استطلاع للرأي يبرز تشكل 3 كتل سياسية في فرنسا

اتهامات فاضحة لوزير وانتقادات عنيفة لآخر تشوش بداية عهد ماكرون الجديد

الرئيس الفرنسي مع وزير الاقتصاد ووزيرة الخارجية (أ.ف.ب)
الرئيس الفرنسي مع وزير الاقتصاد ووزيرة الخارجية (أ.ف.ب)
TT

استطلاع للرأي يبرز تشكل 3 كتل سياسية في فرنسا

الرئيس الفرنسي مع وزير الاقتصاد ووزيرة الخارجية (أ.ف.ب)
الرئيس الفرنسي مع وزير الاقتصاد ووزيرة الخارجية (أ.ف.ب)

بداية معقدة تواجه انطلاقة الولاية الثانية للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، الذي أعيد انتخابه في 24 أبريل (نيسان) الماضي لخمس سنوات إضافية. ويوم أمس، عقد أول اجتماع للحكومة الفرنسية الجديدة التي كلفت برئاستها إليزابيث بورن، بحضور كامل أعضائها الـ28 في قصر الإليزيه. واغتنم ماكرون المناسبة ليرسم ما يعد «خارطة طريق»، مركزاً على ثلاثة ملفات رئيسية، وفق ما نقلت عنه الناطقة الجديدة باسم الحكومة أوليفيا غريغوار وهي: التعليم والصحة والنقلة البيئوية، فيما شدد الرئيس الفرنسي على أن الملف المُلح الذي يتعين على الحكومة التصدي له فوراً هو القوة الشرائية للفرنسيين الذين يعانون ارتفاع الأسعار ومستوى مرتفعاً للتضخم لم تعرفه فرنسا أو غيرها من البلدان الأوروبية والمتقدمة منذ ثلاثة عقود.
وأشارت غريغوار إلى أن مشروع قانون سيتم إعداده حتى يكون على رأس لائحة أشغال البرلمان الجديد الذي سيتم انتخابه على دورتين يومي 12 و19 يونيو (حزيران) المقبل. وفي بداية الاجتماع، حثّ ماكرون الحكومة على الانخراط في العمل من غير إبطاء، مشدداً على أنها «حكومة استمرار وتجديد» في نفس الوقت، علماً بأن 15 وزيراً منها كانوا وزراء في حكومات عهده الأول، وأبرزهم وزراء الاقتصاد والداخلية والعدل، بينما استبدل وزيري الخارجية والدفاع، بحيث حلت الدبلوماسية ووزير الشؤون الأوروبية السابقة كاترين كولونا محل جان إيف لو دريان في «الكي دورسيه»، مقر الخارجية، فيما حل سيباستيان لوكورنو، محل فلورانس بارلي في وزارة الدفاع. بيد أن انطلاقة الحكومة بدت متعثرة بسبب مسألتين منفصلتين: الأولى، اتهامات الاغتصاب المساقة بحق وزير التضامن وشؤون المعاقين داميان أباد والانتقادات العنيفة التي وجهت لوزير التربية الجديد باب نديا، خصوصاً من جانب اليمين واليمين المتطرف.
آخر «غنائم» ماكرون
ليس أباد وزيراً كالوزراء الآخرين، إذ إنه آخر «غنائم» ماكرون السياسية، لأنه قبل أن يعين وزيراً كان يرأس مجموعة نواب اليمين في البرلمان حزب «الجمهوريون»، وقد ترك حزبه ليلتحق برئيس الجمهورية الذي كافأه بتعيينه في منصبه الجديد. إلا أن اتهامات الاغتصاب الصادرة عن سيدتين لا صلة بينهما التي ضجت بها وسائل الإعلام الفرنسية تحاصر ماكرون وبورن والحكومة معاً. وخط الدفاع الوحيد الذي التزمته رئيسة الحكومة أن للقضاء الكلمة الفصل وإذا جرم القضاء الوزير المعني، عندها سيُتخذ قرار بحقه. إلا أن هذا الموقف الدفاعي لا يرضي الجمعيات النسائية والمدافعين عن حقوق المرأة الذين «لا يفهمون» التساهل مع وزير تدور حوله شبهات الاغتصاب، ما يعطي إشارة سلبية لمدى صدق ماكرون والحكومة في أن يكون الدفاع عن المرأة إحدى أولويات العهد الجديد.
