حسب الشيخ جعفر... أخذ من آبائه الشعريين ثم اختطّ مساره الخاص

رحيله اقترن بصدور أعماله الشعرية الكاملة في ثلاثة أجزاء

حسب الشيخ جعفر يتصفح أعماله الكاملة قبل رحيله بفترة قصيرة
حسب الشيخ جعفر يتصفح أعماله الكاملة قبل رحيله بفترة قصيرة
TT

حسب الشيخ جعفر... أخذ من آبائه الشعريين ثم اختطّ مساره الخاص

حسب الشيخ جعفر يتصفح أعماله الكاملة قبل رحيله بفترة قصيرة
حسب الشيخ جعفر يتصفح أعماله الكاملة قبل رحيله بفترة قصيرة

من المفارقة أن يقترن رحيل الشاعر الكبير حسب الشيخ جعفر بصدور أعماله الشعرية الكاملة في ثلاثة أجزاء في بغداد، وهذا الرحيل المفاجئ سيفتح الأبواب واسعة أمام النقاد لإعادة قراءة وتقييم تجربة هذا الشاعر، التجربة الغنية بعطائها وتنوعها وألقها، ووضعها في مسارها الحقيقي في سِفر الشعر العربي الحديث.
ويمكن اختزال تجربة الشاعر في أنها ثمرة سلسلة من الإخفاقات والإحباطات والفقدانات التي وشمت حياته، منذ أن غادر مدينته القروية الوادعة: ميسان، بأهوارها وبراءتها، واقتحم عالم المدينة المعاصرة، متمثلة ببغداد أولاً، وموسكو ثانياً، فكان مثل بدوي الروائي الليبي إبراهيم الكوني الذي فزع هو وناقته عند دخول المدينة الحديثة، وربما بمثال أقرب مثل الشاعر المصري الكبير أحمد عبد المعطي حجازي، وهو يواجه مدينة القاهرة العملاقة التي صدمته وعدها «مدينة بلا قلب» بعد أن كان قانعاً بما تقدمه له قريته الوادعة في «المنوفية».

