هاني نديم: لست راضياً عن أكثر من نصف شعري المنشور

الشاعر السوري يطارد مونيكا بيلوتشي بحثاً عن عشبة الخلود

هاني نديم
هاني نديم
TT

هاني نديم: لست راضياً عن أكثر من نصف شعري المنشور

هاني نديم
هاني نديم

تنفتح القصيدة عند الشاعر السوري هاني نديم على مناخات الطفولة، وتتردد فيها أصداء الصمت والتأمل وذكريات اللعب مع الذئاب وهي تشتبك «مع كلاب الرعاة». وعمل نديم منذ التسعينات في الصحافة المكتوب والمرئية، وفي صنع «الإعلانات الخفيفة المضحكة»، حسب تعبيره، والأفلام الوثائقية المحكمة لصالح منصات وقنوات معروفة، فهذا مصدر رزقه. من دواوينه «نحات الريح»، و«كونشرتو الذئب»، و«متحف الوحشة»، و«كرامات الأشقياء». هنا حوار معه حول أعماله وهموم الكتابة.
> نشأتك في «النبك»، كيف ساهمت تلك البلدة ذات الخصوصية المكانية في رسم ملامح قصيدتك؟
- يقول ابن خلدون، فيما معناه: «إن المحلّة التي ليس لها مدوّن خراب»، منذ طفولتي وأنا مشغول بأدب الأماكن، أقرأ عن باريس بأقلام من زارها وأدبائها، لندن، بطرسبورغ، القرى الصغيرة النائية التي أصبحت بفضل أدبائها ومبدعيها مزاراً سياحياً. وفي حقيقة الأمر، إن «النبك» محلّة شديدة الخصوصية جغرافياً واجتماعياً وتاريخياً، مكان قابل للتأويل والاختلاف والأساطير والحكايا، شتاء قاسٍ كمارد أزرق، زمهرير وجليد وثلج مرعب، أصوات الذئاب تشتبك مع كلاب الرعاة في جرودها، أشجار البرد من جوز وكرز ومشمش وخوخ. أهلها المغامرون المنتشرون في كل العالم، كرمهم الأسطوري، مآثرهم وخفة دمهم وبديهتهم التي تجرح الانتباه، الأغاني والمواويل المعلقة كسراج عند مساءاتنا، الغناء الذي لم يغادرني ولم أغادره، لا في نصي ولا في صوتي وصمتي، هذا الاحتفاء العظيم بالطبيعة البكر بقشرتها الأولى، والعلاقة المباشرة مع التراب ورائحته وإحالاته الدلالية والكيميائية، دون عبث المدنية الطافح، والاحتكاك المباشر مع أصوات النواعير والبلابل والطيور المهاجرة والريح، هو خبيئة جمالية وكنز معجمي لا تفهمه المدن ولا يمكن لها الإحاطة به. هكذا وظفت مفردات طفولتي ومنابتي الأول في نصوصي وكتبي كلها، مثل «نحات الريح» و«كونشرتو الذئب»، وتجلّت «النبك» أكثر في السنوات الأخيرة، إذ يبدو أننا كلما تقدمنا في العمر، عدنا إلى الأماكن الأولى بشراسة.
> حدثنا عن ملابسات إصدار ديوانك الأول وعمرك 17 عاماً فقط، وما الذي يتبقى من تلك التجربة؟
- أخجل اليوم من تسميته ديواناً، كان «الدم قراطية» كشكول طالبٍ مدرسي مولع باللغة والسرد والشعر والحكايا والمواويل، فجمعتها وطبعتها في مجموعة نالت من النقد والتجريح ما دفعني نحو الأمام. العناد سمة أساسية لأهل الجبال. نبهني وشرح لي جيداً أي طريق سأسلك بعدما أكلنا ضبع الفشل في الطريق الأولى. تعلمت من كتابي الأول ألا أعض أصابعي ندماً؛ بل أكتب بها مجدداً وأزخرف أخطاءها.
> تبدو في قصائدك مشغولاً بالتواصل مع القارئ. كيف ترى اتهام البعض لك بأنك «شعبوي» بسبب ذلك؟
