدكتور سعيد منتسب، معد الكتاب، لـ«الشرق الأوسط»، إن «مذكرات (مولاي المهدي العدوي... أحداث ومواقف) لا تتعلق بالتمييز بين تاريخين: تاريخ متاح وتاريخ سري أو على الأقل مختلف، ولا بتثبيت الأصلي على حساب الحقيقي، ولا بالتحيز للحظي على حساب الكلي»، مبرزاً أن المؤلف «يقدم إلينا ذاكرة في غاية الحيوية، لا يعوزها ذلك الألق التي يمنحها أسباب الوجود، ذاكرة رجل متعدد المراكز، وله دور في صنع المغرب الراهن، وفي ضبط تحولاته الكبرى، من موقف الفاعل المشارك جنباً إلى جنب مع أهم السياسيين الذين عرفهم المغرب المعاصر».
لقد وضع المؤلف، كما يضيف «مسافة صريحة بين التاريخ والنزعة الشُطَّارية (أو البيكارسكية) التي تتحلى بها الشخصية المصارعة والمتمردة وغير المنصاعة للقواعد. فنحن لا نقتفي أي (أسطورة) تتطور بنظرة تبتعد عن الالتزام بـ(الحقيقة) بمعناها الأخلاقي، خارج الإشكالات الفلسفية التي يمكن أن يثيرها مفهوم الحقيقة في علاقته بالذاكرة والتاريخ».
إذن، ليس هناك، في هذه المذكرات، أي انجرار أمام المنطق التخييلي الذي يمكن أن يطرحه استدعاء الذاكرة، كما ليس هناك أي اندفاع وراء خلق «الأوديسا الشخصية» الذي لاحظناه في الكثير من مذكرات المغاربة والأجانب، سواء أكانوا أدباء أم سياسيين أم مفكرين أم فنانين. إن هذا الإغراء الذي تمارسه علينا الذاكرة يخفت بوضوح في هذا الكتاب، رغم أن «حياة صاحبها بحر مضطرب»، كما يوضح معدّ الكتاب، الذي أعرب فيه عن اعتقاده بأن «ما منح حرارة لهذه المذكرات، وجعلها ملتزمة بحقيقتها التي تتجاوز حتى صاحبها، بل جعلها تنجح في تجاهل الترابط الممكن بين البيوغرافي والخيالي، لصالح (التاريخ المشترك)، تاريخ جيل صنع الاستقلال، وتقلب على نحو تراجيدي في صراعاته، وقاسى من تجاذبات كل السلط التي أفرزها».
الشهادة التاريخية التي يسعى الكتاب إلى تدوينها لا ترتبط بالماضي على نحو يمجد الذات ويعطل الحاضر، بل على العكس تماماً، هناك طموح واضح، لا يخفيه صاحبه، إلى تحرير هذا الماضي من أساطيره المؤسسة، لإعلاء المستقبل عبر القراءة الجيدة لما عاشه المغرب، دون أي تحيز لهذا الطرف أو ذاك.
لذا؛ يرى منتسب أن هذا الكتاب يضع نفسه بوضوح تام ضد الموقف التقليدي «الذي يمجد الصراع ويؤبده أو يؤصله؛ سعياً إلى بناء الذات على نقيض ما هو أصلي».
يتوقف الكتاب «المرفق بملاحق وبصور فوتوغرافية» عند تسع محطات، هي «البئر الأولى» و«بداية الوعي الوطني»، و«ميلاد الاتحاد» و«المهدي بن بركة: الرجل والقضية» و«ثورة الطلاب (1968 والقضية الفلسطينية)» و«المحاولتان الانقلابيتان» و«عمر بن جلون الشهادة والاستشهاد» و«تستمر محن الاتحاد» و«بين الحزب والدفاع عن القضية الوطنية في الأمم المتحدة» و«مغادرة الحزب والمهام الدبلوماسية» و«حكايتي مع العراق» و«سفير المغرب بالأردن» و«مستشار دبلوماسي في وكالة بيت مال القدس».
وفي تصريح لـ«الشرق الأوسط»، استعرض الدبلوماسي السابق محمد بنمبارك، الذي يعود إليه الفضل في إقناع صاحبه بخوض هذه «المغامرة»، لـ«ما يحمله في جعبته حول تاريخ المغرب المعاصر في غاية الأهمية بالنسبة للأجيال الحاضرة والقادمة»، موضحاً أن الفكرة التي تداول معه فيها أسفرت في الأخير عن ميلاد هذا الكتاب الذي يعرض ما عايشه العلوي من أحداث سياسية ودبلوماسية بـ«إيقاع حيادي يستند كل شيء إلى الحقيقة، بعيداً عن التحيز والتحامل والحسابات الباردة المتجنبة للنزق السياسي، ولا يميل إلى الكلام بالألغاز واللعب بالألفاظ والعبارات التي كثيرا ما تفقد الكلام معناه».
ويمكن هنا التساؤل مع عبد الله العروي، ما هو دور الماضي في فهم الحاضر؟ ودور الحاضر في فهم الماضي؟ يقول معد الكتاب «لا يمكننا النظر إلى هذه المذكرات إلا باعتبارها استرجاعاً لهوية أصبحت قابلة للطمس، بفعل انحياز العديد من الفاعلين الذين رحلوا إلى الصمت، أو إلى النسيان، أو إلى المراجعة السياسية للمواقف السابقة، على ضوء الامتيازات المحصل عليها. ولهذا يتكئ الكاتب، على ركيزتين أساسيتين هما: (العقلانية) و(الواقعية) كمدخل استراتيجي لقراءة التاريخ، بدل القراءة من داخل النسق الإيديولوجي الحزبي».