ولكي يستعيد الشاعر تماسكه في وجه رياح التغيير التي حاولت أن تجرفه بقوة، راح يتوسل بالرموز والتمائم البدائية مثل الكوز والحندقوق ونخلة الله، ورموز الطفولة والأمومة وغيرها. ولذا لم يكن غريباً أو مفاجئاً أن يستهل الشاعر ديوانه الأول «نخلة الله» بقصيدة عن الكوز، كتبها عام 1964 متوسلاً به أن يستعيد من خلاله لمحاً من الماضي وحرارة خبز أمه: «وأمدُّ حبلاً من رماد يدي يا مطر النسيم إلى يديك لأحس وهجاً في يديك، لمحاً من الماضي، حرارة خبز أمي، وهج بسمتها الحنون». وفي قصيدة «نخلة الله» المكتوبة عام 1964 أيضاً يقيم الشاعر صلاته البدائية، وهو يتوحد ويتماهى مع نخلة الله، تميمته الأليفة: «يا نخلة الله الوحيدة في الرياح في كل ليل تملئين عليَّ غربتي الطويلة بالنواح فأهبّ: جئتكِ... غير أني لا أضمّ يدي وحبي إلا على الظل الطويل، ولا أمسّ سوى التراب وأنا وحيدٌ مثل جذعك، ظل يلفحني الغياب».
وحسب الشيخ جعفر ليس اسماً طارئاً في سِفر الشعر العراقي الحديث. إنه بالأحرى علامة مائزة وفارقة في مسيرة الشعر العراقي الحديث، منذ أن نشر عام 1962 قصيدته الأولى في مجلة «الآداب» البيروتية والتي لفتت إليه الانتباه بوصفه شاعراً ستينياً متميزاً ومجدداً. إلا أن البداية الشعرية الحقيقية الممتلئة للشاعر كانت مع ديوانه الأول «نخلة الله» عام 1969، ثم ديوانه الثاني «الطائر الخشبي» عام 1972، ولاحقاً بثلاثيته الشعرية عبر ديوانه «زيارة السيدة السومرية» عام 1974، ثم برباعية «عبر الحائط في المرآة» عام 1977 والتي توّجته شاعراً متميزاً عن أقرانه. شعراء الستينات، بشكل خاص شعراء «البيان الشعري» فاضل العزاوي وفوزي كريم وسامي مهدي وخالد علي مصطفى، والذين انشغلوا بمشروعهم الحداثي الجديد الذي أعلن عن القطيعة مع حداثة جيل الخمسينات الذي مثّلته تجارب نازك الملائكة وبدر شاكر السياب وعبد الوهاب البياتي، كما انشغلوا بالحفر في تضاريس اللغة الشعرية في ملامسةٍ لخصوصيات وتخوم قصيدة النثر وعرّابيها أدونيس وأنسي الحاج ومحمد الماغوط، وها هو الشاعر حسب الشيخ جعفر اليوم يقف شامخاً بأعماله الشعرية الكاملة وقد أنجز عبر سبعة عقود هذا الطود الشعري الباذخ الذي يحق لنا أن نتباهى به اليوم. ولم يقتصر إبداع حسب الشيخ جعفر على الشعر فقط بل أغنى المكتبة العربية بترجمات مهمة لشعراء روس بارزين أمثال ألكسندر بلوك، وسيرغي يسفين، ومايكوفسكي وآنا أخماتوف وغيرهم، كما كتب الرواية والمذكرات والدراسات الأدبية المختلفة.
أن أهم ما يميز الشاعر عن أقرانه شعراء الستينات، أنه لم يتنكر لآبائه الشعريين، شعراء الخمسينات، بل عمد إلى تطوير أنموذجهم الشعري الجديد، فأخذ من نازك الملائكة وهجها الرومانسي، ومن البياتي أقنعته وبساطته والتزامه بقضايا الإنسان، ومن السياب لغته وبنيته المدروسة للقصيدة الحديثة، وهو لم يقتنع بذلك فقط، بل سار بهذا المنجز نحو آفاق جديدة تتمثل في تطويره قصيدة التدوير التي كانت لها بدايات متواضعة لدى شعراء الحداثة آنذاك، جعلت الشاعرة نازك الملائكة تقف منها موقفاً متحفظاً في كتابها «قضايا الشعر المعاصر» الصادر عام 1962. في قضية التدوير استطاع حسب الشيخ جعفر إيجاد صيغة بنيوية شعرية جديدة تتجاوز البنية التقليدية لقصيدة الشعر الحر القائمة على وحدة البيت ومحدودية عدد التفعيلات، نحو بنية مفتوحة تتلاحق فيها التفعيلات وتتجمع على هيئة كتلة شبيهة بكتلة الفقرة paragraph في النثر، والتي ستجد لاحقاً حضوراً في تجارب شعراء قصيدة النثر. في القصيدة المدورة عند حسب الشيخ جعفر نجد هذا التلاحق في الأنفاس. والتراسل المتدفق لخيوط التجربة الشعرية التي لا تريد أن تتوقف عن التدفق، ما لم تصل إلى نهايتها الطبيعية، السيكولوجية والفنية والحياتية معاً، وفي توحد للمكان والزمان معاً.
ويمكن القول إن متن الشاعر الشعري هو بصورة أو بأخرى تجسيد لتجربة روحية ونفسية وفكرية وفنية وعاطفية عاشها الشاعر طيلة حياته. فهو ابن مدينة العمارة بعمقها الريفي وبأهوارها وطقوسها شبه البدائية، وهو أيضاً ابن الحركة الوطنية الديمقراطية العراقية وشاهد على العصر الذهبي من تجربة الاتحاد السوفياتي في أثناء دراسته في موسكو في الستينات، كما هو وريث أمين لتقاليد الحداثة الشعرية الخمسينية ولكل التراث العربي الكلاسيكي والإنساني.
وتظل عقدة الشاعر الأساسية متمثلة في الاصطدام بالمظاهر القيمية السلوكية للمدينة الحديثة، التي هزّته بعمق وصدمته وأخرجته عن توازنه فراح يتوسل بالماضي وتمائمه لكي يحافظ على تماسكه. وأشرت في دراسة نقدية لي عن تجربته المبكرة نشرتُها في «مجلة الآداب اللبنانية» عام1977 ونشرتُها في كتابي «معالم جديدة في أدبنا المعاصر» الصادر عام 1975، إلى أن الشاعر يبدو مثل النحات «فيدياس» الذي يصنع عبر النحت تمثالاً لامرأة جميلة اشتهاها ويتوسل بالآلهة أن تحيل تمثاله الحجري إلى امرأة حقيقية، وفعلاً يتحقق له ما يشاء فيتحول التمثال إلى امرأة جميلة، لكنها سرعان ما تجد لها حبيباً آخر، فتتركه للوعة الفراغ والخيبة. ويبدو أن الشاعر قد اكتشف عبث استرجاع حبيبته الخيالية، والتي حلم بها قبله الشاعر سيرغي يسينين أيضاً وجسدها الشاعر ألكسندر بلوك في البحث عن «السيدة الجميلة»، فكتب قصيدته الوداعية «مرثاة في مقهى» والتي نشرها في ديوانه «نخلة الله» والتي ودّع فيها أحلامه الرومانسية المستحيلة، واختار أن يرمي بجسده، ربما مثل فاوست غوته، إلى الشيطان حيث الفالس والنساء والموسيقى والرقص والشراب.
يمكن القول إن الشاعر حسب الشيخ جعفر قد وصل إلى ذروته الشعرية عبر دواوينه الثلاثة أو الأربعة الأولى، حيث ترك بصماته الواضحة على مسار التجربة الشعرية العربية الحديثة. أما تجاربه اللاحقة فقد مثّلت استثماراً للأرض التي فتحها سابقاً، وقدم فيها نماذج وكشوفات جديدة تُحسب له، وعليه، مرة واحدة.
فديوان «في مثل حنوّ الزوبعة» الصادر عام يكاد يكون حواراً داخلياً مع عشرات الأقنعة والرموز والتمائم البدائية لمدن وشعراء أمثال بوشكين وبدر شاكر السياب وصلاح عبد الصبور وحسين مروان وأمل دنقل، وغير ذلك كثير.
أما في «أعمدة سمرقند» فيكاد يكون معظم قصائد هذا الديوان قصائد تعليمية وتربوية، فهو يعترف بأن هذه القصائد تعتمد في معظمها، فكرةً وحدثاً، على أقاصيص «كليلة ودمنة» وحكايات أيسوب الإغريقي، وعلى الحكايات الشائعة في الآداب الشرقية القديمة، ولذا لم يكن غريباً أن يُهدي هذا الديوان إلى ذكرى الشاعر أحمد شوقي، الذي سبق له أن فعل شيئاً مماثلاً. إذ نجد إعادة صياغة شعرية لحكايات مشهورة مثل «ليلى والذئب» و«مالك الحزين» و«السمكة الذهبية» و«وضاح اليمن» و«أبي العلاء المعري» و«الإخوة كارامازوف» و«دون كيخوت» و«أخوان الصفا» و«أوفيليا» و«السندباد» وغيرها كثير. وهذه القصائد يغلب عليها الجانب التعليمي وتعتمد أساساً على الوصف وعلى بنية الحكاية، وفي تقديري أنها لا تنطوي على شعرية عالية. وربما يذكّر القراء أن نشرها في بعض الصحف العراقية منذ الستينات لرغبته في تجنب كتابة الشعر التعبوي المكرّس لتلميع صورة النظام الديكتاتوري ورمزه آنذاك صدام حسين. وحريٌّ بالنقد أن يحتفي بشكل خاص بفحص تجربة شعرية فريدة ومتميزة للشاعر تتمثل في قصيدته الطويلة أو المطولة «أنا أقرأ البرق احتطاباً» والتي تنساب كقصة ذات وحدة عضوية، دونما عنوانات فرعية أو أي شكل عنقودي لبناء القصيدة.
فهذه القصيدة التي تضم أكثر من ثلاثمائة صفحة، هي بمثابة سيرة ذاتية للشاعر، يستعرض فيها مراحل حياته الشخصية والشعرية، وتنطوي على موقف فلسفي من قضية الحياة والموت، كأنه يذكّرنا بصنيع الشاعر الفرنسي رامبو في «فصل في الجحيم». فحسب الشيخ جعفر يبدأ بكتابة سيرته، منذ بواكير حياته، ويكتب مرثاة لحياته وموته معاً: «ستعود ملتفاً كأي جثة ويضيق بالطفل الحقير ولعل، تحت النخلتين، ثرى يلوذ به الحصير».
ويعلن الشاعر انتماءه إلى أجواء مدينته ميسان وإلى نهري دجلة والفرات: «أنا كنت سفاناً ودجلة والفرات يتفضفضان، ويزجران فَلِمَ اصطناعي القارب الورقي أصفر كالفتات؟»، وهو في ختام قصيدته يذكّرنا بكبرياء أبي العلاء، إذ يقول: «لا ريب أني قائل ما لم يقله أحد سواي تمحو يدي، وتخط مدمنة عصاي». تجربة حسب الشيخ جعفر، التي نحتفي بها اليوم هي رمز لعطاء جيل واعد وشجاع استطاع أن يفرض حضوره الإبداعي والشعري في الحياة الثقافية، وهذا الاحتفاء، هو أيضاً احتفاء بالثقافة العراقية ورموزها المبدعة، والمنتجة.



