الحرب الأوكرانية وسوريا... فرص القوى الخارجية وتحدياتها

صورتان مدمجتان. الأولى لآثار القصف في كييف في 14 مارس الماضي، والثانية للدمار في حلب شمال سوريا في ديسمبر (كانون الأول) 2016 (غيتي)
صورتان مدمجتان. الأولى لآثار القصف في كييف في 14 مارس الماضي، والثانية للدمار في حلب شمال سوريا في ديسمبر (كانون الأول) 2016 (غيتي)
TT

الحرب الأوكرانية وسوريا... فرص القوى الخارجية وتحدياتها

صورتان مدمجتان. الأولى لآثار القصف في كييف في 14 مارس الماضي، والثانية للدمار في حلب شمال سوريا في ديسمبر (كانون الأول) 2016 (غيتي)
صورتان مدمجتان. الأولى لآثار القصف في كييف في 14 مارس الماضي، والثانية للدمار في حلب شمال سوريا في ديسمبر (كانون الأول) 2016 (غيتي)

أسفرت الآثار المباشرة للحرب في أوكرانيا عن تفاقم الأوضاع الإنسانية العسيرة بالفعل في سوريا. فالعنف الذي طال أمده في أوكرانيا وتحول إلى مواجهة كبرى بين حلف «الناتو» وروسيا، من شأنه تعريض التعاون متعدد الأطراف بشأن إدارة الصراع في سوريا وحل الأزمات والقضايا الإنسانية في هذا البلد، لمخاطر شديدة. كما أن النزاع الذي طال أمده في أوكرانيا، يمكنه تعطيل الوضع الراهن المتقلب في سوريا، ما قد يعرض اتفاقات وقف إطلاق النار للخطر، ويحول ميزان القوى لصالح إيران، وبالتالي يزيد من خطر التصعيد العسكري بين إيران وخصومها، ويعقّد المعركة ضد «تنظيم داعش»، ويعرض عمليات إيصال المساعدات الإنسانية عبر الحدود للخطر.
العمليات العسكرية واسعة النطاق في سوريا، تقلصت إلى حد كبير على مدى السنوات القليلة الماضية، إلا أن الاستقرار يبقى هشاً. وقد شهد حل الصراع جموداً مطولاً، فهناك 5 دول أجنبية، فضلاً عن أن عدداً كبيراً من الميليشيات المحلية والأجنبية، لها وجود عسكري على الأرض. وأنشأت كل من روسيا وتركيا والولايات المتحدة وإيران مناطق للنفوذ، لا تزال حدودها موضع نزاع.
«الشرق الأوسط» تنشر ملخصاً لترجمة خاصة من تقرير «المعهد الألماني للدراسات الأمنية والدولية» عن آثار الحرب الأوكرانية على سوريا...
شعرت سوريا على الفور بآثار الحرب في أوكرانيا. وقد أدى ذلك إلى تفاقم الأوضاع الإنسانية المزرية بالفعل في تلك البلاد، ذات الدخل المتوسط، الأدنى سابقاً. وكان الاقتصاد السوري قد انهار بفعل أضرار الحرب، والنزوح على نطاق واسع، وسوء الإدارة، والعقوبات، وفيروس كورونا، وتداعيات الانهيار المالي في لبنان.
حتى قبل الحرب في أوكرانيا، كان 90 في المائة من سكان سوريا يعيشون في فقر، وكان ثلثاهم يعتمدون على المساعدات الإنسانية، و55 في المائة منهم يعانون من انعدام الأمن الغذائي. وفي ديسمبر (كانون الأول) 2021 حذرت منظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة من خطر المجاعة، على خلفية الجفاف الشديد والانخفاض الحاد في محصول القمح في سوريا.
وأعلنت روسيا نهاية 2021 أنها لن تقوم بإيصال القمح إلى المناطق التي يسيطر عليها النظام السوري، والتي كان من المفترض أن تسد الفجوة الغذائية. ومن المرجح أيضاً أن تعاني منطقة شمال غربي سوريا من نقص مماثل، لأنها تشتري القمح من أوكرانيا وروسيا، فضلاً عن تركيا؛ حيث تأثر الإنتاج بسبب الجفاف.
بالإضافة إلى ذلك، فإن برنامج الغذاء العالمي، الذي يعتمد إلى حد كبير على الإنتاج الأوكراني، من المتوقع أن يتعرض لضغوط بسبب فقدان الإمدادات، وارتفاع أسعار الأغذية، وزيادة عدد الأشخاص المحتاجين في جميع أنحاء العالم. وابتداء من مايو (أيار) الحالي، سيضطر البرنامج إلى خفض المساعدات الغذائية المنقذة للحياة إلى نحو 1.35 مليون شخص في شمال غربي سوريا.
وفي حين اعتمد النظام السوري تدابير تقشفية، مثل الترشيد ومراقبة الأسعار وقيود التصدير، فإنه لم ينجح في منع ارتفاع أسعار المواد الغذائية والطاقة.