مقالات ذات صلة

«تيك توك» أكثر جدوى من دور النشر في تشجيع الشباب على القراءة

يوميات الشرق «تيك توك» أكثر جدوى من دور النشر  في تشجيع الشباب على القراءة

«تيك توك» أكثر جدوى من دور النشر في تشجيع الشباب على القراءة

كشفت تقارير وأرقام صدرت في الآونة الأخيرة إسهام تطبيق «تيك توك» في إعادة فئات الشباب للقراءة، عبر ترويجه للكتب أكثر من دون النشر. فقد نشرت مؤثرة شابة، مثلاً، مقاطع لها من رواية «أغنية أخيل»، حصدت أكثر من 20 مليون مشاهدة، وزادت مبيعاتها 9 أضعاف في أميركا و6 أضعاف في فرنسا. وأظهر منظمو معرض الكتاب الذي أُقيم في باريس أواخر أبريل (نيسان) الماضي، أن من بين مائة ألف شخص زاروا أروقة معرض الكتاب، كان 50 ألفاً من الشباب دون الخامسة والعشرين.

أنيسة مخالدي (باريس)
يوميات الشرق «تيك توك» يقلب موازين النشر... ويعيد الشباب إلى القراءة

«تيك توك» يقلب موازين النشر... ويعيد الشباب إلى القراءة

كل التقارير التي صدرت في الآونة الأخيرة أكدت هذا التوجه: هناك أزمة قراءة حقيقية عند الشباب، باستثناء الكتب التي تدخل ضمن المقرّرات الدراسية، وحتى هذه لم تعد تثير اهتمام شبابنا اليوم، وهي ليست ظاهرة محلية أو إقليمية فحسب، بل عالمية تطال كل مجتمعات العالم. في فرنسا مثلاً دراسة حديثة لمعهد «إبسوس» كشفت أن شاباً من بين خمسة لا يقرأ إطلاقاً. لتفسير هذه الأزمة وُجّهت أصابع الاتهام لجهات عدة، أهمها شبكات التواصل والكم الهائل من المضامين التي خلقت لدى هذه الفئة حالةً من اللهو والتكاسل.

أنيسة مخالدي (باريس)
يوميات الشرق آنية جزيرة تاروت ونقوشها الغرائبية

آنية جزيرة تاروت ونقوشها الغرائبية

من جزيرة تاروت، خرج كم هائل من الآنية الأثرية، منها مجموعة كبيرة صنعت من مادة الكلوريت، أي الحجر الصابوني الداكن.

يوميات الشرق خليل الشيخ: وجوه ثلاثة لعاصمة النور عند الكتاب العرب

خليل الشيخ: وجوه ثلاثة لعاصمة النور عند الكتاب العرب

صدور كتاب مثل «باريس في الأدب العربي الحديث» عن «مركز أبوظبي للغة العربية»، له أهمية كبيرة في توثيق تاريخ استقبال العاصمة الفرنسية نخبةً من الكتّاب والأدباء والفنانين العرب من خلال تركيز مؤلف الكتاب د. خليل الشيخ على هذا التوثيق لوجودهم في العاصمة الفرنسية، وانعكاسات ذلك على نتاجاتهم. والمؤلف باحث وناقد ومترجم، حصل على الدكتوراه في الدراسات النقدية المقارنة من جامعة بون في ألمانيا عام 1986، عمل أستاذاً في قسم اللغة العربية وآدابها في جامعة اليرموك وجامعات أخرى. وهو يتولى الآن إدارة التعليم وبحوث اللغة العربية في «مركز أبوظبي للغة العربية». أصدر ما يزيد على 30 دراسة محكمة.

