حمل إعلان موسكو، أمس، إحكام السيطرة على مدينة ماريوبول الاستراتيجية المحاصرة منذ مطلع مارس (آذار) الماضي، أول تطور نوعي واسع النطاق في العملية العسكرية الروسية المستمرة منذ 57 يوماً في أوكرانيا.
ورغم عدم تأكيد المعطيات من الجانب الأوكراني، لكن الإعلان الروسي انعكس ميدانياً وسياسياً، إذ تحدثت معطيات عن نقل بعض القوات الروسية التي شغلت مواقع في محيط ماريوبول شمالاً، بهدف توسيع الهجوم الروسي في محيط دونيتسك وسط مؤشرات إلى زيادة الضغط العسكري في خاركيف، وتوقعات بأن تتقدم القوات مجدداً نحو مدينة نيكولايف الأوكرانية. سياسياً، بدت موسكو مرتاحة لـ«الإنجازات» الكبيرة التي تم تحقيقها في ثالث أيام «معركة دونباس»، ما مهد لإعلان خطوات «عقابية» جديدة ضد الولايات المتحدة وكندا وبلدان حوض البلطيق، فضلاً عن تأكيد تمسكها بشروطها في المفاوضات مع الجانب الأوكراني.
وأبلغ وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو الرئيس فلاديمير بوتين بإنجاز «تحرير» مدينة ماريوبول، وأكد خلال اجتماع حكومي أن القوات الروسية «فرضت سيطرة كاملة على المدينة، وأنها تستعد لتحييد نحو ألفي مسلح ما زالوا محاصرين في منطقة مصنع «أزوفستال». وخاطب شويغو الرئيس بالإشارة إلى أنه «تم تحرير ماريوبول من قبل القوات المسلحة الروسية وقوات جمهورية دونيتسك الشعبية، وفلول التشكيلات القومية المتطرفة والمرتزقة الأجانب باتوا مطوقين بشكل كامل في منطقة المصنع». وأشار شويغو إلى أنه خلال اليومين الماضيين، أعلن الجانب الروسي نظام وقف إطلاق النار لساعتين يوميا، مع توقف جميع الأعمال القتالية، وفتح ممرات إنسانية لخروج المدنيين الذين قد يكونوا على أراضي «أزوفستال».
ووفقا للوزير، فإنه منذ تطويق ماريوبول «كان عدد القوات الأوكرانية والمرتزقة الأجانب يبلغ حوالي 8100 فرد، وخلال عملية تحرير المدينة، تم القضاء على أكثر من 4000 منهم، واستسلم 1478 آخرون، فيما تم تطويق المجموعة المتبقية التي تضم أكثر من 2000 مسلح، في منطقة (أزوفستال) الصناعية». وأوضح أن القوات الروسية «بحاجة إلى ثلاثة أو أربعة أيام إضافة لـ«إكمال العملية والقضاء على من تبقى في أزوفستال».
من جانبه، أعرب بوتين عن اعتقاده بأن اقتحام منطقة «أزوفستال» الصناعية المحصنة أمر «غير مجدٍّ» وأمر بإلغاء خطة اقتحام، انطلاقا من اعتبارات إنقاذ أرواح الجنود الروس. وقال بوتين إن القوات الروسية يجب أن تنطلق من اعتبارات الحفاظ على أرواح جنودنا وضباطنا وعدم السماح بسقوط ضحايا منهم خلال عملية اقتحام الأنفاق وشبكة الحماية المعقدة في المنطقة الصناعية». وأوعز بدلاً من ذلك بإحكام الطوق على «أزوفستال» وعدم السماح «ولا حتى لذبابة بالمرور».
ومع أن كييف لم تقر رسميا بوقوع ماريوبول في قبضة الجيش الروسي، لكنها اكتفت بتوجيه تحذيرات من وقوع «جرائم حرب» في المدينة. وقالت القيادة العسكرية إن «نشاطا واسعا يجري لنقل جثث لضحايا سقطوا أثناء القتال والتمهيد لعمليات انتقام واسعة».