ماجان القديمة ...أسرارٌ ورجلٌ عظيم

قطعتان ذهبيتان وقطعة نحاسية مصدرها موقع تل أبرق في الإمارات العربية
قطعتان ذهبيتان وقطعة نحاسية مصدرها موقع تل أبرق في الإمارات العربية
TT

ماجان القديمة ...أسرارٌ ورجلٌ عظيم

قطعتان ذهبيتان وقطعة نحاسية مصدرها موقع تل أبرق في الإمارات العربية
قطعتان ذهبيتان وقطعة نحاسية مصدرها موقع تل أبرق في الإمارات العربية

كشفت أعمال المسح المتواصلة في الإمارات العربية المتحدة عن مواقع أثرية موغلة في القدم، منها موقع تل أبرق التابع لإمارة أم القيوين. يحوي هذا التل حصناً يضمّ سلسلة مبانٍ ذات غرف متعددة الأحجام، يجاوره مدفن دائري جماعي كبير. وتُظهر الدراسات أن هذه المنشآت تعود إلى فترة تمتد من الألف الثالث إلى منتصف الألف الثاني قبل الميلاد، وترتبط بمملكة عُرفت في تراث بلاد الرافدين باسم ماجان. خرجت من هذا التل مجموعة من اللقى تشهد لتعدّدية كبيرة في الأساليب، وضمَّت هذه المجموعة بضع قطع ذهبية، منها قطعة منمنمة على شكل كبش، وقطعة مشابهة على شكل وعلَين متجاورين.

يقع تل أبرق عند الخط الحدودي الفاصل بين إمارة أم القيوين وإمارة الشارقة، حيث يجاور الطريق الرئيسي المؤدي إلى إمارة رأس الخيمة. شرعت بعثة عراقية باستكشاف هذا الموقع في عام 1973، وبعد سنوات، عُهد إلى بعثة دنماركية تابعة لجامعة كوبنهاغن بإجراء أعمال المسح والتنقيب فيه، فأجرت تحت إدارة العالِم دانيال بوتس خمس حملات بين عامَي 1989 و1998. خرج تل أبرق من الظلمة إلى النور إثر هذه الحملات، وعمد فريق من الباحثين التابعين لكلية برين ماور الأميركية وجامعة توبنغن الألمانية على دراسة مكتشفاتها في 2007. تواصلت أعمال التنقيب في السنوات التالية، وأشرفت عليها بشكل خاص بعثة إيطالية تعمل في إمارة أم القيوين منذ مطلع 2019.

استعاد دانيال بوتس فصول استكشاف هذا الموقع في كتاب صدر عام 1999 تحت عنوان «ماجان القديمة... أسرار تل أبرق». زار الباحث تل أبرق للمرة الأولى في 1986، يوم كان يقود أعمال التنقيب في مواقع مجاورة، وزاره ثانية بعد عامين، بحثاً عن مؤشرات أثرية خاصة تتعلّق بالأبحاث التي كان يقودها، وكان يومها يعتقد أن تاريخ هذا التل يعود إلى مطلع الألف الأول قبل الميلاد، ثم عهد إلى العالِمة الدنماركية آن ماري مورتنسن بمشاركته في استكشاف هذا الموقع، وتبيّن له سريعاً أن الأواني التي كشفت عنها أعمال المسح الأولى تعود إلى القرون الثلاثة الأولى قبل الميلاد بشكل مؤكّد. إثر هذا الاكتشاف، تحوّل موقع تل أبرق إلى موقع رئيسي في خريطة المواقع الأثرية التي ظهرت تباعاً في الأراضي التابعة للإمارات العربية المتحدة، وتوّلت البعثة الدنماركية مهمة إجراء أعمال المسح المعمّق فيه خلال خمسة مواسم متتالية.

