بغداد العجلات والأجنحة في فضاءات التشكيل العراقي

لكل مدينة عشاقها ومجانينها.. ولمحمد مسير وضياء الخزاعي أحلامهما

من أعمال محمد مسير
من أعمال محمد مسير
TT

بغداد العجلات والأجنحة في فضاءات التشكيل العراقي

من أعمال محمد مسير
من أعمال محمد مسير

كيف يصنع الفنان، في مشغل أدواته وفرشاته، معادلا بصريا آخر لمدينة كما يراها؟ يحاول التحليق بها في لوحاته ولا يستطع، إذ ترتطم أجنحة صنعها من ريش طائر، أو من وبر فرشاة رسم، بالرماد ولون الدخان، في لحظات تبدو استمرارا لوجود الحرب على أرض العراق، وتحولها إلى حالات يومية وغيمات سوداء، لا مناص من السير تحتها.
ليس غريبا إذن أن يردد التشكيلي العراقي، محمد مسير، الذي عاش في بغداد منذ عام 2003، ما توقع من مدينته أن تكون آمنة بينما يتجول في أزقتها قاطعا أبرز شوارعها، من تمثال اللقاء وساحة التحرير، مرورا بشارع الرشيد وضفاف دجلة وأبو نؤاس.
مسير يعتبر وجوده حيا في بغداد أعجوبة ويصرح: «ما زلت حيا»، ويقول: «ركبتُ دراجتي الهوائية لكني لم أستطع الطيران، كما حلقت بغداد، بغداد حبيبتي». ومن هذه العبارة، انطلق لاشتقاق عنوان لأحد أعماله الفنية التي توثقت فيها علاقته بالدراجة الهوائية والأجنحة، التي هي تارة مؤشر دال على الأمن والطمأنينة المفتقَدَين في شوارع عاصمته العراقية، وتارة أخرى حلمه الطفولي بدوران العجلات في الهواء الطلق دونما توقف.
مسير (1963) البَصَري، مفعم بالصور والألوان والأفكار، وأوجاعه هي النهاية القصوى للتحليق في الآلام بعذوبة، حين يعتبر نفسه الحالم المتحرك في مدينة بقيت واقفة حين حاصرها البارود ورائحة الدم بلا هوادة. فهو يرسم الدراجة أثناء انطلاقها، ولا يريدها -مثل مدينته- كمفردة متوقفة، بل في حركتها القصوى، وتسارع عجلاتها مثل أحلامه تماما، حين ينطلق، وكأنها تأخذه معها من الأرض إلى سماء خيالاته. عند ذلك لا يكتفي بالعجلات، ويضيف إليها وإلى نفسه ومدينته أيضا أجنحة نشاهدها في لوحاته، فالطيران هو ما يريده.
يقول مسير لـ«الشرق الأوسط»: «دراجتي الهوائية تختلف عن أي دراجة أخرى، سواء كانت في الواقع أو في لوحات الآخرين». ويضيف: «إنها منطلقة ومسرعة وأحيانا تفقد جزءا منها، أو تتحول إلى ملاك».
وفي تجربة ليست بعيدة، بل وتكاد تكون رائدة في أسلوب استخدام الدراجة الهوائية، وسط مرح مباهج اللون وفوضاه، يقدم التشكيلي العراقي ضياء الخزاعي (1955)، انتقالاته اللونية عبر الدراجة الهوائية، فهو الذي يتردد في لوحاته بين دعابات الطفولة، متحفزا على دراجته الهوائية، بعجلة واحدة أو اثنتين أو بخيط طائرة ورقية تظهر هنا وهناك، جوالا في أزقة مدينته، كأنها كل هذه الأحلام البعيدة في سماء يسيطر عليها ما يتصاعد من انفجارات لا تنتهي. لكن الفنان يلتقط هذه الأحلام عبر نهاية آخر خيط طائرته الورقية المحلقة، ليمسك أخيرا بحلمه وبمدينته معًا بتقنية حديثة تعيد تشكيل الإنسان وبناءه، والمدينة التي نخرها الإسمنت المسلح، وفوضى غياب المعلم العمراني المعهود للعاصمة.
بغداد الجميلة وجه آخر في فضاءات الفنانين، فهي هنا تقود دراجتها الهوائية، تدير عجلاتها كأنها تدير عجلة الزمن بقدمها الضخمة القوية، يتناثر شعرها في الهواء بألق وجمال، بخاتمها الأخضر السماوي، فتدور الدنيا تحت عجلاتها وهي تطوي المسافات وتخوض سباقها مع الزمن ومع الآخرين. إنها لتوها خرجت كالعنقاء من تحت رمادها، بجناحيها الأبيضين، تتحول دراجتها إلى كائن سماوي بلا سرج ولا عجلة خلفية، وسرعان ما يختفي المقود والعجلة الأمامية وتتحول اللوحة إلى ملاك.
لكل زمن مجانين، ولكل مدينة عشاقها ومجانينها، وبغداد في الوقت الراهن مريدوها وهم حالمون لا يعرفون عن رحلتهم المقبلة سوى حلمهم الذي يعيشونه مع بغداد.



شواهد قبور أنثوية من البحرين

ثلاث قطع جنائزية أنثوية من البحرين
ثلاث قطع جنائزية أنثوية من البحرين
TT

شواهد قبور أنثوية من البحرين

ثلاث قطع جنائزية أنثوية من البحرين
ثلاث قطع جنائزية أنثوية من البحرين

كشفت حملات التنقيب المتواصلة في مقابر البحرين الأثرية عن فن جنائزي عريق يتجلّى بنوع خاص في شواهد القبور المزينة بنقوش تصويرية آدمية. تحضر المرأة بقوة في هذا الميدان، وتتجلّى في نماذج ثابتة تتشابه في قالبها الثابت الجامع، وتختلف في عناصر تفاصيلها المتعدّدة المتحوّلة. يظهر هذا القالب الواحد بشكل جلي في شاهد خرج من مقبرة المقشع، يمثّل سيدة ترتدي اللباس التقليدي المتعارف عليه. ويبرز هذا التباين بشكل خاص في شاهد آخر خرج من مقبرة الشاخورة، يُمثّل سيدة تتميّز بأناقتها المترفة.

بين عام 1992 وعام 1993، أجرت بعثة محلية حملة تنقيب واسعة في مقبرة أثرية تقع في الشمال الشرقي من مملكة البحرين، تجاور قرية المقشع وتُعرف باسمها. أدّت تلك الحملة إلى الكشف عن مجموعة من اللقى المتعددة الأنواع، منها شاهد قبر عمودي من الحجر الجيري يبدو أقرب إلى منحوتة ثلاثية الأبعاد، عُرض للمرة الأولى في باريس ضمن معرض مخصص لآثار البحرين، أُقيم في معهد العالم العربي في ربيع 1999. يبلغ طول هذه المنحوتة 37 سنتمترا، وعرضها 17 سنتمترا، وتُمثّل سيدة منتصبة ترتدي عباءة طويلة تلتف حول رأسها وجسدها على شكل المعطف اليوناني التقليدي. يعلو هذا المعطف ثوب من قطعة واحدة يظهر منه طرفه الأسفل، وفقاً للقالب الكلاسيكي المعهود الذي عُرف في سائر الشرق الهلنستي.

يوحي طول المنحوتة بأنها تجسّد تمثالاً نصفياً، مع ظهور إضافي للقسم الأعلى من الساقين المتمثّل في الوركين. يبدو القالب في ظاهره يونانياً تقليدياً، غير أن الأسلوب المتبع في نقش ثنايا العباءة الملتفّة حول القامة يعكس أسلوباً شرقياً مغايراً يظهر في اعتماد شبكة من الخطوط المتوازية هندسياً تنسكب حول القامة وتحجب مفاصل البدن بشكل كامل. تُمسك السيدة بيدها اليسرى طرف العباءة الأوسط، وترفع ذراعها اليمنى نحو أعلى صدرها، باسطة راحة يدها، وفقاً لحركة تقليدية تميّز بها الفن الإيراني القديم، في زمن الإمبراطورية الفرثية التي امتدت في أوجها من الروافد الشمالية للفرات، في ما يُعرف في زمننا بوسط تركيا، إلى شرق إيران، وسادت على طريق الحرير، وأضحت مركزاً للتجارة والتبادل التجاري والاجتماعي في القرنين الميلاديين الأولين. يظهر هذا الطابع الشرقي كذلك في نحت سمات الوجه، وفي نقش ملامحه وفقاً لطراز خاص يغلب عليه طابع التحوير والاختزال.