- أنا أكتب لنفسي، وأكتب نفسي تماماً. لهذا لا أهتم لمسارات النقد الكلاسيكية، فلا أنا شاعر قصيدة موزونة ولا أنا شاعر قصيدة نثر. أكتب كيفما ارتأيت، وأجرب كثيراً دون أي خوف أو تردد، وتلك سمة أخرى لأبناء الجرود.
أنا أيضاً لا أحب رفع اللافتات الكبرى، ومناقشة الميثيولوجيات والفلسفات وطروحات اللغة المتعالية والمتشاوفة في نصوصي. أكتب متخففاً من كل شيء إلا انتباهاتي الفردية.
فيما يتعلق بالشعبوي، أعتقد أننا أسرى أنساق واصطلاحات خاطئة أو مشوشة على الدوام، ماذا يعني «النخبوي»؟ وكيف نفرق بينه وبين «الشعبي»؟ أولم يقل ابن المقفع في وصف البلاغة بأنها «لفظٌ إن سمعه الجاهل ظن أنه يحسن أن يقول مثله؟» طيب، هل عليَّ استحضار برومثيوس والأساطير، والاتكاء على الغامضات من الألفاظ والميت من المعاجم، ليكون نصي قيّماً؟ شخصياً لا أجد سبّة في فكرة الشعبوي إن صح المصطلح، بعدما رفع المثقفون «برطمانات» الثقافة والشعر وغيرها من الفنون إلى أعلى رفٍّ في مطبخ الإبداع. لا أفكر بتلك الطريقة، لا ألتفت إلى مَن سيقرأني حقاً، الشعر لدي تجربة شخصية صادقة أمارسها بمعجمي المكتسب ومفرداتي الأصيلة، ولا أجبر نفسي على استجلاب ما لم يعلق بتكويني اللغوي. أنا غير مبالغ في شيء، لا في حياتي ولا ملابسي ولا نصوصي.
> ما سر هوسك «الصحافي» بالنجمة مونيكا بيلوتشي؟
- والله إنه أجمل سؤال صحافي في العالم. تخيلي، سُئلت كثيراً عن مونيكا، ولكن ليس عن هذا التفصيل. لم يسألني أحدٌ عن ذلك -حتى أنا- على اعتبار الهوس بمونيكا هو أمرٌ بديهي، ولكنه ليس بديهياً على الإطلاق. فمنذ بدايتي بالصحافة، وأنا أحاول أن أقابلها وأفشل، أسافر وراءها ولا أجدها، منذ أكثر من عشرين عاماً ألاحقها لأراها كمادة صحافية، كما فعلت مع ساراماغو ومحمد شكري والجواهري والمغنية زارا، وغيرهم من أيقوناتي ممن تتبعت مساراتهم وحاورتهم وكتبت عنهم. ولكن لم أستطع أن أرى مونيكا، وهذا نادر وغريب على عنيدٍ مثلي، لعلّ هذا الفشل وسوء الطالع هو ما حوّلها إلى أسطورة فوق أسطورتها. ولعله من الخير لي أنني لم أرها، فقد كتبت عنها الكثير من النصوص، أعتقد أن بعضها كان سيتعثر لو أننا التقينا.
زرت جميع محلاتها وأماكن إقامتها ومسقط رأسها وشققها التي نزلت بها، ورأيت أقربائها ولكني لم أرها. شربت أطيب شربة ماءٍ من ساحة مدينتها «تشيتا دي كاستيلو»، وشعرت حينها شعور جلجامش كما لو كان قد وجد عشبة الخلود.
> تبدو مقلاً في إنتاجك الشعري، فلا يصدر لك ديوان جديد إلا كل بضعة سنوات... لماذا؟
- لست من الشعراء الذين يقفز أمامهم أرنب فيكتبون عنه، وتمر حافلة فيتذكرون زملاء المدرسة. لا أرى أن هذا من مهام الشعر ولا بأي شكل. إن الشعر بالنسبة لي هو حالة عرفانية وصوفية جداً. لحظاته مجردة وخالية من الحمولات العاطفية الطارئة. الشعر لدي بديل للتأمل والصمت الطويل، في جعبتي اليوم عشرون كتاباً، ثمانية منها شعرية، وكنت أتمنى لو أنها أقل والله. فأنا غير راضٍ عن أكثر من نصف ما هو منشور في دواويني. ولكن هذا النقص لن نستطيع تداركه، إنه بشري وصحي.