حمل عنوان كتاب دانيال بوتس اسم «ماجان القديمة»، وهو اسم تردّد في تراث بلاد الرافدين، ويمثّل جزءاً من شبه جزيرة عُمان كما تُجمع الدراسات المعاصرة. يذكر قصي منصور التركي هذا الاسم في كتابه «الصلات الحضارية بين العراق والخليج العربي»، ويقول في تعريفه به: «تعدّدت الإشارات النصية المسمارية عن المنطقة التي عُرفت باسم ماجان، وهي أرض لها ملكها وحاكمها الخاص، أي إنها تمثّل تنظيماً سياسياً، جعل ملوك أكد يتفاخرون بالانتصار عليها واحداً تلو الآخر». عُرف ملك ماجان بأقدم لقب عند السومريين وهو «إين» أي «السيد»، كما عُرف بلقب «لوجال»، ومعناه «الرجل العظيم». واشتهرت ماجان بالمعادن والأحجار، وشكّلت «مملكة ذات شأن كبير، لها ملكها واقتصادها القوي»، ودلَّت الأبحاث الحديثة على أن مستوطنات هذه المملكة، «بما فيها الإمارات العربية وشبه جزيرة عُمان الحالية، كانت لها قاعدة زراعية، ولكي تجري حماية استثماراتهم هذه شعر المستوطنون بضرورة بناء التحصينات الدفاعية الممكنة لقراهم، حيث احتوت كل قرية أو مدينة صغيرة على أبراج مرتفعة، بمنزلة حصن مغلق واسع، يتفاوت ارتفاعاً ومساحةً بين مدينة وأخرى». يُمثّل تل أبرق حصناً من هذه الحصون، ويُشابه في تكوينه قلعة نزوى في سلطنة عُمان، وموقع هيلي في إمارة أبو ظبي.

يتوقّف دانيال بوتس أمام اكتشافه قطعةً ذهبيةً منمنمةً على شكل كبش في مدفن تل أبرق، ويعبّر عن سعادته البالغة بهذا الاكتشاف الذي تلاه اكتشاف آخر هو كناية عن قطعة مشابهة تمثّل كما يبدو وعلَين متجاورين. وتحمل كلٌّ من هاتين القطعتين ثقباً يشير إلى أنها شُكّلت جزءاً من حليٍّ جنائزية. إلى جانب هاتين الحليتين الذهبيتين، تحضر حلقة على شكل خاتم، وقطعة على شكل ورقة نباتية مجرّدة، إضافةً إلى زر صغير، وتُكوّن هذه القطع معاً مجموعة ذهبية صغيرة تجذب ببيرقها كما بصناعتها المتقنة. يحضر الكبش في وضعية جانبية، ويتميّز بطابع تجسيمي دقيق، يتجلى في جانبيه. في المقابل، يحضر الوعلان متقابلين بشكل معاكس، أي الذيل في مواجهة الذيل، ويتميّزان كذلك بحذاقة في التنفيذ تظهر في صياغة أدّق تفاصيل ملامح كل منهما.

يذكر احد النقوش أن «لوجال ماجان»، أي عظيم ماجان، أرسل ذهباً إلى شولكي، ثاني ملوك سلالة أور الثالثة الذي حكم من 2049 إلى 2047 قبل الميلاد. ويربط دانيال بوتس بين قطع تل أبرق الذهبية وبين هذا الذهب، مستنداً إلى هذه الشهادة الأدبية، ويجعل من هذه القطع قطعاً ملكية ماجانية. في الخلاصة، يبرز كبش تل أبرق ووعلاه بأسلوبهما الفني الرفيع، ويشكّلان قطعتين لا نرى ما يماثلهما في ميراث مكتشفات تل أبرق الذي ضمّ مجموعة من البقايا الحيوانية، تُعد الأكبر في شبه الجزيرة العربية.

من هذا الموقع كذلك، عثرت البعثة الإيطالية في عام 2021 على مجموعة من اللقى، منها تمثال نحاسي صغير على شكل وعل، يبلغ طوله 8.4 سنتيمتر. يعود هذا التمثال إلى فترة زمنية مغايرة تمتدّ من القرن الثالث قبل الميلاد إلى القرن الثالث الميلادي، ويتميّز بطابعه الواقعي الذي يعكس أثراً هلنستياً واضحاً. يماثل هذا التمثال مجموعة كبيرة من القطع مصدرها جنوب الجزيرة العربية، كما يماثل قطعاً معدنية عُثر عليها في قرية الفاو، في الربع الخالي من المملكة السعودية.