يوميات الشرق عمارة القاهرة... قصة المجد والغدر

عمارة القاهرة... قصة المجد والغدر

على مدار العقود الثلاثة الأخيرة حافظ الاستثمار العقاري في القاهرة على قوته دون أن يتأثر بأي أحداث سياسية أو اضطرابات، كما شهد في السنوات الأخيرة تسارعاً لم تشهده القاهرة في تاريخها، لا يوازيه سوى حجم التخلي عن التقاليد المعمارية للمدينة العريقة. ووسط هذا المناخ تحاول قلة من الباحثين التذكير بتراث المدينة وتقاليدها المعمارية، من هؤلاء الدكتور محمد الشاهد، الذي يمكن وصفه بـ«الناشط المعماري والعمراني»، حيث أسس موقع «مشاهد القاهرة»، الذي يقدم من خلاله ملاحظاته على عمارة المدينة وحالتها المعمارية.

عزت القمحاوي

نهاية دانيال شبوري «فنان الأطباق المتّسخة»

دانيال شبوري معلّم الـ«إيت آرت» (غيتي)
دانيال شبوري معلّم الـ«إيت آرت» (غيتي)
TT

نهاية دانيال شبوري «فنان الأطباق المتّسخة»

دانيال شبوري معلّم الـ«إيت آرت» (غيتي)
دانيال شبوري معلّم الـ«إيت آرت» (غيتي)

مسَّت النهاية بحياة الفنان التشكيلي السويسري دانيال شبوري، أحد أبرز الأسماء في تيار «الواقعية الجديدة» الفنّي، ومعلّم الـ«إيت آرت» الذي يتمثّل بتعليق مخلّفات وجبة طعام على لوحة، وفق ما نقلت «وكالة الصحافة الفرنسية» عن مركز «بومبيدو».

وكتب متحف الفنّ الحديث والمعاصر عبر منصة «إكس»: «ينتابنا حزن عميق لوفاة دانيال شبوري، العضو المؤسِّس للواقعية الجديدة».

وتابع: «نظرته الفريدة للفنّ من خلال لوحاته وتجميعاته غير المتوقَّعة، مكّنته من التقاط اللحظة وما هو عادي ومدهش. سيظلّ إرثه مصدراً للإلهام والتأمُّل الفريد».

واشتُهر الفنان السويسري من أصل روماني، المولود عام 1930 في منطقة على ضفاف نهر الدانوب بغالاتي (شرق رومانيا)، بلوحاته ثلاثية البُعد المرتبطة بفنّ المائدة.

مبدؤها بسيط، ففي نهاية الوجبة، يلصق شبوري كل ما يتبقّى على الطاولة (أدوات المائدة، والأطباق، وبقايا الطعام، والأغلفة...)؛ بهدف تجميدها على اللوحة.

ويُطلق على كل عمل فنّي يضيء على الأطعمة والعادات الغذائية «إيت آرت».

ومع هذا المفهوم، أسَّس الراقص السابق تيار «الواقعية الجديدة» عام 1960 إلى جانب فنانين من أمثال إيف كلاين، وأرمان، وريموند هاينز.

الراقص السابق أسَّس تيار «الواقعية الجديدة» (غيتي)

ووصل به الأمر حدّ تولّيه إدارة مطعم في دوسلدورف الألمانية بين 1968 و1972. وكان بإمكان الزبائن المغادرة مع عملهم الخاص.

وأنشأ شبوري صالة عرض «إيت آرت» التي أُقيمت فيها معارض لعدد من الفنانين، بينهم سيزار وبن وأرمان، مع إبداعات سريعة الزوال وصالحة للأكل، في حين يشارك رسامون مثل بيار سولاج في بعض الولائم.

لكنه سعى إلى التخلّص من تسمية «فنان الأطباق المتّسخة». وفي إحدى مجموعاته، وضع غرضاً فعلياً على قماش، وتساءل عن الحدود بين الواقع والوهم.

عُرضت أعماله في معارض استعادية نُظّمت في متاحف عدّة، بينها مركز «بومبيدو» في باريس خلال التسعينات.

وعام 2021، خصَّص متحف الفن الحديث والمعاصر «ماماك» في نيس معرضاً كبيراً له.