أما المسألة الثانية فتتناول ردة الفعل العنيفة على تعيين باب نديا، وزيراً للتربية، وهو من أب سنغالي وأم فرنسية. ورغم مؤهلاته الشخصية والأكاديمية والعديد من الكتب التي أصدرها، فإن المأخذ الأول عليه أنه يساري ومن أنصار نظريات القراءة «العرقية» للتاريخ وللعلاقات بين الأشخاص وتحديداً من زاوية سيطرة العرق الأبيض على السود. ويعد الوزير الجديد من أشد المناهضين للتمييز العنصري ولكل تجلياته المجتمعية. وثمة من يؤكد أن تعيين هذا الوزير وهو أستاذ جامعي ومتخصص بالعلاقات بين البيض والسود في المجتمع الأميركي تم لأغراض انتخابية. والمعني بذلك أنه ببروز جبهة يسارية متراصة وجاهزة لخوض الانتخابات التشريعية، فإن ماكرون كان بحاجة إلى «إشارة» يرسلها لناخبي اليسار فيما تبين أن تعيين إليزابيث بورن التي عملت سابقاً مع رئيس حكومة ووزيرة يساريين لم يثر حماسة اليساريين ولذا كان ماكرون بحاجة لـ«رمز» من اليسار، وقد عثر عليه في شخص وزير التربية. وفيما كان الوزير السابق جان ميشال بلانكير من أشد المتحمسين للعلمانية والمدافعين عنها وأحياناً حتى المغالاة، فإن تساؤلات تدور حول الوقع الذي سيترتب على وزير له آراء مغايرة تماماً لتوجهات وزارة التربية والتعليم.
المقعد النيابي والوزارة
تواجه الحكومة الجديدة استحقاقاً انتخابياً رئيسياً. وقد أعلن قصر الإليزيه أن من سيخسر الانتخابات النيابية من الوزراء المرشحين وعلى رأسهم إليزابيث بورن سيتعين عليه الخروج من الوزارة. وهذه قاعدة غير مكتوبة وليس لها أساس قانوني، إلا أنها تحولت إلى عرف تقليدي منذ رئاسة نيكولا ساركوزي بين عامي 2007 و2012، لذا، فإن الحكومة تجد نفسها مقيدة بالانتخابات المقبلة، بحيث إن العمل الحقيقي لن ينطلق إلا بعد حصولها وبعد أن ترتسم صورة القوى السياسية في البرلمان المقبل. وبين استطلاع للرأي أجرته مؤسسة «إبسوس - سوبرا – ستيريا» ونشرت نتائجه صحيفة «لو موند» المستقلة أن ثلاث كتل سياسية سوف تستحوذ على 75 في المائة من أصوات الناخبين الشهر المقبل، وهي كتلة وسطية وكتلتان من اليمين المتطرف واليسار، الذي نجح رئيس حزب «فرنسا المتمردة» والمرشح الرئاسي جان لوك ميلونشون في استيلاده. وتتشكل الكتلة الوسطية من حزب ماكرون «الجمهورية إلى الأمام» واسمه الجديد «النهضة» ومن الأحزاب والمجموعات الرديفة، فيما يضم تجمع اليسار، إلى جانب حزب ميلونشون، الاشتراكيين والشيوعيين والخضر. والمجموعة الثالثة تقتصر على حزب «التجمع الوطني» الذي تقوده مرشحة اليمين المتطرف مارين لوبن التي خسرت الجولة الانتخابية الثانية بوجه ماكرون.
وبحسب الاستطلاع المشار إليه، فإن تجمع الوسط يمكن أن يحصل على 28 في المائة من الأصوات، يليه تجمع اليسار المقدر له الحصول على 27 في المائة، فيما اليمين المتطرف سيحصد ما نسبته 21 في المائة. وتتقاسم الأحزاب الأخرى يميناً ويساراً النسبة الضئيلة المتبقية بما فيها حزب «الجمهوريون» اليميني التقليدي الذي أعطى فرنسا، في السنوات الستين الماضية، خمسة رؤساء للجمهورية، أولهم الجنرال ديغول وآخرهم ساركوزي. وثمة مخاوف من أن ينجح تجمع اليسار الذي تبنى اسم «التحالف الجديد الاجتماعي والبيئوي» في تحقيق حلم ميلونشون الذي يريد عبر الانتخابات المقبلة الحصول على أكبر مجموعة برلمانية ليفرض على ماكرون تسميته رئيساً للحكومة.