صورتان مدمجتان... الأولى في 12 مارس 2022 تظهر الدمار في أحياء مدينة خاركيف بأوكرانيا، والثانية في 10 أغسطس (آب) 2014 وتظهر حطام المباني في حلب شمال سوريا (غيتي)
في المقابل، يبدو أن الآثار المباشرة للحرب في أوكرانيا على التفاعلات الجيوسياسية في سوريا كانت محدودة حتى الآن. فقد فصلت القوى الخارجية الرئيسية، التي لها وجود عسكري على الأرض في سوريا، تعاونها عن التوترات بشأن أوكرانيا، فاتفاقات «فك الاشتباك» العسكري بين روسيا والولايات المتحدة، فضلاً عن روسيا وإسرائيل، لا تزال مستمرة، وهناك دوريات روسية تركية مشتركة في شمال سوريا، بناء على ترتيبات وقف إطلاق النار التي تم التوصل إليها في مارس (آذار) 2020. ولا تزال تُجرى محادثات غير رسمية بين روسيا وتركيا والولايات المتحدة وأوروبا بشأن وصول المساعدات الإنسانية عبر الحدود إلى سوريا. وفي الوقت نفسه، كانت العلاقات الإسرائيلية - الإيرانية متوترة منذ مقتل اثنين من ضباط «الحرس الإيراني» في سوريا، أوائل مارس 2022، وقد أدى ذلك إلى شن إيران هجمات على أهداف مرتبطة بإسرائيل في العراق، فضلاً عن الغارات الجوية الإسرائيلية على أهداف مرتبطة بإيران في سوريا.
ورغم ذلك، بدأت بعض الجهات، وخصوصاً روسيا وإيران، تكييف وجودها في سوريا. وبناء عليه، فإن سوريا لن تخرج بلا أضرار بالضرورة، حتى لو انتهت الحرب في أوكرانيا عاجلاً، وليس آجلاً. وفي حين أنه من المتوقع أن تظل المصالح العامة للجهات الخارجية المهيمنة بلا تغيير، فمن المرجح أن تتأثر مساعيهم ونهجهم وقدراتهم، ما يدفع إلى مزيد من التكيفات والمجازفة بتجدد وتصاعد التوترات في سوريا. وسوف يعتمد مدى هذه التغيرات على مدة وتطور الصراع في أوكرانيا، وتصاعده المحتمل إلى صراع أوسع بين حلف «الناتو» وروسيا.
من عامل استقرار إلى مُعرقل
تؤثر الحرب ضد أوكرانيا بشكل مباشر على القدرات المتاحة لروسيا للتدخل في سوريا. فضلاً عن ذلك، فقد بات بوسعنا أن نلحظ بالفعل تحولاً في أولويات السياسة الخارجية الروسية. وسيعتمد تأثير ذلك على المصالح المحددة لروسيا في الصراع السوري، على مدة ومسار الصراع في أوكرانيا وخارجها.
وفي الوقت نفسه، لا يملك الكرملين ترف رؤية فشل سياسته في سوريا. لقد أصبحت العملية العسكرية في سوريا رمزاً كبيراً جداً لطموح روسيا بالعودة إلى عرش القوة العظمى. وبالتالي، تواجه روسيا الآن التحدي المتمثل بتأمين موقعها في سوريا ومنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بقدرات محدودة. ولدى روسيا مصلحة استراتيجية في الحفاظ على قواعدها الجوية والبحرية في سوريا، فهذه القواعد تدعم استعداد روسيا العسكري في شرق البحر المتوسط. الأمر الذي يصبح أكثر أهمية في خضم المواجهة المتزايدة مع الولايات المتحدة وحلف «الناتو».
ولا يهدد غزو روسيا لأوكرانيا بتقويض مكانتها العسكرية الرسمية في سوريا بشكل كبير على المدى القصير، لأن هذا الوجود يتمحور بشكل أساسي حول قوات الدفاع الجوي والشرطة العسكرية، بدلاً من القوات البرية الكبيرة التي يبلغ عددها نحو 4 آلاف جندي فقط وفقاً لتقرير التوازن العسكري لسنة 2022 الصادر عن «المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية».
ومع ذلك، قد يكون للحرب في أوكرانيا تأثير أكبر على نشر روسيا لقوات مسلحة غير نظامية. فمن أجل سد الفجوات في الجبهة الأوكرانية، قد تجد روسيا أنه من المفيد إرسال شركات عسكرية خاصة و«متطوعين» من سوريا إلى أوكرانيا، ما قد يقوض القوة الضاربة التي تتمتع بها القوات المسلحة السورية. كما أن إغلاق تركيا لطريق الشحن عبر مضيقي البوسفور والدردنيل أمام السفن العسكرية من موانئ البحر الأسود في روسيا وإليها، من المرجح أن يزيد المشكلات ويكبد موسكو تكاليف إضافية. وعلى وجه التحديد، سوف يكون من الضروري إلى حدٍ كبير إرسال التعزيزات والإمدادات للقوات الروسية في سوريا عن طريق الجو.
وعلى المدى المتوسط، سيكون لتدهور القدرات الاقتصادية الروسية الناجم عن العقوبات تأثير أيضاً على سياستها تجاه سوريا. ومن المرجح تضاؤل القدرة الروسية على المشاركة في إعادة إعمار سوريا والتأثير على تنميتها الاقتصادية.
وعلى المدى القصير على الأقل، من المرجح أن تتجنب موسكو الخطوات التي قد تؤدي إلى اندلاع مواجهات مسلحة كبيرة في سوريا، لأن هذا يهدد بتوسيع نطاق عمل القوات الروسية. ومع ذلك، وعلى خلفية المواجهة الروسية - الغربية، لا تزال هناك حاجة لأن تستغل موسكو إمكاناتها المعرقلة فيما يتصل بسوريا، على سبيل المثال ما يتعلق بالوصول إلى المساعدات الإنسانية أو فك الارتباط العسكري جزئياً.
التفاعلات الجيوسياسية
ومن المرجح أن يكون للعنف الذي طال أمده في أوكرانيا، أو تصعيد الحرب في أوكرانيا وتحولها إلى مواجهة أكبر بين حلف «الناتو» وروسيا، تأثير على مجريات الصراع في سوريا بما يتجاوز قدرة الجهات الفاعلة الخارجية على التكيف.
وفيما يتعلق بوضع روسيا ونهجها في سوريا، هناك 3 مسارات معقولة...
- أولاً، قد تضطر موسكو إلى تقليص وجودها العسكري والحد من اهتمامها ومواردها التي تنفقها في سوريا. وفي هذا السياق، قد لا تعيق روسيا توسيع النفوذ الإيراني على البنية التحتية العسكرية - الأمنية السورية والأنشطة الاقتصادية بعد الحرب، طالما يتم مراعاة مصالح موسكو الاستراتيجية في الحفاظ على الهيمنة على موانئ اللاذقية وطرطوس على البحر المتوسط. وقد تصبح رغبة طهران الأخيرة في طرد الولايات المتحدة من سوريا أكثر قبولاً لموسكو. وبالتالي، فإن مثل هذا التطور يمكن أن يغير ميزان القوى في سوريا لصالح إيران.
