في أواخر عام 1922 ظهر في مصر فيلم روائي قصير بعنوان «برسوم يبحث عن وظيفة»، يتناول معاناة المواطن المصري، مسلماً كان أم قبطياً، على يد قلم البوليس السياسي الخاضع لنفوذ الاحتلال البريطاني المهيمن على البلاد. كان الفيلم حدثاً فارقاً في تاريخ السينما المصرية، فهو أول عمل متكامل يقوم مصري بتصويره وإخراجه، هو محمد بيومي.
المخرج السينمائي الدكتور محمد كامل القليوبي يضيء أبعاد هذا الحدث، ويوثق له في كتابه «أوراق محمد بيومي» الصادر عن «الهيئة المصرية العامة للكتاب»، وذلك عبر عديد من الأوراق والرسائل الخاصة بالرجل، والتي تنشر لأول مرة بعد ستين عاماً على رحيله في 1962؛ مؤكداً أننا أمام ظاهرة من نوع غريب، فقد كان بيومي رائد السينما المصرية الأول، عبر إسهامه الحاسم في عديد من الأفلام؛ فضلاً عن تأسيسه البنية التحتية لهذا الفن الوليد، عبر المعاهد والصحافة المتخصصة، ومع ذلك «عاش الرجل يعاني من التهميش، ومات ولا يوجد من سمع به إلا فيما ندر!».
سافر بيومي إلى ألمانيا لدراسة التصوير الملون والسينما، وعمل ممثلاً للأدوار الثانوية في شركة «جلوريا فيلم»؛ كما عمل وراء الكاميرا مساعد مصور، وتعرف إلى المصور الألماني «بارنجر» الذي ساعده في شراء المعدات الأساسية اللازمة لتأسيس استوديو سينمائي صغير في مصر، ليعود بيومي عام 1922 ويؤسس أول استوديو سينمائي يقوم مصري بإنشائه باسم «آمون فيلم». كانت خطوته الأولى على درب الفن السابع تتمثل في تصوير عودة الزعيم سعد زغلول من منفاه الثاني بجزيرة سيشل، واستقباله في القاهرة، وهو الحدث الذي كان مادة العدد الأول من جريدة «آمون» السينمائية التي أصدرها محمد بيومي، وكانت أول جريدة سينمائية مصرية.
في مطلع عام 1925 التقى محمد بيومي الاقتصادي الكبير طلعت حرب، وعرض عليه تصوير فيلم عن إنشاء المبنى الجديد لـ«بنك مصر» الذي أسسه حرب ليكون نواة لاقتصاد وطني مستقل، وأقنعه بتأسيس قسم للسينما يتبع إعلانات مصر باسم «مصر فيلم». اشترى البنك المعدات السينمائية الخاصة بمحمد بيومي بمبلغ 244 جنيهاً و915 مليماً، باعتبارها آلات مستعملة، ووافق بيومي على ذلك رغم تقديره لثمن المعدات بحوالي 4 آلاف جنيه؛ لأنه كان يرى أن نجاح مشروع السينما في إطار «بنك مصر» سيضع الأساس لصناعة سينما حقيقية سيجد لنفسه موقعاً فيها. وفي العام نفسه قام «بنك مصر» بتأسيس شركة «مصر للتمثيل والسينما»، وعين محمد بيومي مديراً لها.
يرصد المؤلف 18 فيلماً، ما بين تسجيلي وروائي مختلفة الأحجام، مثل «ليلة في العمر»، و«الباشكاتب»، و«افتتاح مقبرة توت عنخ آمون»، توثق لتجربة بيومي الرائدة؛ حيث يرى أنه لم يأخذ حقه من التقدير. ورغم أن بعض تلك الأعمال مفقود أو لم يكتمل، فإن ما عثر عليه المؤلف يلقي الضوء على جانب خفي في تاريخ السينما المصرية.
ويكشف القليوبي عن تعرض أصول مذكرات محمد بيومي للسرقة، ويروي أن المخرج والمؤرخ السينمائي الراحل أحمد كامل مرسي، كان قد توصل لعائلة بيومي، وحصل من ابنته السيدة دولت محمد بيومي على أصول المذكرات، على أمل أن يؤلف كتاباً عن «الرائد المجهول»؛ لكنه توفي ولم يسعفه الوقت لإنجاز هذا العمل. بعد وفاته قامت وزارة الثقافة بشراء مكتبته، وبعد فحص أوراقه وكتبه، وجد الناقد والمؤرخ السينمائي الراحل أحمد الحضري أوراق ومذكرات محمد بيومي في صندوق بمنزل مرسي، فكتب على الصندوق كي يميزه عن غيره من الصناديق التي تحتوي على عدد من الأوراق، عبارة «مهم جداً»، وعند تسلُّم الكتب والأوراق لم يعثروا على هذا الصندوق الذي امتدت إليه يد خفية واستولت عليه.
