داليدا تحكي حياتها في 7 من أغانيها

الفنانة الإيطالية المصرية تمنت الموت على خشبة المسرح

الفنانة العالمية داليدا (غيتي)
الفنانة العالمية داليدا (غيتي)
TT

داليدا تحكي حياتها في 7 من أغانيها

الفنانة العالمية داليدا (غيتي)
الفنانة العالمية داليدا (غيتي)

35 سنة انقضت على رحيل الفنانة العالمية داليدا، ففي 3 مايو (أيار) 1987، صمت صوتها على مسارح العالم، وانطفأت شمعة حياتها، بيد أن أغانيها لم تصمت يوماً واحداً خلال تلك السنوات. ولو كانت بيننا اليوم لكانت تحتفل بعيدها الـ89.
حددت داليدا توقيت رحيلها بنفسها، ليصح ما جاء في أغنيتها: «أنا التي اخترت كل ما في حياتي، أريد اختيار موتي أيضاً».
صحيح أنها إيطالية الأصل واسمها الحقيقي يولاندا جيليوتي، فإنها ولدت ونشأت في القاهرة، حيث عاشت 20 عاماً، قبل أن تنتقل إلى فرنسا. حملت بفخر جذورها المصرية، واحتفت بها من خلال أغانٍ عدّة، فكانت الجسر الذي وصل الأغنية العربية بالغربية. وصفت المصريين بـ«أحسن ناس»، وغنت كلام صلاح جاهين: «أنا من شبرا في مصر وأولادها الطعمين، النيل بيضحك ويغني فاكرني وبيسأل عني». في شبرا درست، وفي القاهرة بدأت مشوارها، ولمصر كرّست معظم أغانيها الناطقة بالعربية مثل «حلوة يا بلدي»، و«سالمة يا سلامة» وغيرها.

في مثل هذا اليوم، وضعت نجمة القرن العشرين، حداً لحياتها. انطفأت الأنوار في غرفتها، في حي مونمارتر الباريسي، ليتحوّل الضوء إلى تفاصيل معاناتها الصامتة حيناً والمغناة أحياناً، التي أودت بها إلى تلك النهاية التراجيدية.
تركت داليدا خلفها مئات الأغنيات، منها الصاخب المَرِح، ومنها الهادئ الحزين. وبين سطور بعضها، تُروى حكاية الطفلة يولاندا، التي كبرت في حي شبرا المصري، والمرأة التي طحنتها العلاقات العاطفية الفاشلة، والنجمة التي أضاءت عيون الناس ولم تستطع أن تضيئ روحها المنهَكة.

«زمن والدي»
لطالما كانت العلاقة مُلتبسة بين داليدا وأبيها بييترو. تقول في إحدى مقابلاتها إنها أخفت حبها العظيم له، تحت طبقة سميكة من الكره. فقد كان عنيفاً وصارماً مأخوذاً بمهنته، عازف كمان أول في أوبرا القاهرة، ويولاندا الصغيرة تلحق به من تمرين إلى آخر، ومن حفلة إلى أخرى، وتنتظره في الكواليس لشدة تأثرها به.
في هذه الأغنية تسترجع طفولتها وزمن والدها: «تعال حدّثني عن زمن أبي، عن البيت ذي الشبابيك الزُرق».
خسرت داليدا والدها وهي في الـ12 من عمرها، ويقول من تابعوا حياتها عن كثب، إنها لم تشف يوماً من تلك العلاقة المعقدة معه، لا سيما بعد أن تدهورت حالته العصبية في آخر سنة من حياته.

