طريقة بسيطة تجعل الشوارع أكثر أماناً للمشاة

المشاريع الفنية المرسومة على الشوارع والتقاطعات تحسن الأمن بشكل كبير
المشاريع الفنية المرسومة على الشوارع والتقاطعات تحسن الأمن بشكل كبير
TT

طريقة بسيطة تجعل الشوارع أكثر أماناً للمشاة

المشاريع الفنية المرسومة على الشوارع والتقاطعات تحسن الأمن بشكل كبير
المشاريع الفنية المرسومة على الشوارع والتقاطعات تحسن الأمن بشكل كبير

ذكرت الإدارة الفيدرالية للطرق السريعة، أن أكثر من نصف حوادث اصطدام السيارات المميتة أو التي تخلّف الإصابات، تقع عند تقاطعات الطرق أو بالقرب منها. وخلال فترة الوباء، بلغت حوادث التصادم المؤذية أو المميتة مستويات تاريخية مرتفعة، ففي الأشهر التسعة الأولى من سنة 2021، قُتل أكثر من 31 ألف شخص على الطرق الأميركية، بزيادة مقدارها 12 في المائة عن السنة الماضية. وهذه أكبر زيادة منذ بدء حفظ السجلات سنة 1975.
تُظهر دراسة جديدة من مؤسسة «بلومبرغ الخيرية»، أن حل جزء من أزمة الصحة العامة هذه، يمكن أن يتلخص في أداة بسيطة ومفاجئة. ليست إشارة مرور جديدة أو جزءاً كبيراً من البنية التحتية الأمنية: إنه دلو من الطلاء.
وتقول الدراسة، إن المشاريع الفنية المرسومة على الشوارع والتقاطعات تحسّن الأمن بشكل كبير؛ مما يخفض معدل اصطدام السيارات والمشاة بنسبة تصل إلى 50 في المائة، وجميع حوادث الاصطدام بنسبة 17 في المائة.
تتضمن مشاريع الإسفلت الجداريات متعددة الألوان، إضافة إلى أعمال الطلاء في الشوارع، والممرات المتقاطعة، والأسفلت في تقاطعات الطرق المزدحمة وحولها. ففي كثير من الأحيان، تكون أكثر إشراقاً ويصعب على السائقين تفويت النظر إليها، مما يدفع بالسائقين إلى التباطؤ، ويكونون أكثر حذراً، وأكثر انتباها للمشاة.
تم تبني هذه التدخلات البسيطة كجزء من مبادرة «بلومبرغ الخيرية» لفن الإسفلت، التي قدمت منحاً مالية إلى 41 مدينة أميركية و3 مدن أوروبية؛ مما أسفر عن 45 مشروعاً لرسم الشوارع. ركزت هذه الدراسة على بعض هذه المشاريع، ونتائجها توفر بيانات توحي بأنها يمكن أن تجعل التقاطعات أكثر أماناً.