> ماذا عن أدب الرحلات والكتابة الوثائقية والتلفزيون؟
- أنا صحافي، أعمل منذ التسعينات في المكتوب والمرئي والميديا الجديدة، وما لف لفها من صناعة محتوى ونصوص إبداعية وإعلانية. هذا مصدر رزقي، أصنع الإعلانات الخفيفة المضحكة، والأفلام الوثائقية المحكمة لصالح منصات وقنوات معروفة. وهذا يتطلب السفر المتواصل. هذا إلى جانب عملي رئيساً لتحرير مجلة «طيران» لمدة عقد من الزمن. وهو ما أردفني بمواد خام هائلة، وجعلني مشتبكاً مع مفردات العالم مباشرة من حولي. أتمنى أن أجد الوقت الكافي لأنجز كل ما ببالي من وثائقيات ومواضيع وتحقيقات.
> عكس معظم الأدباء الذين يشكون من أن عملهم بالصحافة كان حجر عثرة في مشوارهم الأدبي، تؤكد أنت أنك مدين بكثير لهذه المهنة، كيف ذلك؟
- هذه حجة الكسول من الأدباء. صحيح أن الصحافة مهنة وسوسة مثلها مثل القمار، وتضغط الوقت والذاكرة والأعصاب والشرايين، وتجعلنا في دوامة لا تنتهي من المواعيد وجداول التسليم؛ لكنها أيضاً مصدر إلهام بديع، وجنة لا مثيل لها من المعرفة والاطلاع الحقيقي. إن الاحتكاك المباشر مع الناس والبلاد والأشياء، هو الثقافة الأمتن والحقائق الأهم، أنا مدين للصحافة حقاً، إذ كيف سأكتب عن إيطاليا ولم أرها، وعن الأساطير ولم أعالجها معالجة صحافية وأدقق معلوماتها، الصحافة مصنعٌ عظيمٌ للمعلومة والتحقق والإشراق. وهي المهنة الأكثر نبلاً وتشريفاً برأيي، رغم شتائمنا لها ليل نهار.
> حاورت أكثر من 600 شاعر وأديب ومثقف، واقتربت من كواليس «الوجه الآخر» لهم... ما حصيلة هذه التجربة؟
-إن أجبتك عاطفياً، فسأقول: يا ليتني لم أفعل، فهوامشهم لا تشبه متونهم. صدمت بأخلاقيات كثير منهم، وكتبت عن ذلك مرات عدة، ولو أنني من الصحافيين الفضائحيين، لكتبت كتاباً من 600 صفحة عن فداحات المثقفين. أما إن أجبتك بدقة ومهنية، فسأقول إنني استلهمت من كل واحدٍ منهم شيئاً بالغ الأهمية، نافذة تشرع في وعيي وحياتي المهنية. إن الحوار من وجهة نظري، هو جوهر الصحافة الثقافية، ولهذا ألهمني كل مثقف منهم أن أبحث باتجاه ما لا كنت أراه.
> يشتعل جدار صفحتك طوال الوقت بقصائد مختارة لشعراء العالم العربي من الجيل الحديث، مصحوبة بلوحات تشكيلية لفنانين عرب. هل ثمة فكرة ما؟
- في حقيقة الأمر، إنني أستثمر صفحتي قدر المستطاع كصحافي ثقافي يعمم حالة الثقافة في أجمل تجلياتها من وجهة نظري. أستثمر علاقاتي وصلاتي بالأدباء على امتداد وطننا العربي. أنشر لشعراء كبار وشعراء شباب، وأي نص أرى فيه مشروعاً تنويرياً وجمالياً يواجه كل هذا الاستسهال الأدبي الذي أفرزه «فيسبوك»، من كتابات رديئة ومتعجلة ومتشابهة، لا تمتلك أدنى المقومات اللغوية والمعرفية. بينما قد يظلم كبار كتابنا لانشغالهم بمشروعهم الثقافي. هذه هي مهمة الصحافة الثقافية. وأحاول قدر المستطاع إلا أنحاز لفكر أو شكل أو قطر دون غيره. وبودي لو استطعت حقاً أن أنشر لكل من أحب، وهم بالمئات في وطننا العربي. نعم، أريد أن أقول إن الشعر بخير، والشعراء العرب دائماً يشغلون حيزهم.