مقالات ذات صلة

فرنسا تدين احتجاز إيران ناقلة نفط في مياه الخليج

شؤون إقليمية فرنسا تدين احتجاز إيران ناقلة نفط في مياه الخليج

فرنسا تدين احتجاز إيران ناقلة نفط في مياه الخليج

ندّدت فرنسا باحتجاز البحرية التابعة للحرس الثوري الإيراني ناقلة النفط «نيوفي» التي ترفع عَلَم بنما، في مضيق هرمز الاستراتيجي، وذلك صبيحة الثالث من مايو (أيار)، وفق المعلومات التي أذاعها الأسطول الخامس، التابع لـ«البحرية» الأميركية، وأكدها الادعاء الإيراني. وأعربت آن كلير لوجندر، الناطقة باسم «الخارجية» الفرنسية، في مؤتمرها الصحافي، أمس، أن فرنسا «تعرب عن قلقها العميق لقيام إيران باحتجاز ناقلة نفطية» في مياه الخليج، داعية طهران إلى «الإفراج عن الناقلات المحتجَزة لديها في أسرع وقت».

ميشال أبونجم (باريس)
العالم باريس «تأمل» بتحديد موعد قريب لزيارة وزير الخارجية الإيطالي

باريس «تأمل» بتحديد موعد قريب لزيارة وزير الخارجية الإيطالي

قالت وزارة الخارجية الفرنسية إنها تأمل في أن يُحدَّد موعد جديد لزيارة وزير الخارجية الإيطالي أنطونيو تاياني بعدما ألغيت بسبب تصريحات لوزير الداخلية الفرنسي حول سياسية الهجرة الإيطالية اعتُبرت «غير مقبولة». وكان من المقرر أن يعقد تاياني اجتماعا مع وزيرة الخارجية الفرنسية كاترين كولونا مساء اليوم الخميس. وكان وزير الداخلية الفرنسي جيرار دارمانان قد اعتبر أن رئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني «عاجزة عن حل مشاكل الهجرة» في بلادها. وكتب تاياني على «تويتر»: «لن أذهب إلى باريس للمشاركة في الاجتماع الذي كان مقررا مع الوزيرة كولونا»، مشيرا إلى أن «إهانات وزير الداخلية جيرالد دارمانان بحق الحكومة وإي

«الشرق الأوسط» (باريس)
طرد الطيور في مطار «أورلي الفرنسي»  بالألعاب النارية

طرد الطيور في مطار «أورلي الفرنسي» بالألعاب النارية

يستخدم فريق أساليب جديدة بينها الألعاب النارية ومجموعة أصوات لطرد الطيور من مطار أورلي الفرنسي لمنعها من التسبب بمشاكل وأعطال في الطائرات، حسب وكالة الصحافة الفرنسية. وتطلق كولين بليسي وهي تضع خوذة مانعة للضجيج ونظارات واقية وتحمل مسدساً، النار في الهواء، فيصدر صوت صفير ثم فرقعة، مما يؤدي إلى فرار الطيور الجارحة بعيداً عن المدرج. وتوضح "إنها ألعاب نارية. لم تُصنّع بهدف قتل الطيور بل لإحداث ضجيج" وإخافتها. وتعمل بليسي كطاردة للطيور، وهي مهنة غير معروفة كثيراً لكنّها ضرورية في المطارات.

«الشرق الأوسط» (لندن)
العالم فرنسا: المجلس الدستوري يصدر عصراً قراره بشأن قبول إجراء استفتاء على قانون العمل الجديد

فرنسا: المجلس الدستوري يصدر عصراً قراره بشأن قبول إجراء استفتاء على قانون العمل الجديد

تتجه الأنظار اليوم إلى فرنسا لمعرفة مصير طلب الموافقة على «الاستفتاء بمبادرة مشتركة» الذي تقدمت به مجموعة من نواب اليسار والخضر إلى المجلس الدستوري الذي سيصدر فتواه عصر اليوم. وثمة مخاوف من أن رفضه سيفضي إلى تجمعات ومظاهرات كما حصل لدى رفض طلب مماثل أواسط الشهر الماضي. وتداعت النقابات للتجمع أمام مقر المجلس الواقع وسط العاصمة وقريباً من مبنى الأوبرا نحو الخامسة بعد الظهر «مسلحين» بقرع الطناجر لإسماع رفضهم السير بقانون تعديل نظام التقاعد الجديد. ويتيح تعديل دستوري أُقرّ في العام 2008، في عهد الرئيس الأسبق نيكولا ساركوزي، طلب إجراء استفتاء صادر عن خمسة أعضاء مجلس النواب والشيوخ.