                          لوحات فنية مرسومة على الشوارع والتقاطعات

تقول جانيت صادق خان، مديرة النقل في شركة «بلومبرغ أسوشييتس»، والذراع الاستشارية لمؤسسة بلومبيرغ الخيرية «إن ما نراه اليوم في جميع أنحاء البلاد، هو وباء من ضحايا حوادث المرور، وتريد المجتمعات أن ترى شوارعها هادئة، ولا يريدون رؤية الدماء فيها. هذه أداة أخرى من صندوق الأدوات».
والسيدة جانيت هي المفوضة السابقة لإدارة النقل في مدينة نيويورك، التي قادت عملية تسيير المشاة في تايمز سكوير، بدأت بعمل طلاء بسيط في الشارع وبعض الأعمدة البلاستيكية لحركة المرور. وقالت «لم يتوقع أحد النجاح لذلك». لكن وفقاً لتحليل أجري، لم يكن للمشروع أي تأثير سلبي على أوقات الانتقال، وزاد من نشاط المشاة، حتى أنه أفاد بالأعمال التجارية في المنطقة، وأضافت «إن الطلاء وغيره من العلاجات المؤقتة تكلف جزءاً ضئيلاً من العمل الخرساني والرأسمالي، ومن الممكن أن تحقق نتائج حقيقية بتكلفة مالية بسيطة».
الآن، يجري تنفيذ هذه الأنواع من التدخلات منخفضة التكلفة في جميع أنحاء البلاد، مع فوائد مماثلة. وقد حللت الدراسة، التي أجراها مركز «سام شوارتز» الاستشاري، 22 مشروعاً ممولاً من قبل «بلومبرغ» في الولايات المتحدة، بمقارنة بيانات الأعطال من قبل وبعد إدخال الأعمال الفنية، والتي يرجع تاريخها إلى سنة 2016، بعض هذه المشاريع أنجزت ببضعة آلاف من الدولارات فقط. وبعضها كلفت مئات فقط.
وقد لوحظت مشاريع في مدن مثل بيتسبورغ، حيث كان هناك تقاطع خُماسي كبير، حيث أضيفت ممرات المشاة المخططة بجرأة واضحة، مع رسم الزهور الملونة على الإسفلت خارج ممرات التحرك. وهناك مشروع آخر في دورهام بكارولينا الشمالية، حيث ملأت جدارية كبيرة من الأجسام السماوية الزرقاء تقاطعاً من أربعة جوانب. ومن بين المدن الأخرى التي تدخلت في هذه العمليات، مدن ترنتون، وأتلانتا، وفورت لودرديل. وقد شهدت أكثر من ثلاثة أرباع المشاريع التي درست، انخفاضاً في حوادث المرور بعد إضافة الأعمال الفنية.
وتقول جانيت «ما نراه مراراً وتكراراً، هو أن إصلاح الشوارع يمنحنا مساحة كبيرة لتصاميم شوارع أكثر أماناً. وإن استخدام الأعمال الفنية الحضرية النابضة بالحياة يمكن أن يظهر حقا ويصبح من بعض النجاحات الكبرى للمدن».
هذه التدخلات لا تترجم تلقائياً إلى تحسينات في السلامة. ووجدت الدراسة، أن مشاريع الإسفلت الفنية في أتلانتا ديكاتور بولاية جورجيا، لم تكن مرتبطة بتخفيضات التصادم، مع ارتفاع معدلات التصادم بنسبة 41 في المائة و28 في المائة على التوالي.
لكن مؤسسة «بلومبرغ الخيرية» تخطط لمواصلة هذا العمل. وستقدم 25 ألف دولار منحاً إلى 20 مدينة أوروبية للقيام بمشاريع فنون الرصيف الخاصة بهم. وقد فُتح باب التقديم على تلك المنح، وسيعلن عن المدن الفائزة في الخريف المقبل.
تتناول الدراسة بالتفصيل خصائص كل مشروع، بما في ذلك كثافة الحي المحيط به، ووضع الأعمال الفنية في الشارع، ووجود الإشارات أو غيرها من البُنى التحتية التقليدية للتحكم في حركة المرور. وتقول جانيت، إن الدراسة تقدم البيانات الأولية التي تريدها المدن قبل الشروع في شيء جديد. مع انخفاض عدد حوادث الاصطدام التي أُبلغ عنها في الدراسة، وتأمل بأن تشهد المدن الأخرى فوائد تنفيذ هذا النوع من المشاريع. وتضيف «إن هذه المعلومات تعطى لرؤساء البلديات وأعضاء المجتمع المحلي، وحتى لصانعي السياسات الوطنيين، الدليل على أن مثل هذه المشاريع لن تسبب أي ضرر، بل إنها قادرة في الواقع على منع وقوع الضرر في المقام الأول».
- خدمات «تريبيون ميديا»



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)