- ثانياً، إذا اضطرت روسيا لنقل أصولها الجوية من سوريا إلى أوكرانيا، فقد يكون لذلك تأثير سلبي على الجهود الروسية (وجهود النظام السوري) لاحتواء «تنظيم داعش» في البادية السورية، فضلاً عن المناطق الأخرى الخاضعة لسيطرة النظام. وحتى الآن، استُخدم العتاد الجوي، ولا سيما المروحيات الهجومية، لمنع ظهور «داعش» مجدداً في هذه المناطق. ومع ذلك، هناك مخاوف متزايدة من أن تشكل عودة التنظيم إلى المناطق الخاضعة لسيطرة النظام تهديداً حقيقياً في الفترة المقبلة. ويمكن أن تتفاقم المشكلة إذا ما تم نشر الجنود السوريين والميليشيات الموالية للنظام في أوكرانيا بأعداد كبيرة، لأن هذا من شأنه تقويض القوة الضاربة للقوات المسلحة السورية. ووفقاً للاستخبارات العسكرية الأوكرانية، سجل أكثر من 40 ألف مقاتل سوري أسماءهم للانتشار في أوكرانيا بحلول منتصف مارس 2022، بمن فيهم جنود من القوات المسلحة السورية. ولم يصل إلى روسيا للتدريب سوى بضع مئات من المقاتلين من سوريا حتى نهاية الشهر ذاته. ولم يتم نشر أي منهم في أوكرانيا حتى الآن.
- ثالثاً، في حين تسعى موسكو للحفاظ على الوضع الراهن في سوريا في الوقت الحالي، على خلفية تهديد مفترض لأمن نظامها، قد يغير الكرملين جذرياً منهجه في سوريا ويستغل إمكاناته المُعرقلة. ومن الممكن أن يحدث هذا بهدف إرغام بلدان حلف «الناتو»، بما في ذلك تركيا، على تقديم تنازلات فيما يتصل بأوكرانيا، أو ربما لمجرد صرف الانتباه بعيداً عنها. بعبارات محددة، قد يُنفذ هذا السيناريو من قبل روسيا التي تعمل على تعقيد أو تعطيل عمليات مكافحة الإرهاب بقيادة الولايات المتحدة في المناطق الخاضعة لسيطرتها، أو تنخرط في مواجهات خطيرة مع الطائرات الأميركية في الأجواء السورية، أو تقدم على إجراءات عدائية ضد السفن الحربية الغربية في شرق البحر الأبيض المتوسط.
إيران وملء الفراغ
بدأت إيران، الشريك الأقرب لروسيا في دعم نظام الأسد، في تكييف سياستها إزاء سوريا مع الظروف المتغيرة الناجمة عن الغزو الروسي لأوكرانيا. ويبدو أن طهران تنظر إلى تركيز موسكو على أوكرانيا كفرصة سانحة لزيادة نفوذها في سوريا، من الناحيتين الكمية والنوعية. ومنذ بداية الحرب الأوكرانية، كان هناك اتجاه متزايد بين القوات الإيرانية وتلك المدعومة من إيران لتوسيع أنشطتها في شمال شرقي سوريا (يبلغ عدد القوات الإيرانية الآن نحو 1500 جندي وفقاً لتقرير التوازنات العسكرية لسنة 2022). وفي هذا السياق، رفعت هذه القوات من مستويات وجودها في الحسكة. وفي الماضي، كان الدور المهيمن لروسيا في المنطقة يحدّ من نطاق أنشطة إيران. ومن شأن توسيع نطاق السيطرة على منطقة الحسكة، القريبة من المناطق الخاضعة لسيطرة «قوات سوريا الديمقراطية» المدعومة من الولايات المتحدة، أن يقرب إيران خطوة أخرى من هدفها الراسخ، المتمثل في الضغط على واشنطن للانسحاب من سوريا. وفي الوقت نفسه، تشير بعض التقارير إلى أن إيران زودت قواتها الوكيلة في أجزاء مختلفة من سوريا بأسلحة عالية الجودة، بما في ذلك الأسلحة المضادة للدروع. والسبب الرسمي وراء هذا التسليح هو الحاجة إلى التمكن من محاربة أنشطة «داعش» المتجددة. ومع ذلك، وكما هو الحال في الحسكة، يشير قرار إيران بإعادة تنشيط قواتها الحليفة والوكيلة في مناطق شاسعة من محافظتي حمص ودير الزور، إلى رغبتها في توسيع نطاقها الجغرافي، وربما استبدال الوجود الروسي في أكبر عدد ممكن من المناطق في سوريا.
في هذا السياق، وفي أوائل أبريل (نيسان)، عززت القوات الإيرانية، إلى جانب «حزب الله» اللبناني، والفرقة الرابعة في الجيش السوري الموالية لإيران، من وجودها في مستودع «مهين» العسكري في شرق حمص، وذلك بعد انسحاب القوات الروسية والمدعومة من روسيا.
وتتصاحب هذه التفاعلات على الأرض بتجدد النشاط السياسي والدبلوماسي الإيراني في سوريا. ففي 27 فبراير (شباط)، زار مدير الأمن الوطني السوري، علي مملوك، طهران للاجتماع بكبار المسؤولين الإيرانيين. وبعد شهر واحد، في 23 مارس، زار وزير الخارجية الإيراني، حسين أمير عبد اللهيان، سوريا. وسعت الزيارات الدبلوماسية، بالإضافة إلى طمأنة الأسد حول الدعم الإيراني المستمر، إلى المساعدة في توسيع دور إيران الاقتصادي في البلاد. وخلال السنوات الأخيرة، صارت طهران تنظر إلى موسكو من زاوية المنافس الاقتصادي في سوريا. وربما تأمل إيران في أن تتيح التحديات الاقتصادية التي تواجهها روسيا، إثر العقوبات الغربية عليها من جهة، وإمكانية رفع العقوبات المفروضة على إيران مع استعادة الاتفاق النووي لسنة 2015 من جهة أخرى، لطهران مجالاً أكبر للمناورة في اقتصاد ما بعد الحرب السورية.
أميركا... والحذر من «داعش»
تظل مصالح الولايات المتحدة وقدراتها في سوريا بلا تغيير، إلى حد كبير، بفعل الحرب في أوكرانيا، على الأمدين القريب والمتوسط. لكن أولوياتها، ولا سيما ما يتعلق بالشواغل الإنسانية، قد تتحول استناداً إلى مسار الصراع الأوكراني الراهن. وإذا طال أمد الصراع في أوكرانيا، أو ما هو أسوأ، إذا توسع نطاقه إلى ما هو أبعد من الحدود الأوكرانية، فلا يمكننا استبعاد التوترات العسكرية المتصاعدة بين الولايات المتحدة وروسيا في سوريا.
وتواصل الولايات المتحدة التركيز على ضمان الهزيمة الدائمة لـ«تنظيم داعش»، والمحافظة على وقف إطلاق النار الحالي في كل من شمال شرقي سوريا وشمالها الغربي، والحفاظ على وصول المساعدات الإنسانية، إن لم يكن توسيعها، وضمان المساءلة القانونية عن انتهاكات حقوق الإنسان وجرائم الحرب التي ارتكبها النظام السوري، والتحقق من التوصل إلى حل سياسي للنزاع بموجب قرار مجلس الأمن 2254، ديسمبر (كانون الأول) 2015، والتحسب للنفوذ الإيراني داخل سوريا.
ولن تتأثر أدوات الولايات المتحدة لمتابعة هذه الأولويات بالغزو الروسي لأوكرانيا. وسوف تحتفظ الولايات المتحدة بوجودها المحدود في البلاد (نحو 900 جندي وفقاً لتقرير التوازنات العسكرية لسنة 2022 الصادر عن «المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية») في المستقبل المنظور. وسيستمر تمويل أنشطة تحقيق الاستقرار في شمال شرقي سوريا إن لم يكن سيرتفع، تبعاً لميزانية الولايات المتحدة، وستظل العقوبات، ولا سيما ما يُسمى بعقوبات «قانون قيصر»، أداة رئيسية في صندوق أدوات الولايات المتحدة، المقترن الآن مع العقوبات الواسعة على روسيا، ويمكن أن يزداد تأثيرها، ولا سيما ما يتعلق بالتطبيع وإعادة الإعمار في سوريا. وستستمر الجهود المبذولة للتخفيف من الآثار غير المقصودة للعقوبات عن طريق إصدار التراخيص العامة.