في الأثناء، بدا أن التطور فتح شهية موسكو لتوسيع نطاق عملياتها في منطقة دونباس والمناطق المحيطة بها، وخصوصا في خاركيف التي شهدت تواصلاً لأعمال القتال والمواجهات الضارية. ونقلت وسائل إعلام حكومية روسية أن الجيش الروسي بدأ بإرسال تعزيزات من القوات التي كانت تحاصر ماريوبول باتجاه مناطق تقع إلى الشمال من المدينة. وسط توقعات بتعزيز الهجوم على خاركيف ومناطق أخرى في محيط دونيتسك.
ومهدت وزارة الدفاع الروسية لهذا التطور بالتحذير من «وضع مأساوي في نيكولايف»، وقال ميخائيل ميزينتسيف رئيس مركز إدارة الدفاع الروسي أن السلطات الأوكرانية في نيكولايف أوقفت صرف الإعانات الاجتماعية، وإمدادات المياه، منذراً بخطر حدوث كارثة وبائية. وقال ميزينتسيف: «الخدمات الاجتماعية لا تعمل، وإمدادات المياه الرئيسية متوقفة، يضطر الناس إلى تعبئة المياه من جميع المصادر المتاحة، بما في ذلك المصادر غير المختبرة مثل الأنهار والبرك والآبار المهجورة. إذا فشلت السلطات المحلية في اتخاذ تدابير فورية لإعادة تأهيل المناطق السكنية، ستتعرض مدينة نيكولايف إلى كارثة وبائية».
وذكر أيضاً أنه في نيكولايف، وعلى خلفية الوضع الإنساني الصعب، تم إيقاف الإعانات الاجتماعية للسكان، وسرقت الإدارة المحلية المساعدات الإنسانية ولوحظ وجودها في المتاجر والصيدليات بأسعار مضاعفة. وأضاف: «مثل هذه التصرفات من قبل نظام كييف تظهر مرة أخرى موقفه غير الإنساني تجاه مواطنيه وتشهد على الإهمال التام لجميع الأخلاقيات والقانون الإنساني الدولي».
في الوقت ذاته، أشارت تقارير روسية إلى اشتداد المعارك في مناطق عدة في إقليم لوغانسك الذي تسعى موسكو في المرحلة الجديدة من معركتها إلى فرض سيطرة كاملة عليه. علماً بأن الجيش الروسي كان قد واجه مقاومة ضارية في المنطقة خلال الأسابيع الماضية، ولم يتمكن من التقدم إلا في نحو 60 في المائة من الحدود الإدارية للإقليم وفقا للتوزيع الإداري الأوكراني قبل حرب 2014.
على صعيد متصل، قالت وزارة الدفاع الروسية في إيجاز صحافي يومي إن القوات الصاروخية والمدفعية الروسية قصفت خلال 24 ساعة 1001 هدف عسكري أوكراني. وأضافت أن القوات المسلحة الروسية «تمكنت مع قوات لوغانسك من السيطرة بالكامل على بلدة كريمينايا، التي كانت منطقة محصنة. وزادت أنه «بفضل التنسيق الجيد من جانب المهاجمين، تم تجنب حدوث دمار كبير في البنية التحتية الحضرية والمباني السكنية». وذكر البيان، أن الطيران الحربي الروسي قصف الليلة الماضية 20 موقع تمركز للقوات والمعدات العسكرية الأوكرانية في مناطق شوركي، ونوفونيكولايفكا، وألكساندروفكا.