ميشال أبونجم (باريس)
«يوم العمال» يعيد الزخم لاحتجاجات فرنسا

«يوم العمال» يعيد الزخم لاحتجاجات فرنسا

عناصر أمن أمام محطة للدراجات في باريس اشتعلت فيها النيران خلال تجدد المظاهرات أمس. وأعادت مناسبة «يوم العمال» الزخم للاحتجاجات الرافضة إصلاح نظام التقاعد الذي أقرّه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون (أ.ف.ب)


2025... عام ملء الفراغات؟

الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)
الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)
TT

2025... عام ملء الفراغات؟

الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)
الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)

لا يوجد فراغ مسموح به في الطبيعة. فالطبيعة لا تغيّر طبيعتها، لأنها تكره الفراغ. في الفراغ لا حياة، لا صراع ولا تاريخ. فالتاريخ يتنقّل بين الفوضى والنظام. يُفرض النظام بالإكراه، فتوضع القوانين لتُفرض بالقوّة والإكراه أيضاً. هكذا كتب ألبير كامو، الفيلسوف الفرنسي في كتابه «الإنسان المتمرّد»، (The Rebel): «في النظام، كما في الفوضى، هناك شيء من العبوديّة». تستهدف الثورة النظام القائم، فتخلق الفوضى. لكنها مُلزمة بإعادة تكوين نظام جديد. وبين الفوضى والنظام، يدفع الإنسان العاديّ الأثمان.

يقول السياسيّ الراحل هنري كيسنجر ما معناه: إن الفراغ يجلب الحرب والهجوم. فهل سيكون عام 2025 عام ملء الفراغات، أو خلق بعضها؟

دخان يتصاعد من شمال قطاع غزة خلال قصف الجيش الإسرائيلي (أرشيفية - أ.ف.ب)

بعد عملية 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023، تغيّرت موازين القوى في المنطقة. سقطت «حماس». سقط «حزب الله». سقط النظام في سوريا... وبذلك انهارت وحدة الساحات، أو ما يُسمّى محور المقاومة. وبسبب ذلك، سقطت منظومات كانت قائمة. وتظهّرت الفراغات القاتلة. ها هي إسرائيل تدمّر قطاع غزّة، لتخلق فراغاً لا توجد فيه حركة «حماس»، ولتؤسّس لحالة معيّنة قد يُطلَق عليها «الاحتلال التغييريّ»، (Transformative). بكلام آخر، فُرض الاحتلال أمراً واقعاً خارج القانون الدوليّ، لكنه طويل، ومُكلف للمُحتلّ، الأمر الذي قد يخلق ثقافة جديدة، ومختلفة عما كانت قبلها، حتى ولو تطلّب الأمر جيلاً من الزمن.

دخلت إسرائيل لبنان خلال الحرب الأخيرة، فخلقت منطقة عازلة. وها هي اليوم تُحصّنها استباقاً للسيناريو السيّئ. خلقت إسرائيل هذا الفراغ على الحدود اللبنانيّة، كما في داخل قطاع غزّة بالقوّة العسكريّة المُفرطة. لكن البقاء في لبنان واحتلال المنطقة العازلة، هو أمر مختلف تماماً عن احتلال قطاع غزّة.

بعد سقوط النظام في سوريا، سارعت إسرائيل إلى احتلال مزيد من الأراضي السوريّة وتوسيع المنطقة العازلة. لكنه احتلال من دون استعمال للقوّة، حتى ولو دمّر الطيران الإسرائيليّ قدرات الجيش السوريّ المستقبليّ. إنه احتلال مؤقّت-طويل. لكن المفارقة هي إعلان إسرائيل أن الجولان لن يعود إلى سوريا، وهو احتلال كأمر واقع (De Facto). ولتحرير الجولان، لا بد من حرب أو تفاوض، وهذان أمران متعذّرَان حالياً لأسباب كثيرة. وعليه قد يمكن حالياً إعلان وفاة مقولة كسينجر: «لا حرب في الشرق الأوسط من دون مصر، ولا سلام من دون سوريا».

صورة نشرها الجيش الإسرائيلي وقال إنها لجولة رئيس الأركان هرتسي هاليفي الميدانية في جنوب لبنان (أرشيفية)

حال العالم

في أوكرانيا يستعين الرئيس بوتين في حربه بالتكنولوجيا الغربيّة لتصميم صواريخه، آخرها الصاروخ الفرط صوتيّ «أوريشنيك». كما يستعين بالمُسيّرات الإيرانيّة، والعسكر الكوري الشمالي لتحرير الأرض الروسية في كورسك. يريد بوتين الاحتلال التغييري للشرق الأوكرانيّ.

في منطقة نفوذ الصين، يسعى التنين إلى استرداد جزيرة تايوان على أنها جزء تاريخيّ من الصين الكبرى. فهي تحضّر البحريّة الصينيّة، كون الحرب، وفي حال حصولها، سيكون أغلبها في البحر. ورداً على ذلك، بدأ تشكُّل كثير من التحالفات ردّاً على السلوك الصينيّ.