وعندما التقى المؤلف السيدة دولت محمد بيومي والأسرة، وجد نفسه غارقاً بين أوراق كثيرة وصور فوتوغرافية ولوحات فنية، وانهمك في بحث متواصل استغرق ثلاثة أعوام كاملة «1988- 1991»، توج بالعثور على الأفلام المصرية الأولى، وهي أفلام محمد بيومي، وترميمها، وهو العمل الذي قامت بتمويله «أكاديمية الفنون»، برعاية مباشرة من رئيسها في ذلك الوقت الدكتور فوزي فهمي. وفحص وترتيب هذه الأعمال وتصنيفها، وهو العمل الذي شاركت فيه أستاذة المونتاج والمونتيرة رحمة منتصر.
ولحسن الحظ عثر القليوبي على نسخ كربونية من مذكراته المسروقة، وأسرع بإعلان ذلك حتى يفوت على اللص الذي قام بسرقتها فرصة المتاجرة بها أو استخدامها.
تشكل المذكرات التي كتبها محمد بيومي عن طفولته في حد ذاتها نصاً جميلاً من نصوص السيرة الذاتية، وتصف لنا نموذجاً لأسرة أبوية في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، والقمع المنزلي الذي تمارسه على أبنائها. ويروي محمد بيومي كيف كان أبوه شديد القسوة، قائلاً: «كان -رحمه الله- قاسياً، وتجلت قسوته في معاملته لنا؛ إذ كان يتصور أنها الطريقة المثلى للتربية التي ترضي رغبته، ولم يفكر مطلقاً أننا أطفال؛ بل كان ينتظر منا أن نكون أنبياء، لا نلهو ولا نخطئ، ولم أذكر أنه قبَّلني مرة، أو ابتسم في وجهي، أو داعبني كما يفعل بقية الآباء مع أبنائهم، ولا أذكر إلا العصا التي كانت تلهب جسدي وقدمي فتدميها، لأقل هفوة، ولأتفه سبب، وكان هذا هو الحب الأبوي كما فهمه رحمه الله».
وورد حديث بيومي المقتضب عن علاقته بالسينما في مقدمة ديوانه «الجندي المجهول»، الصادر عام 1946، وهو الكتيب الوحيد الذي قام بيومي بنشره، ويقع في أربعين صفحة من القطع الصغير. بالإضافة إلى ذلك لم يكتب بيومي عن السينما سوى مقالين، أحدهما بعنوان «السينما جهاد صادق»، والآخر بعنوان «نبذة عن تاريخ طلعت حرب». ولم ينشر سوى مقال واحد يحمل توقيعه في حياته، هو مقال «صوت من الماضي» بمجلة «الكواكب» الشهرية، في عددها الصادر في 25 فبراير (شباط) 1951، وتطرق فيه إلى ملابسات دراسته للسينما في ألمانيا.
ومن المثير للانتباه أن محمد بيومي قد تسبب بمقاله هذا في إحداث التباس كبير، فهو يذكر في سياق المقال أنه قد شرع في إخراج فيلم كوميدي بعنوان «المعلم برسوم يبحث عن وظيفة» وأن ابنه الذي أسند إليه بطولة هذا الفيلم قد توفي في أثناء تصويره، ما سبَّب صدمة عنيفة في نفسه، وتوقف عن العمل في الفيلم. ويوضح المؤلف أن الفيلم بعد العثور عليه ومشاهدته يحمل عنوان «برسوم يبحث عن وظيفة» وليس كما ذكر بيومي، كما أن الفيلم وجد كاملاً، وتبين أن ابن محمد بيومي لم يظهر في أي لقطة من العمل. وكذلك لا يذكر بيومي شيئاً عن أفلامه، وخصوصاً فيلمه الروائي الطويل «الخطيب نمرة 13» الذي عرض 1933.
يقع الكتاب في 119 صفحة من القطع الكبير، ورغم الجهد المبذول فيه فإن أسلوبه غلب عليه تقريرية جافة، اهتمت برصد الحقائق دون نظرة تحليلية، وربطها بدراما حياة الرجل. كما اتسمت بعض الوثائق المنشورة بسوء الطباعة، وأصبحت أقرب إلى كتلة من السواد. لكن تبقى للكتاب أهمية فائقة في التعريف بهذا الرائد، وتسليط الضوء على صفحة مجهولة من تاريخ السينما في مصر.
محمد بيومي... قسوة الطفولة والنسيان
القليوبي يصدر مذكرات رائد السينما المصرية بعد 60 عاماً على رحيله
محمد بيومي... قسوة الطفولة والنسيان
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة