جاك لانغ لـ«الشرق الأوسط»: السعودية تشهد ثورة ثقافية لا سابق لها

رئيس «معهد العالم العربي» يقول إن العمل مع ميتران كان فرصة عمره

جان لانغ (غيتي)
جان لانغ (غيتي)
TT

جاك لانغ لـ«الشرق الأوسط»: السعودية تشهد ثورة ثقافية لا سابق لها

جان لانغ (غيتي)
جان لانغ (غيتي)

يعتبر جاك لانغ من أهم شخصيات المشهد الثقافي الفرنسي، شغل منصب وزير الثقافة من 1981 إلى 1986، ثم من 1988 إلى 1993، وتولى في الفترة نفسها أيضاً منصب وزير التربية والتعليم من 1992 إلى 1993، ثم من 2000 إلى 2002. ساهم في إثراء المشهد الثقافي بتأسيسه لعدد كبير من المشروعات الثقافية الضخمة كمتحف «لوفر»، و«المكتبة الوطنية»، و«معهد العالم العربي»، كما نظم مهرجانات وفعاليات ثقافية وفنية متميزة في فرنسا وخارجها، حتى جرى الحديث عن تيار «لانغيسم» الذي يضع المثقف في قلب الثورة الثقافية. منذ 2013 يشغل جاك لانغ منصب رئيس «معهد العالم العربي».
استقبلنا في مكتبه في باريس، وكان الحوار التالي:

> في الفترة التي توليتم فيها مهامكم الوزارية، كان هناك اهتمام شديد بدعم الثقافة وتمويل المشروعات الكبيرة، لماذا هذا الاهتمام؟ وهل تغيرت الأوضاع؟
- بالنسبة إلى الاهتمام بالثقافة فهو من البديهيات، وقد يكون العكس هو ما يثير الاستغراب. لدينا أدلة كثيرة على أن المشروعات الثقافية عادت بالنفع على المجتمعات، وأنا لا أتحدث هنا على الجانب المادي فحسب؛ بل على الكمّ الهائل من السعادة والجمال والإشعاع الفكري الذي تحظى به المجتمعات التي تهتم بمؤسساتها الثقافية. تجاهل الثقافة أو الاقتطاع من ميزانيتها ليس فقط إجراء ضّد الجمال والصالح العام؛ بل أيضاً ضد المستقبل، ولن أبالغ حين أقول بأنه بمثابة «الفعل الإجرامي». على سبيل المثال ما تم تحقيقه من إنجازات في فترة حكم الرئيس الراحل فرنسوا ميتران عاد بمنفعة كبيرة على فرنسا، من حيث الإشعاع الفكري والمساهمة في الحفاظ على التراث العالمي، إلى الريادة في مجال الفنون والثقافة، حتى أصبحنا نتميز بما يسمى «الاستثناء الثقافي». وهو التحدي نفسه الذي قررت دول الخليج مواجهته، وهي الآن تجني ثماره. أتذكر كيف أن افتتاح فرع لمتحف «لوفر» في أبوظبي كان محل هجوم كبير هنا في فرنسا، حتى أني قررت الدفاع عن مشروع الشيخ زايد الطموح والرائع، عبر صفحات جريدة «ليبراسيون»، وها نحن نشهد اليوم نجاح هذا المشروع الذي يثير المفخرة.
> خلَّفت جائحة «كورونا» التي مر بها العالم أضراراً فادحة، لا سيما في قطاع الثقافة. لمواجهة الأزمة عرضهم على الرئيس ماكرون في رسالة مفتوحة إنشاء «صفقة جديدة» أو «نيو ديل» لإنعاش القطاع الثقافي، وبعث الحيوية في مؤسساته... ما الذي حدث بعد ذلك؟
- كتبت للرئيس إيمانويل ماكرون؛ لأننا كنا في وضعية صعبة، القلق ومشاعر الضياع والحسرة انتابت رجال ونساء الثقافة والفن. كثير منهم أصبح ينظر للمستقبل بتشاؤم شديد. القطاع كله أصيب بالاختناق، وهو ما انعكس بالسلب على القطاع الاقتصادي، بما أن وزن الصناعة الثقافية فيها مهم. كتبت له قائلاً: «يجب أن نتحرك، فلنُحول هذه الأزمة إلى فرصة لتغيير الأوضاع». واستشهدت بمثال برنامج «الصفقة الجديدة» الذي عرفته الولايات المتحدة في السنوات الثلاثين، في فترة حكم الرئيس روزفلت، والذي جاء بعد فترة كساد كبيرة. وما يجهله البعض هو أن برنامج إغاثة الاقتصاد قد تزامن آنذاك مع برنامج لإغاثة الثقافة، ولأول مرة في تاريخ الولايات المتحدة كانت هناك إجراءات قوية لدعم هذا المجال؛ حيث تّم تشجيع ودعم المسارح والمتاحف ودور العرض والفنانين التشكيلين والكُتَّاب، وكانت تلك الإجراءات بمثابة البذور التي أسّست لفترة الانتعاش الكبيرة التي عرفتها الولايات المتحدة في حقبة الخمسينات والستينات؛ لا سيما مدينة نيويورك التي أصبحت قِبلة فنية وفكرية مهمة. وعلى هذا الأساس قدمتُ هذا الاقتراح كدعوة للاستلهام من هذه التجارب التاريخية الناجحة؛ لأن الأفكار الجيّدة هي التي تولد من رحم الأزمات.
> قد نجتاز أضرار الأزمة الصحّية، ولكن ماذا نفعل لمواجهة عمالقة كـ«أمازون» الذي يبتلع الناشرين وأصحاب المكتبات، أو منصات البثّ التدفقي التي تُضعف قطاع السينما والمسرح أكثر فأكثر؟
- أولاً علينا التوقف عن البكاء والارتعاش كالورقة. تجب مواجهة عمالقة الشبكة بشجاعة إذا كنا نريد فعلاً إنقاذ الكتاب والسينما، يجب أن نتحرك لإيجاد حلول. وأول شيء يجب عمله هو تكثيف حضور كل أشكال الفنون والثقافة في المدارس. علينا إدراجها في مقررات المناهج وبصفة دائمة، كما نفعل مع اللغة والرياضيات، إذا كنا نريد إمداد أطفالنا بالسلاح الكافي لمقاومة الرداءة الرقمية التي يتعرضون لها يومياً عبر وسائل التواصل. علينا زرع بذور التحفيز وخلق الرغبة والحماس في وقت مبكر. هناك محو الأمية بمعنى التعلم، وهناك ما أسميه «محو الأمية الثقافية»، وهو ما يجب دعمه بقوة. علينا أيضاً تشجيع جميع المبادرات التي تُظهر مقاومة في وجه عمالقة الشبكة. هي حالياً قليلة لكنها واعدة وتستحق الدعم والتشجيع. في العالم العربي –مثلاً- هناك منصّة «أفلامين» للمخرج المغربي الشاب نبيل عيوش، ونماذج أخرى في تركيا، وكلها تقاوم هيمنة الإنتاجات الأميركية الضخمة.
> في كتاب «الثورة الثقافية، أقوال وكتابات» الذي يُدوِّن لمشواركم الحافل بالإنجازات على رأس وزارة الثقافة، نشرتم نماذج للرسائل التي تم تبادلها مع الرئيس الراحل فرنسوا ميتران، فماذا كانت طبيعة العلاقة التي جمعتكم بالرئيس الراحل ميتران؟
- العمل مع الرئيس ميتران كان فرصة عمري (ابتسامة كبيرة) إلى درجة أني أتساءل أحياناً إذا كان حلماً سأستيقظ منه! تقاطعت سبلنا حين قدم الرئيس ميتران لزيارة مهرجان المسرح الذي كنت مسؤولاً عنه في مدينة نانسي، وأظهر اهتماماً بنشاطاتي لدعم الثقافة، وحين رشح نفسه للانتخابات طلب مني الانضمام لفريقه ومساندته. كان للرئيس ميتران كاريزما وحضور قوي، تعامل مع الجميع بإنسانية، وكان يتميز بثقافة واسعة. علاقتنا كانت قوية ومبنية على الاحترام المتبادل؛ حيث كانت رؤيتنا وفلسفتنا لتأسيس مشهد ثقافي حيوي واحدة، هذا لا يعني أننا لم نختلف في الرأي، فملف خصخصة القطاع السمعي البصري كان مثلاً موضع اختلاف بيننا؛ لكنه منحني ثقته وصداقته طيلة فترة عملنا معاً؛ بل ومحبته أيضاً.
> في كتاب «اللغة العربية، كنز لفرنسا» تحدثتم عن تعليم اللغة العربية في فرنسا، فما تقييمكم للوضع الحالي؟
- اللغة العربية هي خامس أكبر لغة انتشاراً في العالم. ورغم حضورها القوي في فرنسا من خلال العلاقات الوطيدة مع العالم العربي وأجيال الهجرة، فإن تعليم هذه اللغة لا يزال ضعيفاً: تلميذ من بين ألف يتعلم العربية في المرحلة الابتدائية، و2 من ألف يتعلمانها في المرحلة المتوسطة، هذا رغم أن الطلب عليها في ازدياد مستمر. السبب يعود للجدل الذي يحيط بهذا الموضوع، والذي توظفه بعض الأطراف السياسية لتشويه صورة هذه اللغة الجميلة. حين كنت وزيراً حرصت على تكثيف حضورها في المدارس، وأنشأت مسابقة لشهادة التبريز في اللغة العربية لتوظيف أساتذة، كما أن معهد العالم العربي يقترح شهادة «سيما» التي تعتبر شهادة عالمية في إتقان اللغة العربية، وهي معترف بها في كل أنحاء العالم. وأول شيء أنوي القيام به بعد تعيين وزير التربية الجديد، دعوته لمناقشة سبل تطوير تعليم اللغة العربية في المدارس الفرنسية.
> ما رأيكم في المشهد الثقافي السعودي حالياً؟
- أنا معجب جداً بكل ما تشهده المملكة السعودية من تغييرات في السنوات الأخيرة. شخصياً أعتبرها ثورة ثقافية وفكرية واجتماعية لا سابق لها، وأجد أن أصدقاءنا السعوديين متواضعون إزاء ما حُقق في بلدهم من إنجازات، سواء في مجال المسرح، والسينما، والموسيقى، وحماية التراث، والأدب، أو دعم اللغة العربية. هي خطوات عملاقة لحظتها بأم عيني؛ ليس فقط في المدن الكبرى كالرياض وجدة؛ بل أيضاً في المدن الأخرى.
> وأنتم على رأس «معهد العالم العربي» منذ 2013، هل هناك مشروع كبير تحلمون بإنجازه؟
- هناك مشروعات كثيرة أود إنجازها قبل انتهاء مهامي على رأس المعهد، أهمها معرض كبير حول أثر الحضارة العربية في جنوب أوروبا، في الأندلس ولشبونة وصقلية، عبر التراث المعماري واللغة والفنون، وكل ما من شأنه إظهار عظمة الحضارة العربية وامتدادها في العالم. هو مشروع طموح؛ لكنه يتطلب تنظيماً وتمويلاً مهمين. أتمنى أيضاً تنظيم معرض تكريمي لعميد الفن التشكيلي، الفنان الجزائري المبدع عبد القادر الهوامل. من مشروعاتنا المستقبلية أيضاً تصدير «معهد العالم العربي» في كافة أنحاء العالم، فكرنا في مدينة نيويورك كوجهة أولى، ولكن أيضاً في بلد عربي، الفكرة مطروحة ومعروضة للنقاش، وقد بدأنا فعلاً في التحادث مع مسؤولين لتفعيل هذا المشروع الكبير.