«هناك دائماً أغنية»
في مقابلة مع مجلة «باري ماتش» الفرنسية عام 1984، تبوح داليدا: «عيناي هما مأساة حياتي». فأول معاناة طرقت بابها كانت المرض الذي أصاب عينيها وهي بعد في شهرها الثامن عشر.
تقول في الأغنية: «في ذاك العام، كنت في الـ16، وكنت ما زلت أرتدي النظارات. قررت عندما رأيته أن أرميها من النافذة».
لعلها الأغنية الوحيدة التي تلمّح فيها داليدا إلى الالتهاب الخطير الذي كاد أن يودي ببصرها وتسبب لها بندوب جسدية ونفسية، فهي تعرضت للتنمر في صغرها بسبب الحول في عينها اليمنى.
بعد خضوعها لجراحات عدّة من أجل تصحيح النظر، استطاعت أخيراً أن تخلع النظارات وترميها من النافذة. ولاحقاً مع انطلاقة نجوميتها، تميزت بنظرتها الثاقبة اللامعة، وبالكحل الأسود الذي كاد لا يفارق جفنَيها.

«أهلا يا حب»
أول جرحٍ في القلب أرّخت له داليدا من خلال هذه الأغنية التي كتبها حبيبها لويجي تينكو وأداها في إحدى المباريات الموسيقية عام 1967، وبعدما فشلت الأغنية في إقناع اللجنة التحكيمية، عثرت داليدا عليه منتحراً في غرفة الفندق. بعد صدمة عصبية حادة أصابتها ومحاولة أولى للانتحار، تبنت الأغنية، وجالت بها العالم في تحية منها لذكرى حبيبها الراحل، فحققت نجاحات هائلة واحتلت أولى المراتب، إلا أنها لم تنجح في إرجاع لويجي.

«كان قد بلغ 18 سنة»
تروي هذه الأغنية قصة داليدا مع حبيبها لوتشيو، الذي كان يصغرها بـ12 عاماً، والذي التقته بعد رحيل لويجي. هي باختصار حكاية العلاقة غير المتوازنة، بين امرأة في منتصف الثلاثينات وشاب في بداية العشرينات، والتي أسفرت عن حملٍ انتهى بعملية إجهاض تسبب لها بعقم أبديّ.
انكسر حلم الأمومة وانكسرت هي معه. العقم الأبدي رافقته كآبة أبديّة، ويُحكى أن أحد أبرز الأسباب التي دفعتها للانتحار هو عدم تمكنها من إنجاب طفل يكون نجم حياتها.

«هاتفوني»
«أنا بنظركم نجمة، لكني لست سوى امرأة ترك المجد كدمات على روحها، أريد أن أسمع كلمات غير تلك التي تُكتب عني في الصحف، أنا بحاجة إلى صوت، اتصلوا بي».
تشبه هذه الأغنية نداء استغاثة تُطلقُه داليدا إلى من يظنون أن امتلاء حياتها الفنية يعني حكماً امتلاء الخاصة منها. تنادي الناس وتبوح لهم بوحدتها: «تظنونني سعيدة وهانئة لكني وحيدة على جزيرتي».
بعد الحرمان من الأمومة قد تكون الوحدة هي السبب الأساسي الثاني، الذي أغرق داليدا في كل تلك الكآبة. ملايين المعجبين، وجماهير لم تتأخر يوماً عن الموعد معها، زملاء وأصدقاء وفريق عمل جميعهم محيطون بها، غير أن الوحدة كانت الصديقة الأكثر التصاقاً بروحها. والموضوع يعود ويتكرّر في أغنيات أخرى مثل «كي لا تعيش وحيداً»؛ تقول داليدا في إحدى المقابلات معها: «أحيط نفسي بالكتب لأشعر بوحدة أقل».

«الموت على خشبة المسرح»
كانت ترغب بنهاية تحت الأضواء وأمام عيون الجماهير، لكنها انطفأت وحيدة في غرفتها، خلف الستار. في تلك الأغنية غازلت الموت وراقصته، دعته إلى زيارتها في أقصى لحظات فرحها، وهي تغني على المسرح: «نعم أريد الموت على الخشبة بقلب مفتوح تملأه الألوان، أريد موتاً من دون ألم، في الموعد الأخير، أريد الموت على المسرح وأنا أغني إلى ما لا نهاية».
وحده التنبّؤ الذي صدق في تلك الأغنية كان عبارة: «أنا التي اخترت كل ما في حياتي، أريد اختيار موتي أيضاً».



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)