ترتكز منظومة الردع في جوهرها على عامل المصداقيّة. وهذا يعني: استعمال وسائل الردع من قبل الرادع ضدّ المردوع الذي لم يلتزم بالخطوط الحمر. على هذه الوسائل أن تُنزِل بالمردوع ثمناً يساوي -في حدّه الأدنى- الأرباح التي حقّقها. لكن من المفُضّل أن تكون الأثمان أكبر بكثير من الأرباح. وتعتمد منظومة الردع على الوضوح الاستراتيجي، أي أن على الرادع أن يُرسل إلى خصمه، من وقت إلى آخر، إشارات ورسائل بطرق متعدّدة، لإظهار الجديّة والعزم. وقد تبدأ الإشارات من الخطاب الشفهي، إلى الدبلوماسيّة، وحتى إلى تجربة بعضٍ من وسائل الردع العسكريّة، من مناورات عسكريّة أو تجربة أسلحة جديدة، وغيرها.
الردع على المسرح الأوكراني
يعتمد الرئيس بوتين منظومة ردع تقوم على التالي: استعمال كلّ ما أوتي من قوّة تقليديّة في حربه على أوكرانيا؛ خصوصاً أن موازين القوى هي لصالحه في كلّ الأبعاد. ولكي يستفرد بالمسرح الأوكراني، وعدم إتاحة الفرصة للغرب، وخصوصاً أميركا، لانتهاز هذه الفرصة الاستراتيجيّة لإغراقه في الوحل الأوكراني، أدخل الرئيس بوتين البُعد النووي كدرع غير تقليدية، تهدف إلى حماية البُعد التقليدي.
هذا من جهة الرئيس بوتين. أما من جهة الولايات المتحدة الأميركيّة، فقد اعتمد الرئيس بايدن الوضوح الاستراتيجيّ الذي يرتكز على الأبعاد التالية:
1. لا عسكر أميركياً أو من «الناتو» على المسرح الأوكراني.
2. لا مناطق حظر جوّي.
3. لا تجارب لصواريخ باليستيّة عابرة للقارات لعدم إحراج الرئيس بوتين.
4. عدم السماح للرئيس بوتين بنصر سريع وشامل في أوكرانيا؛ لا بل السعي إلى استنزاف الجيش الروسي في أوكرانيا إلى أقصى درجات الاستنزاف، لمنعه من استكمال طريقه إلى أبعد من أوكرانيا. فأوكرانيا، حسب المؤرّخ الأميركي- الأوكراني سيرهي بلوخي، هي الباب والمدخل إلى أوروبا كلها. لكن بعد الزيارات الأميركيّة من مستوى عالٍ جدّاً إلى كييف، وكذلك حجم المساعدات العسكريّة التي انتقلت من الصفة الدفاعيّة إلى أسلحة ذات طابع هجومي مع حرب إقليم دونباس، يبدو أنه أصبحت للرئيس بايدن سياسة واضحة وعلنيّة، تستهدف روسيا ومكانتها العالميّة، كما تستهدف الرئيس بوتين شخصياً. وحسب الهواجس الروسيّة، قد يعني هذا الأمر تفتّت وتقسيم روسيا.
إذن، حتى الآن، فشل الردع الروسي– النووي في حماية التقليديّ. وفي الوقت نفسه، يبدو أن الردع الأميركي التراكمي يسير بخطى واثقة، وذلك عبر الاستنزاف المستمرّ للجيش الروسي، والذي أظهر هشاشة عالية في كلّ الأبعاد العسكريّة. وهنا تظهر معضلة بوتين في ردعه النووي للغرب و«الناتو»؛ لكن كيف؟
> هو غير قادر على إرسال تحذيرات حسيّة حول إمكانيّة استعمال «النووي» وصعوبة التفجير النووي كرسالة، وذلك بعكس التقليديّ.
> هو اكتفى بخطاب تحذيري على كل المستويات، منه شخصياً، عدّة مرّات، وكذلك من الرئيس السابق ديمتري مدفيديف، ومن وزير الخارجيّة سيرغي لافروف.
لكن المفاجأة أتت من على شاشة تلفزيون روسي، وضمن البرنامج الأكثر شعبيّة في روسيا (60 دقيقة). في هذا البرنامج، تمّت محاكاة قصف 3 دول أوروبيّة بواسطة الصاروخ النووي «سارمات»، وهي: بريطانيا، وألمانيا، وفرنسا. في هذه المحاكاة، يتمّ تدمير هذه الدول عن بكرة أبيها، وخلال دقائق معدودة. فكيف يمكن تحليل هذه المحاكاة أو الرسالة؟
> إن بث المحاكاة ضمن البرنامج الأكثر شعبيّة في روسيا، إنما يعني أن هذه الرسالة موجّهة للداخل الروسي أكثر منها إلى الخارج.
> اثنتان من الدول المستهدفة هما الأكبر في الاتحاد الأوروبيّ، وهي عادة تعاند بعض السياسات الأميركيّة؛ خصوصاً المتعلّقة بروسيا وموضوع توسيع حلف «الناتو»، وهما فرنسا وألمانيا، أما بريطانيا فهي العدو الدائم لروسيا.
> اثنتان من الدول المستهدفة هما دولتان نوويّتان، وعضوان في مجلس الأمن (فرنسا وبريطانيا)، ولديهما ترسانة نوويّة ليست بقليلة (فرنسا 290 رأساً نوويّاً، وبريطانيا 225). وهما دولتان لديهما إمكانيّة تنفيذ الضربة الثانية. والمقصود بالضربة الثانية هو أن هذه الدول لديها القدرة على إطلاق السلاح النووي من أبعاد ثلاثة، من البرّ والبحر والجوّ، وهذا يعني أنها رغم قصفها من البرّ بصاروخ «سارمات»، فهي لا تزال قادرة على إطلاق قنابل نوويّة من أي غواصة مثلاً باتجاه موسكو، وهذا بحدّ ذاته يعتبر رادعاً لبوتين.