مقالات ذات صلة

«تيك توك» أكثر جدوى من دور النشر في تشجيع الشباب على القراءة

يوميات الشرق «تيك توك» أكثر جدوى من دور النشر  في تشجيع الشباب على القراءة

«تيك توك» أكثر جدوى من دور النشر في تشجيع الشباب على القراءة

كشفت تقارير وأرقام صدرت في الآونة الأخيرة إسهام تطبيق «تيك توك» في إعادة فئات الشباب للقراءة، عبر ترويجه للكتب أكثر من دون النشر. فقد نشرت مؤثرة شابة، مثلاً، مقاطع لها من رواية «أغنية أخيل»، حصدت أكثر من 20 مليون مشاهدة، وزادت مبيعاتها 9 أضعاف في أميركا و6 أضعاف في فرنسا. وأظهر منظمو معرض الكتاب الذي أُقيم في باريس أواخر أبريل (نيسان) الماضي، أن من بين مائة ألف شخص زاروا أروقة معرض الكتاب، كان 50 ألفاً من الشباب دون الخامسة والعشرين.

أنيسة مخالدي (باريس)
يوميات الشرق «تيك توك» يقلب موازين النشر... ويعيد الشباب إلى القراءة

«تيك توك» يقلب موازين النشر... ويعيد الشباب إلى القراءة

كل التقارير التي صدرت في الآونة الأخيرة أكدت هذا التوجه: هناك أزمة قراءة حقيقية عند الشباب، باستثناء الكتب التي تدخل ضمن المقرّرات الدراسية، وحتى هذه لم تعد تثير اهتمام شبابنا اليوم، وهي ليست ظاهرة محلية أو إقليمية فحسب، بل عالمية تطال كل مجتمعات العالم. في فرنسا مثلاً دراسة حديثة لمعهد «إبسوس» كشفت أن شاباً من بين خمسة لا يقرأ إطلاقاً. لتفسير هذه الأزمة وُجّهت أصابع الاتهام لجهات عدة، أهمها شبكات التواصل والكم الهائل من المضامين التي خلقت لدى هذه الفئة حالةً من اللهو والتكاسل.

أنيسة مخالدي (باريس)
يوميات الشرق آنية جزيرة تاروت ونقوشها الغرائبية

آنية جزيرة تاروت ونقوشها الغرائبية

من جزيرة تاروت، خرج كم هائل من الآنية الأثرية، منها مجموعة كبيرة صنعت من مادة الكلوريت، أي الحجر الصابوني الداكن.

يوميات الشرق خليل الشيخ: وجوه ثلاثة لعاصمة النور عند الكتاب العرب

خليل الشيخ: وجوه ثلاثة لعاصمة النور عند الكتاب العرب

صدور كتاب مثل «باريس في الأدب العربي الحديث» عن «مركز أبوظبي للغة العربية»، له أهمية كبيرة في توثيق تاريخ استقبال العاصمة الفرنسية نخبةً من الكتّاب والأدباء والفنانين العرب من خلال تركيز مؤلف الكتاب د. خليل الشيخ على هذا التوثيق لوجودهم في العاصمة الفرنسية، وانعكاسات ذلك على نتاجاتهم. والمؤلف باحث وناقد ومترجم، حصل على الدكتوراه في الدراسات النقدية المقارنة من جامعة بون في ألمانيا عام 1986، عمل أستاذاً في قسم اللغة العربية وآدابها في جامعة اليرموك وجامعات أخرى. وهو يتولى الآن إدارة التعليم وبحوث اللغة العربية في «مركز أبوظبي للغة العربية». أصدر ما يزيد على 30 دراسة محكمة.

يوميات الشرق عمارة القاهرة... قصة المجد والغدر

عمارة القاهرة... قصة المجد والغدر

على مدار العقود الثلاثة الأخيرة حافظ الاستثمار العقاري في القاهرة على قوته دون أن يتأثر بأي أحداث سياسية أو اضطرابات، كما شهد في السنوات الأخيرة تسارعاً لم تشهده القاهرة في تاريخها، لا يوازيه سوى حجم التخلي عن التقاليد المعمارية للمدينة العريقة. ووسط هذا المناخ تحاول قلة من الباحثين التذكير بتراث المدينة وتقاليدها المعمارية، من هؤلاء الدكتور محمد الشاهد، الذي يمكن وصفه بـ«الناشط المعماري والعمراني»، حيث أسس موقع «مشاهد القاهرة»، الذي يقدم من خلاله ملاحظاته على عمارة المدينة وحالتها المعمارية.

عزت القمحاوي

اختتام «البحر الأحمر السينمائي» بحفل استثنائي

جوني ديب لفت الأنظار بحضوره في المهرجان (تصوير: بشير صالح)
جوني ديب لفت الأنظار بحضوره في المهرجان (تصوير: بشير صالح)
TT

اختتام «البحر الأحمر السينمائي» بحفل استثنائي

جوني ديب لفت الأنظار بحضوره في المهرجان (تصوير: بشير صالح)
جوني ديب لفت الأنظار بحضوره في المهرجان (تصوير: بشير صالح)

بحفل استثنائي في قلب جدة التاريخية ، اختم مهرجان «البحر الأحمر السينمائي الدولي» فعاليات دورته الرابعة، حيث أُعلن عن الفائزين بجوائز «اليُسر». وشهد الحفل تكريمَ نجمتين عالميتين تقديراً لمسيرتيهما، هما الأميركية فيولا ديفيس، والهندية بريانكا شوبرا.

واختتم المهرجان عروضه بفيلم «مودي... 3 أيام على حافة الجنون» الذي أخرجه النجم الأميركي جوني ديب، ويروي حكاية الرسام والنحات الإيطالي أميديو موديلياني، خلال خوضه 72 ساعة من الصراع في الحرب العالمية الأولى.

واختير فيلم «الذراري الحمر» للمخرج التونسي لطفي عاشور لجائزة «اليُسر الذهبية» كأفضل فيلم روائي، أما «اليُسر الفضية» لأفضل فيلم طويل، فنالها فيلم «إلى عالم مجهول» للفلسطيني مهدي فليفل، بالإضافة إلى جائزة خاصة من لجنة التحكيم نالها فيلم «البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو» لخالد منصور.