إنسانياً، لا بد أن تظل المساعدات التي تقدمها الولايات المتحدة لسوريا مستقرة، لكن نقص التمويل الدولي قد يتحول إلى قضية تعتمد على حجم الاستجابة للأزمة الأوكرانية. وقد يكون تجديد القرار الدولي 2585، يوليو (تموز) 2021، الذي ينص على تقديم مساعدات دولية إلى مناطق خارج سيطرة النظام في سوريا عبر معبر باب الهوى الحدودي (بين إدلب وتركيا)، وهو أولوية أميركية رئيسية في سوريا، في خطر. وهذا الأمر مرهون بالموقف الروسي من القرار. وسوف تعطي الولايات المتحدة الأولوية لتجديد القرار، المقرر أن ينتهي العمل به في يوليو، مع صياغة خطط للطوارئ في حالة استخدام حق النقض ضده.
وبالنسبة إلى «داعش»، سوف تراقب الولايات المتحدة عن كثب أي عودة للتنظيم في المناطق السورية الخاضعة لسيطرة النظام، التي قد يتردد صداها بعد ذلك في شمال شرقي سوريا. وفي حال تدهورت قدرات روسيا في مكافحة «تنظيم داعش» بسبب تحول موسكو نحو أوكرانيا، يمكن أن تتعزز قدرة التنظيم في البادية، أي المنطقة الصحراوية الوسطى في سوريا، وربما تتعزز قدرته على شن هجمات على مراكز الاحتجاز ومخيمات النزوح في شمال شرقي سوريا الخاضعة لسيطرة الأكراد. وقد تؤدي إعادة تنظيم صفوف «داعش» بشكل كبير في سوريا إلى إعادة الولايات المتحدة النظر في استراتيجيتها وموقفها في مكافحة التنظيم. وسوف تسعى الولايات المتحدة، أيضاً، إلى الحفاظ على قدرتها على ضرب «تنظيم القاعدة» والجماعات المتطرفة الأخرى في شمال غربي سوريا، وقد يصبح الوضع أكثر تعقيداً إذا تعثرت قنوات تجنب التصادم الجوي مع روسيا.
تركيا على حبل مشدود
لن تغير حرب أوكرانيا الأهداف التركية الرئيسية في سوريا. والوجود العسكري التركي، ومشاركته الإدارية، وبنيته التحتية في شمال سوريا، يخدم 3 أهداف رئيسية...
(1) منع الحكم الذاتي للأكراد بقيادة «حزب الاتحاد الديمقراطي» و«وحدات حماية الشعب».
(2) منع تدفق موجات جديدة من اللاجئين إلى تركيا.
(3) إعادة اللاجئين السوريين المقيمين راهناً في تركيا.
وفي أعقاب الحرب، احتفظت أنقرة حتى الآن برهاناتها، وحمت مصالحها الاقتصادية والأمنية. وتحاول القيادة التركية بعناية عدم استعداء روسيا، في الوقت الذي تعارض فيه تقديم الدعم العسكري لأوكرانيا. ومن المرجح أن تزداد الضغوط على تركيا لمواءمة موقفها مع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي فيما يتعلق بالعقوبات، وإغلاق مجالها الجوي أمام الطائرات الروسية إذا ما اتخذت الحرب مساراً مستداماً، ما يزيد من احتمال حدوث مواجهة بين تركيا وروسيا، ويعرض اتفاقات وقف إطلاق النار التي أبرمت في مارس 2020 في شمال سوريا للخطر.
وفي هذا السياق، فإن الوضع الهش في إدلب، الذي يعرض حياة القوات التركية على الأرض للخطر بشكل مباشر (نحو 3000 جندي، إضافة إلى وحدة للدرك، وفقاً لتقرير التوازنات العسكرية لسنة 2022)، سوف يشكل تحدياً خاصاً. وتكمن الأولوية العاجلة لأنقرة في تجنب انهيار ترتيبات وقف إطلاق النار. ومن هذا المنطلق، تودّ تركيا بشكل خاص تجنب هجوم النظام في إدلب، لأن هذا يقتضي موجة أخرى من اللجوء إلى تركيا.
وتركيا عرضة أيضاً للتأثيرات الاقتصادية الناجمة عن الحرب في أوكرانيا. فروسيا هي أحد أكبر الشركاء التجاريين لتركيا في الواردات، وأحد موردي الغاز الرئيسيين لها. كما تتوقع تركيا انخفاضاً في العائدات السياحية، ونقص العرض في واردات الحبوب من روسيا وأوكرانيا. وحتى قبل الغزو الروسي لأوكرانيا، تسببت الأزمة الاقتصادية التركية المتفاقمة في جعل تبرير التكاليف الاقتصادية لسياستها في سوريا أكثر صعوبة. علاوة على ذلك، ستضيف التداعيات الإنسانية للحرب في أوكرانيا عبئاً اقتصادياً على تركيا في شمال غربي سوريا. وبالتالي، فإن استمرار المساعدات عبر الحدود يشكل أولوية ملحة بالنسبة لتركيا، أكثر من أي وقت مضى.
حسابات معقدة
تتصور أنقرة أن الحرب في أوكرانيا سوف يطول أمدها. ونتيجة لذلك، فإن المواجهة المتصاعدة بين روسيا والولايات المتحدة في سوريا قد تصب في مصلحتها لسببين رئيسيين...
- أولاً، يمكن أن يؤدي إضعاف موقف روسيا العسكري في سوريا إلى فتح آفاق دبلوماسية جديدة. كما أن إغلاق تركيا لمضيقي البوسفور والدردنيل أمام جميع السفن الحربية (بموجب اتفاقية «مونترو» لسنة 1936) قد يؤثر سلباً على الوجود الروسي في سوريا في حال امتد أمد الحرب.
- ثانياً، أي تفاهم بين روسيا والولايات المتحدة بشأن مستقبل سوريا يصبح أقل احتمالاً مع تزايد التوترات بشأن أوكرانيا، ما يُبدد المخاوف التركية بشأن الاعتراف بالحقوق الكردية أو الحكم الذاتي الكردي في سوريا.
فضلاً عن ذلك، يرى الرئيس التركي رجب طيب إردوغان أن تجدد اهتمام القادة الغربيين بتركيا مؤخراً، دليل على تزايد الأهمية الاستراتيجية لتركيا. وبالتالي، فإن الحرب الأوكرانية تصب في جهود أنقرة الرامية إلى إصلاح العلاقات مع الولايات المتحدة وأوروبا.
في الأثناء ذاتها، ذكرت وسائل الإعلام الموالية للحكومة التركية، أن أنقرة ترى في الغزو الروسي لأوكرانيا فرصة لإصلاح العلاقات مع دمشق. ووفقاً لهذه التقارير، جرى إبلاغ مطالب تركيا الثلاثة (أي الحفاظ على نظام موحد في سوريا، والحفاظ على وحدة الأراضي السورية، وضمان سلامة العائدين السوريين) إلى الرئيس الأسد. وإذا صح الأمر، فإنه يشير إلى أن التأثير الدبلوماسي للدول العربية مع الأسد والعودة المحتملة لسوريا إلى جامعة الدول العربية قد يدفع بأنقرة إلى تطبيع العلاقات مع دمشق، بطريقة تحفظ ماء وجه تركيا وإصلاح المشكلات الاقتصادية.


مقالات ذات صلة

تقرير: قادة دول أوروبية وكندا يجتمعون في باريس لبحث أزمة أوكرانيا

أوروبا صورة نشرها الجيش الأوكراني الاثنين تظهر بعض جنوده يطلقون قذيفة «هاون» باتجاه مواقع روسية في موقع غير مُعلن في دونيتسك (أ.ف.ب)

تقرير: قادة دول أوروبية وكندا يجتمعون في باريس لبحث أزمة أوكرانيا

ذكرت وكالة بلومبرغ، نقلاً عن مصادر اليوم (الخميس)، أن زعماء ألمانيا وإيطاليا وبولندا وبريطانيا وكندا سيجتمعون في العاصمة الفرنسية باريس الأسبوع المقبل.

«الشرق الأوسط» (باريس)
أوروبا رئيس وزراء بريطانيا مع وزير الدفاع يتفحص نموذج لغواصة نووية (أ.ب)

استهدافات متبادلة للبنى التحتية الروسية والأوكرانية واتهامات لتعطيل مبادرات السلام

استمرت الهجمات المتبادلة بالمُسيَّرات ليلة الأربعاء - الخميس بين طرفي نزاع الحرب الروسية - الأوكرانية، وأطلقت كل منهما الاتهامات باستهداف البنى التحتية للأخرى.

«الشرق الأوسط» (كييف) «الشرق الأوسط» (موسكو)
أوروبا رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر ووزير الدفاع جون هيلي (يمين) في شركة بي إيه إي أثناء إلقاء نظرة على نموذج غواصة خلال زيارة مشتركة لمنشأة غواصات ببلدة بارو إن فورنيس ببريطانيا 20 مارس 2025 (رويترز)

ستارمر: يجب أن نستعد للتحرك سريعاً حال توصل أوكرانيا وروسيا لاتفاق سلام

شدد رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر، اليوم الخميس، على أهمية أن تتمكن بريطانيا وحلفاؤها من التحرك بشكل فوري، حال توصل روسيا وأوكرانيا لاتفاق سلام.

«الشرق الأوسط» (لندن)
العالم الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي خلال مؤتمر صحافي مشترك في هلسنكي بفنلندا 19 مارس 2025 (أ.ب)

زيلينسكي: محادثات أميركية أوكرانية بشأن الهدنة في الرياض الاثنين

أعلن الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، اليوم الخميس، أن على موسكو التوقف عن تقديم «مطالب لا طائل منها» تطيل أمد الحرب.

«الشرق الأوسط» (كييف)
الولايات المتحدة​ مجموعة من الأطفال الأوكرانيين تم إجلاؤهم من دار للأيتام في زابوريجيا ينتظرون ركوب الحافلة لنقلهم إلى بولندا للحماية من الغزو الروسي لبلادهم... الصورة في مدينة لفيف الأوكرانية 5 مارس 2022 (أرشيفية - رويترز)

ترمب يتعهّد إعادة الأطفال الأوكرانيين المختطفين إلى بلدهم

تعهّد الرئيس الأميركي دونالد ترمب الأربعاء مساعدة كييف على استعادة آلاف الأطفال الأوكرانيين الذين يُعتقد أنّ روسيا اختطفتهم وأرسلتهم إلى أراضيها.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)

كيف أوصل الشرع «هيئة تحرير الشام» إلى قصر الشعب؟

قائد «هيئة تحرير الشام» أبو محمد الجولاني (أحمد الشرع) في حلب في 4 ديسمبر 2024 (تلغرام)
قائد «هيئة تحرير الشام» أبو محمد الجولاني (أحمد الشرع) في حلب في 4 ديسمبر 2024 (تلغرام)
TT

كيف أوصل الشرع «هيئة تحرير الشام» إلى قصر الشعب؟

قائد «هيئة تحرير الشام» أبو محمد الجولاني (أحمد الشرع) في حلب في 4 ديسمبر 2024 (تلغرام)
قائد «هيئة تحرير الشام» أبو محمد الجولاني (أحمد الشرع) في حلب في 4 ديسمبر 2024 (تلغرام)

منذ تحول الثورة السورية إلى العمل العسكري بعدما استبعد النظام السابق خيار التفاوض واستخدم القوة المفرطة في قمع المظاهرات عام 2011، شهدت البلاد طفرة في الفصائل المسلحة التي ترواحت بين إسلامية جهادية وأخرى معتدلة، بحسب موقعها من طيف التشدد والتدين الذي شكل قاعدتها المشتركة.

وفي أواخر عام 2011 تأسست إحدى أكبر الفصائل باسم «حركة أحرار الشام»، وتجمع بين الجهادية والإخوانية بأجندات محلية. ويمكن القول إن «أحرار الشام» هي أول فصيل دمج بين الجهادية والمحلية، سابقة بذلك «هيئة تحرير الشام» نفسها التي كانت تؤمن بالجهادية العالمية إبّان تبعيتها لتنظيم «القاعدة» وحتى لحظة فك ارتباطها به في يوليو (تموز) 2016.

وبمراحل تحولها وصعودها كافة، التي بلغت أخيراً بمعركة «ردع العدوان» وأوصلت «هيئة تحرير الشام» وقائدها «أبو محمد الجولاني»/ أحمد الشرع إلى حكم سوريا الجديدة، تميزت الهيئة بهيكلية داخلية دقيقة أقرب إلى «كلية عسكرية» بحسب وصف أحد القياديين السابقين في «الهيئة»، الذين تحدثوا إلى «الشرق الأوسط».

طفل يجلس على أكوام من الذخيرة في معرة نصرين في إدلب نهاية 2021 (غيتي)

«أحرار الشام»

في البدايات كان فصيل «أحرار الشام» أكثر الفصائل السورية أدلجة وتنظيماً معاً، وكان لقادته أمثال حسان عبود وأبو يزن الشامي كاريزما قوية وثقل في الأوساط الثورية، فكانت إلى جانب أسماء أخرى كعبد القادر الصالح (قائد لواء التوحيد) شخصيات وازنة في الأوساط الثورية بمختلف مشاربها.

وبقي هذا حال الحركة حتى يوم 9 سبتمبر (أيلول) 2014. حين قتل قادتها في تفجير استهدف اجتماعاً لمجلس شورى الحركة في بلدة رام حمدان بريف إدلب. وهو تفجير لا تزال ملابساته غامضة حتى اليوم، أودى بحياة قائد الحركة أبو عبد الله الحموي (حسان عبود) ونحو أربعين آخرين من القياديين والشرعيين، لتبدأ مرحلة التراجع التدريجي في القوة والنفوذ وتصل سريعاً إلى أدنى مستوياتها فتتحول فصيلاً صغيراً موزع الولاءات بين فصائل أكبر كـ«الجيش الوطني» و«هيئة تحرير الشام».

ويذكر أن «الجيش الوطني السوري» فصيل تشكل في 30 ديسمبر (كانون الأول) 2017، من 36 فصيلاً مسلحاً مثل «الجبهة الشامية»، و«جيش الإسلام»، و«فيلق المجد»، و«الفرقة 51»، و«لواء السلام»، و«فرقة السلطان شاه» المكونة بشكل أساسي من التركمان.

«لواء التوحيد»

من الفصائل الكبرى في سوريا، التي تميّزت بالقوة والنفوذ وقبول شعبي واسع أكثر من «جبهة النصرة»، «لواء التوحيد» الذي تأسس في 21 يوليو (تموز) 2012 وضمّ مجموعة من الكتائب العسكرية المحلية للقتال في مناطق ريف حلب الشمالي.

ويعد «لواء التوحيد» التشكيل الأكبر في المعارضة المسلحة في تلك المرحلة والممثل الأبرز للتيار الإسلامي «المعتدل» الذي يزاوج بين السلفية المعتدلة والإخوانية والخطاب «الوطني» المحلي. إنه أحد أكثر الفصائل التي ضمت في بداياتها أطيافاً متنوعة من الجهادي المعتدل إلى الإخواني إلى ما تعارف على تسميته «الإسلامي الوطني» أو حتى «الوطني الصرف» بمعنى غير الإسلامي؛ ما يعكس واقع التذبذب في توجهات تلك الفصائل فكرياً وآيديولوجياً.

وكان «لواء التوحيد» أبرز فصائل الثورة السورية التي خاضت معارك كثيرة وعلى جبهات مختلفة، لعل أهمها المعارك مع «حزب الله» اللبناني في بلدة القصير عام 2013. لكن بعد مقتل قائده عبد القادر الصالح في استهداف مباشر بغارة جوية في 18 نوفمبر (تشرين الثاني) عام 2013، سرعان ما اضمحل هذا الفصيل أيضاً وتفكك، وتوزعت قياداته وعناصره بين فصائل مختلفة كل بحسب توجهه.

مقاتلون من «هيئة تحرير الشام» في حمص نهاية يناير 2025 (غيتي)

«جيش الإسلام»

من الفصائل البارزة التي لعبت أدواراً أساسية، «جيش الإسلام» الذي يتخذ من بلدة دوما في ريف دمشق معقلاً له، وفرض سيطرته على غالبية الحواضن الثائرة المحيطة بالعاصمة من الغوطة الشرقية في ريف دمشق وبلدة القلمون ومحيطها وصولاً إلى الحدود اللبنانية. كذلك سيطر «جيش الإسلام» على أحياء داخل العاصمة وأطرافها الشرقية، أهمها القابون وبرزة البلد وجوبر وزملكا وغيرها، وصولاً إلى ساحة العباسيين، أهم الساحات الدمشقية بعد ساحة الأمويين.

يشكّل «جيش الإسلام» بتوجهه «السلفي الجهادي» المعلن من عشرات المجموعات المسلحة العاملة في العاصمة وريفها صيف عام 2013 حتى بلغ عدده أكثر من 25 ألف مقاتل بتجهيزات عسكرية متوسطة وثقيلة، بينها دبابات وعجلات مدرعة وصواريخ قصيرة ومتوسطة المدى ظهرت في الاستعراض العسكري الذي نظمه «جيش الإسلام» ربيع عام 2015 لدى تخريج دفعة من مقاتليه بلغت 1700 مقاتل.

وعلى رغم توجهه السلفي الجهادي، فقد دخل هذا الفصيل في جولات قتال مع «جبهة النصرة» و«فيلق الرحمن» المقرب منها، وكذلك تنظيم الدولة (داعش)؛ ما أدى إلى إضعافه بشكل كبير. لكنه بقي متماسكاً إلى حد كبير في بنيته العسكرية حتى لحظة مقتل زعيمه زهران علوش في غارة جوية يُعتقد أنها روسية نفذت في 26 ديسمبر 2015.

وكغيره من الفصائل التي تفككت بمقتل قائدها، لم يستطع «جيش الإسلام» الصمود طويلاً على رغم ما كان يتلقاه من دعم، ولم يتمكن من الحفاظ على مناطق سيطرته ونفوذه السابقة مقارنة بـ«هيئة تحرير الشام».

وبذلك تلاشى واضمحل كأغلبية فصائل الثورة السورية التي فاقت «هيئة تحرير الشام» عدداً وتلقت دعماً مادياً وإعلامياً وشعبياً، التي كانت تحمل اسم «جبهة النصرة» حينها، التي كانت مصنفة - ولا تزال - على قوائم الإرهاب العالمية؛ ما ساهم أيضاً في عزلتها حتى على الإعلام العالمي، على عكس بقية الفصائل. لكن، هذه العزلة هي نفسها التي ستتيح للتنظيم رص صفوفه وتقوية عوده بعيداً عن الأضواء والتأثيرات الخارجية.

التحدّي والصمود

في حين انشغل قادة معظم فصائل المعارضة المسلحة التي تزامن صعودها مع صعود جبهة النصرة كمثل «أحرار الشام» و«جيش الإسلام» و«لواء التوحيد»، بالتنافس فيما بينهم على النفوذ في المناطق الخارجة عن سيطرة قوات نظام بشار الأسد، ومحاولاتهم حصد الشعبية في الأوساط الثورية والحواضن الاجتماعية، كان قائد «هيئة تحرير الشام» أبو محمد الجولاني (أحمد الشرع) يعمل بصمت بعيداً عن الضوضاء ولم يظهر للعلن حتى عام 2016، عندما أعلن فك ارتباطه بتنظيم «القاعدة»، ثم عاد وانكفأ إلى حد بعيد.

مقاتلون من حركة نور الدين الزنكي في ريف حلب في سبتمبر 2018 (غيتي)

تشكلت «هيئة تحرير الشام» (أو جبهة النصرة سابقاً) من تحالف طوعي أو قسري لعدد من الفصائل والتنظيمات المسلحة، كـ«جبهة أنصار الدين» و«حركة نور الدين الزنكي» و«جيش السنة» و«لواء الحق» وغيرها، وتحالف طيف واسع من التشكيلات الأصغر المرتبطة بتنظيم «القاعدة»، وأبرزها «إمارة القوقاز» و«الحزب الإسلامي التركستاني» و«جيش العزة» و«جيش النصر»، وشهدت هي الأخرى تحولات مهمة وانشقاقات وانتقالات بين التشكيلات العسكرية. لكن ما ميّز «هيئة تحرير الشام» عن الفصائل والمجموعات الأخرى، قدرتها على تغيير مرجعيتها الفكرية وفق ما تفرضه معطيات الواقع المحلي والإقليمي والدولي، ومعطيات خريطة النفوذ والتحالفات في المناطق الخارجة عن سيطرة قوات الأسد.

والواقع أنه قبل انشقاقها عن تنظيم «داعش» في ربيع عام 2013، كانت «جبهة النصرة» الفصيل الأقوى في محافظة دير الزور من حيث القدرات القتالية بأعداد تتعدى 7 آلاف مقاتل، بحسب التقديرات، وأسلحة متوسطة وثقيلة معظمها من تنظيم «داعش» في العراق. وأدى الانشقاق هذا إلى تراجعها مؤقتاً، لكنها سرعان ما أعادت ترتيب صفوفها وتمكنت من تجاوز مرحلة الضعف التي رافقت نهاية قتالها مع «داعش» الذي انتزع منها السيطرة على محافظة دير الزور وبلدة الشحيل، معقلها الرئيس، وأخرجها من معادلة التوازنات في المحافظة كلها.

لكن «جبهة النصرة» التي انسحب مقاتلوها من دير الزور إلى محافظة إدلب، عادت ونجحت في الانطلاق من جديد لبناء قوة فرضت نفسها بحلول نهاية معركة حلب أواخر عام 2016، وتشكيل «هيئة تحرير الشام» في فبراير (شباط) 2017.

وخلافاً للفصائل التي اضطرت للاندماج مع غيرها لضمان بقائها، مثل حركة «أحرار الشام» على سبيل المثال التي اندمجت مع «حركة نور الدين الزنكي» تحت مسمى «جبهة تحرير سورية»، تمكنت «تحرير الشام» من الحفاظ على استقلالها التنظيمي.

بل أكثر من ذلك، انضمت إليها بعض الفصائل الصغيرة مثل «جبهة أنصار الدين» و«جيش النصر» وهما من التنظيمات المسلحة المرتبطة بتنظيم «القاعدة»، أو القريبة منه، وغيرهما.

وكلما مرّ الوقت، ازدادت «تحرير الشام» نفوذاً وقوة، إلى أن تمكنت مطلع 2019 بعد موجة من القتال مع «حركة أحرار الشام» و«حركة نور الدين زنكي» وفصائل أخرى من إحكام سيطرتها على كامل محافظة إدلب، إضافة إلى أجزاء واسعة من محافظات حلب وحماة واللاذقية.

قائد يعرف جنوده

يقول سامي محمد، وهو قيادي شرعي ثم عسكري سابق في «تحرير الشام»، لـ«الشرق الأوسط»: «أهم عامل في بقاء واستمرارية (تحرير الشام) هو استقلالية القرار، وكاريزما القيادة التي يتمتع بها أحمد الشرع وقادة (تحرير الشام)، وتأثيرهم المباشر على عناصرهم، بالإضافة إلى الانضباط العالي والتزام العناصر والقادة بقرارات القيادة».

أبو محمد الجولاني (الثاني من اليمين) يناقش تفاصيل عسكرية مع القادة الميدانيين في ريف حلب في 2016 (أ.ب)

ولفت محمد إلى الأمر الآخر والمهم جداً هو الثقة التي بناها أحمد الشرع مع العناصر والقادة، فهو يعرف كل قادة الصفوف كلهم حتى الصغيرة ويلتقي بهم وبالعناصر بشكل دائم، وهذا عزز الثقة ومكانته بينهم وداخل التنظيم، بعكس حال الفصائل التي تتسم بالفوضوية والارتجال في القرارات».

وبحسب محمد، فإن «هيئة تحرير الشام» هي أشبه بكلية عسكرية فعلية، بعيدة عن المناطقية سواء لجهة انتماء العناصر أو القادة، بعكس الفصائل التي كان يغلب عليها الطابع المناطقي، وأحياناً العائلي. كما أن خطاب الجماعة لم يكن مناطقياً، بل اعتمدت في سردياتها الحديث عن سوريا كاملة. وعما يقصده محمد بالكلية العسكرية، يقول: «هناك هيكلية قيادية وتنظيمية واضحة بالإضافة إلى مركزية اتخاذ القرار وتنفيذ السياسات التي ترسمها القيادة عبر المجموعات، وهذا عزز كثيراً قوة (تحرير الشام) بعكس الفصائل التي ليس للقيادة المركزية قيمة حقيقية فيها؛ فكل فصيل يتكون من مجموعات محلية تعمل بشكل مستقل وتتبع الفصيل الأساسي بالاسم فقط».

الاستقلالية وتجاوز الخطوط

ويقول محمد الإبراهيم، المعروف باسم «أبو يحيى الشامي»، وكان قائداً عسكرياً في أحد الفصائل الإسلامية، والمُطّلع على تقلبات الفصائل: «إن أهم عامل من عوامل صعود (هيئة تحرير الشام) هو الاستقلالية النسبية التي تمتعت بها، وقدرتها على تجاوز الخطوط المرسومة».

ويشرح الشامي في اتصال مع «الشرق الأوسط» قوله بأن بقية الفصائل ذات التبعية المباشرة لدول معينة، التزمت بخط هذه الدول إلى حد بعيد ووقفت عند سقف محدد لها، بينما عدم تبعية «تحرير الشام» بشكل مباشر حررها من التقيد بسياسة خارجية، فكانت متحررة وقادرة على التصرف بما تمليه مصالحها المباشرة وصولاً حتى إلى تدمير بقية الفصائل.

الرئيس السوري أحمد الشرع على فرس أسود في دمشق (متداولة)

ويلفت الشامي إلى أن «ذلك لم يكن فقط بسبب قوتها الذاتية، بل بسبب تصنيفها الدولي كياناً إرهابياً، وعدم انخراط الدول في علاقة معلنة معها على غرار فصائل أخرى». وأضاف: «هذا البعد الدولي الظاهري والقرب الخفي أتاح لها هامشاً واسعاً من الاستقلالية؛ ما جعل قدرتها على المناورة والتميز عن بقية الفصائل أكثر قابلية».

ويؤكد الشامي أن «الجولاني، في صراعاته مع فصائل الثورة، وضع كل الاعتبارات جانباً وسعى خلف مصالحه ومصالح فصيله. فكان يقاتل بكل شراسة ويحرص على التغلب. على عكس فصائل كثيرة ارتضت بأنصاف الحلول».

وأخذ الشامي على بقية الفصائل «جبنها» أحياناً في المواجهات مع «هيئة تحرير الشام»، فكانت تقبل بالحلول التي يطرحها الجولاني وتصدق في كل مرة أنه يريد الصلح بينما هو يخدعها ليضعفها ثم يفككها ثم يقضي عليها.

ويضيف الشامي: «هناك تسجيل صوتي منتشر لحسن الدغيم، (الذي كان مسؤول التوجيه المعنوي في الجيش الوطني السوري ثم أصبح الناطق باسم لجنة الحوار الوطني في إدارة أحمد الشرع بعد سقوط النظام السابق) قال فيه صراحة إن الجولاني شخص براغماتي، يضحي بأي شيء وأي شخص من أجل الوصول إلى السلطة». وبحسب الشامي، فإن «هذه البراغماتية كانت العامل الأهم في إدارة الهيئة، والقضاء على خصومها ومنافسيها أو تحييدهم، وإعادة استيعابهم ما أدى إلى إفراغ الساحة من أي مشاريع منافسة، بحيث لم يبقَ سوى مشروع حكومة الإنقاذ، التي انتقلت لاحقاً إلى دمشق بعد التحرير».

مقاتل من «هيئة تحرير الشام» يحمل سلاحه ويطل على مدينة حمص نهاية يناير 2025 (غيتي)

وختم الشامي بالقول إن «خبرة الجولاني العملية اكتسبها في سوريا، فلم تكن لديه هذه القدرات سابقاً. لكنه طموح جداً، ويُجيد الاستفادة من الإنجازات كما تعلم الدروس من أخطاء (داعش) و(النصرة)».

وبطبيعة الحال، لم يكن هذا الفوز ممكناً لولا أن ساهم رجال كثيرون لا سيما الشرعيون من «جبهة النصرة» و«هيئة تحرير الشام»، وخارجهما في توطيد شرعية الجولاني ومكانته من خلال الدعاية الدينية. وأبرز هؤلاء مسؤول إدارة التواصل السياسي زيد العطار المعروف تنظيمياً بـ«أبو عائشة»، وأصبح اليوم وزيراً للخارجية (أسعد الشيباني)، والمسؤول الأمني «أبو أحمد حدود» أو أنس خطّاب الذي أصبح اليوم أيضاً مديراً للاستخبارات العامة.

النصر... نصر مشترك

ويقول القيادي السابق في الجيش الحر علاء الدين أيوب، المعروف باسم «الفاروق أبو بكر»، والذي قاد مفاوضات خروج الفصائل من حلب عام 2016: «اختلفنا سابقاً حول سلوك (جبهة النصرة) – ثم (فتح الشام) – ثم (هيئة تحرير الشام)، في تعاملها مع فصائل الجيش الحر. لكن لا يمكننا إنكار أنها كانت الأكثر تنظيماً وتدريباً من بيننا. وعملت الهيئة على تنظيم صفوفها وتدريب مقاتليها، لكن في الوقت عينه لا يمكن نسب النصر الذي تحقق أخيراً لها وحدها».

أحمد الشرع وقادة الفصائل في إعلان انتصار الثورة 29 يناير الماضي (رويترز)

وأضاف لـ«الشرق الأوسط»: «كان للنصر في عملية ردع العدوان عوامل كثيرة، منها الخارجي كالتدافع الدولي والصراع بين الدول ومنها الداخلي الشعبي والعسكري الذي انعكس في نضال عشرات الآلاف من المقاتلين في المعارك ضمن فصائل الثورة... ومع ذلك، يُحسب للهيئة تفوقها على غيرها في استغلال الفرص».

وأردف أيوب قائلاً: «نعلم جميعاً المرحلة التي سبقت سيطرة الهيئة على إدلب، والمعارك التي خاضتها ضد بقية الفصائل. ولا يمكننا إغفال أن السبب الرئيسي برأيي في سيطرة الهيئة دون غيرها كان تشرذم الفصائل، وعدم قدرتها على تقديم نموذج موحد ومتماسك».

وتابع: « طغت الأنا، وظهر أمراء حرب حولوا فصائلهم أدوات استثمار لتحقيق مكاسب شخصية مالية وسلطوية، فضعفت الفصائل والانتماء إليها. وقد عزز هذه الصورة الدعم الخارجي، وارتهان الكثير من قادة الفصائل لإملاءات الجهات الداعمة».

تشكيلات بولاءات كثيرة

أما بالنسبة للتشكيلات السياسية وأبرزها «الائتلاف الوطني السوري» الذي يمثل الجناح السياسي للمعارضة المسلّحة والمخوّل بالتفاوض قبل سقوط النظام، فقد تشكل بدعم وغطاء تركي وإقليمي ما جعل ولاءات معظم الشخصيات والمجموعات داخله مقيدة بالدول التي ساهمت في إنشائه.

مارة يعبرون من خلف زجاج خلال إطلاق نار في دمشق (غيتي)

وختم أيوب بقوله: «على مدار أربعة عشر عاماً من الثورة السورية، برزت قيادات كثيرة كانت تمتلك خلفيات دينية وشعبية وثورية، مثل: زهران علوش، عبد القادر الصالح قائد لواء التوحيد، وحسان عبود زعيم (أحرار الشام) معه أبو يزن الشامي، وجمال معروف زعيم فصيل (جبهة ثوار سوريا) الذي قضت عليه (تحرير الشام) عام 2014، لكنهم أبعدوا عن المشهد، سواء بالاغتيال الجسدي أو بالاغتيال المعنوي بينما كان الجولاني الأوفر حظاً في البروز بعد تخفٍّ، والنجاة ثم الفوز بفضل عوامل عدة، أهمها، تجربته السابقة في العراق، وقدراته الأمنية والعسكرية».