مقالات ذات صلة

«تيك توك» أكثر جدوى من دور النشر في تشجيع الشباب على القراءة

يوميات الشرق «تيك توك» أكثر جدوى من دور النشر  في تشجيع الشباب على القراءة

«تيك توك» أكثر جدوى من دور النشر في تشجيع الشباب على القراءة

كشفت تقارير وأرقام صدرت في الآونة الأخيرة إسهام تطبيق «تيك توك» في إعادة فئات الشباب للقراءة، عبر ترويجه للكتب أكثر من دون النشر. فقد نشرت مؤثرة شابة، مثلاً، مقاطع لها من رواية «أغنية أخيل»، حصدت أكثر من 20 مليون مشاهدة، وزادت مبيعاتها 9 أضعاف في أميركا و6 أضعاف في فرنسا. وأظهر منظمو معرض الكتاب الذي أُقيم في باريس أواخر أبريل (نيسان) الماضي، أن من بين مائة ألف شخص زاروا أروقة معرض الكتاب، كان 50 ألفاً من الشباب دون الخامسة والعشرين.

أنيسة مخالدي (باريس)
يوميات الشرق «تيك توك» يقلب موازين النشر... ويعيد الشباب إلى القراءة

«تيك توك» يقلب موازين النشر... ويعيد الشباب إلى القراءة

كل التقارير التي صدرت في الآونة الأخيرة أكدت هذا التوجه: هناك أزمة قراءة حقيقية عند الشباب، باستثناء الكتب التي تدخل ضمن المقرّرات الدراسية، وحتى هذه لم تعد تثير اهتمام شبابنا اليوم، وهي ليست ظاهرة محلية أو إقليمية فحسب، بل عالمية تطال كل مجتمعات العالم. في فرنسا مثلاً دراسة حديثة لمعهد «إبسوس» كشفت أن شاباً من بين خمسة لا يقرأ إطلاقاً. لتفسير هذه الأزمة وُجّهت أصابع الاتهام لجهات عدة، أهمها شبكات التواصل والكم الهائل من المضامين التي خلقت لدى هذه الفئة حالةً من اللهو والتكاسل.

أنيسة مخالدي (باريس)
يوميات الشرق آنية جزيرة تاروت ونقوشها الغرائبية

آنية جزيرة تاروت ونقوشها الغرائبية

من جزيرة تاروت، خرج كم هائل من الآنية الأثرية، منها مجموعة كبيرة صنعت من مادة الكلوريت، أي الحجر الصابوني الداكن.