وأشارت الوزارة إلى أن القوات الصاروخية والمدفعية الروسية قصفت خلال الـ24 ساعة الماضية، 1001 هدف عسكري أوكراني، بما في ذلك: 58 موقعا للقيادة، و162 موقع إطلاق نار للمدفعية الأوكرانية، و771 نقطة محصنة ومناطق تكديس الأفراد والمعدات العسكرية الأوكرانية في المراكز السكنية ماياكي وديبرفنيو ودلبينا كراسنوبوليه، وكاميشيفاخا فيليكويه وتشيرفونو، وفيرنوبولي وباشكوفا ودميتروفكا، وسلاتينو وفيسكويه وتشيرنوغلازكويه. وتمكن الدفاع الجوي الروسي من تدمير 13 طائرة بدون طيار أوكرانية في بلدات ومدن بيريزوفايا وبرازكوفا وفيركهنيتوريتسكو وديبروفكا وإيزيوم، وكالينوفكا وكيسليفكا ولوزوفايا ونوفوبوغدانوفكا، ونوفوبوغدانوفكا ونوفوكاند، كما تم تدمير صاروخ أوكراني قرب دونيتسك.
سياسياً، أعلنت موسكو أن الاتصالات بين فريقي المفاوضات الروسي والأوكراني متواصلة، وشددت في اليوم التالي بعد تقديم مسودة اتفاق سلام إلى الجانب الأوكراني على التمسك بشروطها لتحقيق تقدم في المفاوضات. في الأثناء، أعلنت روسيا أمس، أنها قررت إغلاق قنصليات تابعة لإستونيا وليتوانيا ولاتفيا على أراضيها وأعلنت طرد موظفي هذه القنصليات في إجراء جوابي على خطوات مماثلة كانت بلدان حوض البلطيق اتخذتها ضد قنصليات روسية. وأفادت الخارجية الروسية في بيان لها أنها استدعت سفيري لاتفيا، ماريس ريكستينش، وإستونيا، مارغوس لايدري، والقائمة بأعمال السفارة الليتوانية في موسكو، فيرجينيا أومبراسيني وأعربت عن «احتجاج شديد اللهجة» على الخطوات غير الودية المتمثلة بإغلاق القنصليات العامة الروسية في مدن كلايبيدا (ليتوانيا) وليبايا وداوغافبيلس (لاتفيا) ونارفا (إستونيا)، بالإضافة إلى مكتب شعبة الشؤون القنصلية للسفارة الروسية في مدينة تارتو الإستونية. وتابعت الوزارة: «بناء على مبدأ التعامل بالمثل مع مراعاة تقديم هذه الدول الدعم العسكري إلى نظام كييف ومنحها غطاء لجرائم القوميين الأوكرانيين بحق السكان السلميين لمنطقة دونباس وأوكرانيا، أعلنا عن قرارنا سحب موافقتنا على أنشطة القنصلية العامة اللاتفية في سان بطرسبورغ والقنصلية اللاتفية في بسكوف، والقنصلية العامة الإستونية في سان بطرسبورغ ومكتبها في بسكوف، والقنصلية العامة الليتوانية في سان بطرسبورغ».
وأعلنت موسكو تدابير عقابية أيضاً ضد كندا والولايات المتحدة. ونشرت وزارة الخارجية الروسية لائحة تتضمن أسماء 29 أميركياً، بينهم مسؤولون وسياسيون وشخصيات إعلامية ورجال أعمال، قالت إنهم ممنوعون من الدخول إلى أراضيها، رداً على عقوبات فرضتها واشنطن على موسكو على خلفية الحرب الأوكرانية. وبين المستهدفين نائبة الرئيس الأميركي كامالا هاريس، ورئيس مجموعة «ميتا» العملاقة مارك زوكربيرغ. كما أعلنت موسكو منع 61 كندياً؛ بينهم مسؤولون وصحافيون، من دخول أراضيها؛ رداً على العقوبات التي فرضتها أوتاوا على خلفية العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا. وقالت وزارة الخارجية الروسية إن المستهدفين «متورطون بشكل مباشر في تطوير وإسناد وتنفيذ التوجه المناهض لروسيا والذي يسلكه النظام الحاكم في كندا».