العينان لوزتان واسعتان مجرّدتان من أي تفاصيل، وأجفانهما محدّدة بوضوح. الأنف متّصل بخط واحد مع الجبهة، والفم كتلة بيضاوية أفقية يخرقها في الوسط شق يفصل بين الشفتين. تعلو الجبين خصل من الشعر نُقشت على شكل شبكة هندسية تحاكي في صياغتها وريقات نبات النفل المتجانسة، وتعكس هذه الشبكة كذلك أثر التقاليد الفرثية التي بلغت مناطق واسعة من الشرق القديم. تختزل هذه المنحوتة في صياغتها قالباً اعتُمد بشكل واسع في البحرين في الحقبة التي عُرفت بها الجزيرة باسم تايلوس، كما تشهد مجموعة كبيرة من شواهد القبور الأنثوية التي عُثر عليها خلال العقود الأخيرة في مواقع أثرية عديدة تعود إلى هذه الدولة الجزيرية الواقعة على الجهة الشرقية من شبه الجزيرة العربية.

ساد هذا التقليد بشكل واسع كما يبدو، غير أن هذه السيادة لم تحدّ من ظهور تنوّع كبير في العناصر التي تهب القالب الواحد أوجهاً متجدّدة. تتجلّى هذه الخصوصية في شاهد قبر عُرض ضمن معرض آخر خاص بالبحرين أقيم في المتحف الوطني للفن الشرقي في موسكو في خريف 2012. خرج هذا الشاهد من مقبرة الشاخورة الأثرية شمال غرب القرية التي تحمل اسمها، على مقربة من جنوب شارع البديع، شمال المنامة، وهو على شكل كوّة من الحجر الجيري يبلغ طولها 46 سنتمتراً، وعرضها 39 سنتمتراً. تتكوّن هذه الكوّة من عمودين يعلو كلاً منهما تاج مجرّد، وقوس عريض يخرقه شق في الوسط، ويُعرف هذا القوس في قاموس الفن اليوناني الكلاسيكي بـ«قوس المجد». وسط هذه الكوّة، على سطح الخلفية الأملس، تبرز قامة أنثوية ناتئة، نُقشت ملامحها وفقاً للأسلوب التحويري المختزل الذي اعتُمد بشكل واسع في البحرين.

تشكل النماذج الثلاثة صورة مختزلة تشهد لحضور المرأة في الفن الجنائزي الذي ازدهر في تايلوس في ذلك الزمان

يتكرّر القالب المألوف. تمسك السيدة بيدها اليسرى طرف وشاحها، وترفع راحة يدها المبسوطة نحو صدرها في وضعية الابتهال المألوفة، غير أنها تكشف هنا عن شعرها الطويل، على عكس التقليد المتبع. يتكوّن هذا الشعر من كتلتين متوازيتين يفصل بينها شق في وسط أعلى الرأس، وتزين هاتين الكتلتين شبكة من الخطوط الغائرة ترسم ضفائر الشعر المنسدلة على الكتفين، كاشفتين عن أذنين كبيرتين، يُزين طرف كل منهما قرط دائري. يحدّ العنق العريض عقدان يختلفان في الشكل. يبدو العقد الأسفل أشبه بسلسلة تحوي في وسطها حجراً مستطيلاً، ويتكوّن العقد الأعلى من سلسلة من الأحجار اللؤلؤية المتراصة. حول معصم الذراع اليسرى، يلتفّ سوار عريض، يجاوره خاتم يظهر في الإصبع الخامسة المعروفة بالخُنصر. يماثل الوجه في تكوينه وجه المنحوتة التي خرجت من مقبرة المقشع. الوجنتان مكتنزتان. العينان لوزتان ضخمتان مجردتان من البؤبؤين. الأنف كتلة مستطيلة ومستقيمة. والثغر منمنم مع شق بسيط في الوسط.

يحضر هذا النموذج المميز بشكل مغاير في قطعة أخرى من مقبرة الشاخورة، عُرضت كذلك في موسكو، وهي تمثال جنائزي منمنم على شكل لوح جيري، يمثّل سيدة أنيقة يعلو رأسها أكليل عريض يتكون من سلسلة من المكعبات المتوازية. ترخي هذه السيدة ذراعها اليمنى على وركها المنحني بشكل طفيف، وترفع ذراعها اليسرى نحو وسط صدرها، كاشفة عن سوار يلتف حول معصمها.

أُنجزت هذه القطعة على الأرجح في القرن الميلادي الأول، وأُنجز شاهد قبر المقشع وشاهد قبر الشاخورة في مرحلة لاحقة، بين القرن الثاني والقرن الثالث. وتشكل هذه النماذج الثلاثة صورة مختزلة تشهد لحضور المرأة في الفن الجنائزي الذي ازدهر في تايلوس في ذلك الزمان، جامعاً بين تقاليد متعدّدة في قالب محلّي خاص.