وفي مكان آخر من العالم، يُحضّر الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب مأسسة الصراع مع التنين الصينيّ. فهو يريد استعادة السيطرة على قناة بنما، نظراً إلى أهمية هذه القناة على الأمن القومي الأميركيّ. فهي الشريان الحيويّ الذي يربط الشرق الأميركي بالغرب. وهي التي أوصى بها المفكّر الاستراتيجيّ الأميركي البحريّ ألفريد ماهان. وهي التي أشرفت على بنائها الولايات المتحدة الأميركيّة، وذلك بعد انفصال بنما عن كولومبيا وبمساعدة البحريّة الأميركيّة آنذاك، خلال فترة حكم الرئيس الأميركي الراحل تيودور روزفلت. وبذلك، تكون القناة قد مرّت بثلاث مراحل هي: 1906 البناء مع الرئيس روزفلت، و1977 مع الرئيس جيمي كارتر الذي أعادها إلى بنما، واليوم مع الرئيس ترمب الذي يريد استردادها.

صور الرئيس الأسبق حافظ الأسد ممزقة للمرة الأولى في تاريخ سوريا (الشرق الأوسط)

يرى البعض أن تصريحات الرئيس ترمب مجرّد كلام عاديّ بسبب شخصيّته الفريدة. لكن الأكيد أن تصريحاته تنمّ عن عمق جيوسياسيّ بعيد المدى. فما معنى طرحه موضوع شراء جزيرة غرينلاند من الدنمارك؟ ما أهميّة هذه الجزيرة؟

إن ثقافة دبلوماسيّة الدولار (Dollar Diplomacy) في التاريخ الأميركي ليست جديدة. فهي قد اشترت لويزيانا من فرنسا عام 1803 بـ15 مليون دولار. كما اشترت من روسيا ولاية ألاسكا الحاليّة بـ7.2 مليون دولار.

شكّلت لويزيانا الربط بين الشرق والغرب الأميركيّ، كما سيطرت على أهمّ مرفأ أميركيّ يطلّ على خليج المكسيك. وبالحدّ الأدنى أخرجت دولة أوروبيّة من الأرض الأميركيّة. أما شراء ألاسكا، فقد أعطى أميركا إطلالة على مضيق بيرينغ الذي يطلّ بدوره على الأرض الروسيّة.

التحّولات الجيوسياسيّة الحاليّ

مع صعود الصين، تبدّلت موازين القوى العالميّة عمَّا كانت عليه خلال الحرب الباردة. فللصين قدرات كونيّة وفي كل الأبعاد، خصوصاً الاقتصاديّة والعسكريّة، وهذه أبعاد افتقر إليها الاتحاد السوفياتيّ. تسعى الصين إلى التموضع في القارة الأميركيّة. يُضاف إلى هذا التحوّل، الكارثة البيئيّة والاحتباس الحراري، الأمر الذي قد يفتح طرقاً بحريّة جديدة، حول الشمال الأميركيّ. خصوصاً أن ذوبان المحيط المتجّمد الشمالي سوف يُغيّر جغرافيّة الصراع الجيوسياسيّ بالكامل. ونتيجة لذلك، ستصبح الولايات المتحدة الأميركيّة تطلّ على ثلاثة محيطات بعد أن كانت تطلّ على محيطين.

وحدة مدفعية أوكرانية في منطقة زابوريجيا تطلق النار باتجاه القوات الروسية على خط المواجهة (أرشيفية - رويترز)

تتميّز غرينلاند بمساحتها الكبيرة، نحو مليوني كيلومتر مربع، مع عديد لا يتجاوز 56 ألف نسمة، وثروات مهمّة قد تجعل أميركا تستغني عن استيراد كثير من الثروات الطبيعيّة من الصين. خلال الحرب الباردة حاول الرئيس هاري ترومان شراء الجزيرة، وهي لا تزال تضمّ قاعدة عسكريّة جويّة أميركيّة.

في الختام، إذا استطاع الرئيس ترمب استعادة السيطرة على قناة بنما، وسيطر بشكل ما على غرينلاند، سيتكوّن مثلثّ جيوسياسيّ دفاعيّ حول الولايات المتحدة الأميركيّة يرتكز على: غرينلاند، وألاسكا، وقناة بنما. كل ذلك، بانتظار الرئيس ترمب في البيت الأبيض، وكيف سيتعامل مع العالم خصوصاً الصين. فهل سيكون انعزاليّاً أم انخراطيّاً أم مزيجاً من المقاربتين؟