يوميات الشرق خليل الشيخ: وجوه ثلاثة لعاصمة النور عند الكتاب العرب

خليل الشيخ: وجوه ثلاثة لعاصمة النور عند الكتاب العرب

صدور كتاب مثل «باريس في الأدب العربي الحديث» عن «مركز أبوظبي للغة العربية»، له أهمية كبيرة في توثيق تاريخ استقبال العاصمة الفرنسية نخبةً من الكتّاب والأدباء والفنانين العرب من خلال تركيز مؤلف الكتاب د. خليل الشيخ على هذا التوثيق لوجودهم في العاصمة الفرنسية، وانعكاسات ذلك على نتاجاتهم. والمؤلف باحث وناقد ومترجم، حصل على الدكتوراه في الدراسات النقدية المقارنة من جامعة بون في ألمانيا عام 1986، عمل أستاذاً في قسم اللغة العربية وآدابها في جامعة اليرموك وجامعات أخرى. وهو يتولى الآن إدارة التعليم وبحوث اللغة العربية في «مركز أبوظبي للغة العربية». أصدر ما يزيد على 30 دراسة محكمة.

يوميات الشرق عمارة القاهرة... قصة المجد والغدر

عمارة القاهرة... قصة المجد والغدر

على مدار العقود الثلاثة الأخيرة حافظ الاستثمار العقاري في القاهرة على قوته دون أن يتأثر بأي أحداث سياسية أو اضطرابات، كما شهد في السنوات الأخيرة تسارعاً لم تشهده القاهرة في تاريخها، لا يوازيه سوى حجم التخلي عن التقاليد المعمارية للمدينة العريقة. ووسط هذا المناخ تحاول قلة من الباحثين التذكير بتراث المدينة وتقاليدها المعمارية، من هؤلاء الدكتور محمد الشاهد، الذي يمكن وصفه بـ«الناشط المعماري والعمراني»، حيث أسس موقع «مشاهد القاهرة»، الذي يقدم من خلاله ملاحظاته على عمارة المدينة وحالتها المعمارية.

عزت القمحاوي

«تخريب رهيب» للفيل البرتقالي الضخم و«الآيس كريم» بإنجلترا

المَعْلم الشهير كان يميّز الطريق (مواقع التواصل)
المَعْلم الشهير كان يميّز الطريق (مواقع التواصل)
TT

«تخريب رهيب» للفيل البرتقالي الضخم و«الآيس كريم» بإنجلترا

المَعْلم الشهير كان يميّز الطريق (مواقع التواصل)
المَعْلم الشهير كان يميّز الطريق (مواقع التواصل)

أُزيل فيل برتقالي ضخم كان مثبتاً على جانب طريق رئيسي بمقاطعة ديفون بجنوب غرب إنجلترا، بعد تخريبه، وفق ما نقلت «بي بي سي» عن مالكي المَعْلم الشهير الذي كان يميّز هذا الطريق.

والفيل البرتقالي، الذي كان مثبتاً في حقل على جانب طريق «إيه 38» قرب قرية كينفورد القريبة من مدينة إكستر، قد رمّمته عائلة تافرنر التي تملكه في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي.

ورُشَّت كلمتا «لا للقمامة» عليه، ويُعتقد أنّ ذلك كان رداً على خطط مثيرة للجدل لإنشاء موقع مكبّ نفايات مؤقت على الأرض المملوكة للعائلة.

المعلم يخضع لعملية ترميم بعد التخريب (مواقع التواصل)

يُعدُّ اقتراح إنشاء موقع مكبّ للنفايات جزءاً من طلب تخطيط مُقدَّم من شركة «بي تي جنكنز» المحلّية، ولم يتّخذ مجلس مقاطعة ديفون قراراً بشأنه بعد.

بدورها، قالت الشرطة إنه لا شكوك يمكن التحقيق فيها حالياً، ولكن إذا ظهرت أدلة جديدة على وجود صلة بين الحادث ومقترح إنشاء مكبّ للنفايات، فقد يُعاد النظر في القضية.

أما المالكة والمديرة وصانعة «الآيس كريم» بشركة «آيس كريم الفيل البرتقالي» هيلين تافرنر، فعلَّقت: «يخضع الفيل لعملية ترميم بعد التخريب الرهيب الذي تعرَّض له»، وأضافت: «ندرك أنّ ثمة اختلافاً في الآراء حول الخطط، ونرحّب بالمناقشات العقلانية، لكنْ هذه ليست المرّة الأولى التي نضطر فيها إلى مُطالبة الشرطة بالتدخُّل».

وتابعت: «نطالب الجميع بالاستفادة من هذه اللحظة، فنتفق على إجراء هذه المناقشة بحكمة واحترام متبادَل».