كيتانجي جاكسون... قاضية سوداء تكمل مسيرة «التطور الطبيعي» للمجتمع الأميركي

ملء المناصب الشاغرة في المحكمة العليا بات يعتمد على الحزب المسيطر لا الحياد

كيتانجي جاكسون... قاضية سوداء تكمل مسيرة «التطور الطبيعي» للمجتمع الأميركي
TT

كيتانجي جاكسون... قاضية سوداء تكمل مسيرة «التطور الطبيعي» للمجتمع الأميركي

كيتانجي جاكسون... قاضية سوداء تكمل مسيرة «التطور الطبيعي» للمجتمع الأميركي

تُعد المحكمة العليا في الولايات المتحدة واحدة من بين كبرى المؤسسات الأميركية التي «تضمن احترام الدستور، وتطبيق القانون، وتحقيق العدالة للجميع، والحفاظ على النظام الديمقراطي». غير أن الانقسام السياسي العميق الذي يضرب المجتمع الأميركي، سلّط الضوء على الواقع الجديد المتمثل في أن ملء منصب شاغر في المحكمة العليا في الوقت الحالي أصبح يعتمد على الحزب المسيطر على كل من البيت الأبيض ومجلس الشيوخ. حدث ذلك مع تعيين الرئيس السابق دونالد ترمب 3 قضاة محافظين، خلال فترة رئاسته وسيطرة الجمهوريين على مجلس الشيوخ. ليتكرر اليوم مع تأكيد تعيين كيتانجي براون جاكسون، التي رشحها الرئيس الديمقراطي جو بايدن لعضوية المحكمة العليا. غير أن الواقع الأخطر الذي يهدد حيادية المحكمة العليا، وضمان تحقيق وظائفها أعلاه، أن أحكامها القضائية، وبدلاً من أن تحتكم إلى القانون، صارت تحتكم إلى ما يريده الرأي العام، بحسب العديد من المراقبين وخبراء القانون الأميركيين. ومع فترة ولاية مدى الحياة، أصبح تعيين القضاة قضية بالغة الأهمية في تقرير مستقبل المحكمة العليا، التي باتت أحكامها تثير انقسامات شديدة لدى الرأي العام الأميركي.
ويطرح ذلك تساؤلات عن ضرورة «إعادة نظر» استراتيجية بشأن موعد تقاعد قضاة المحكمة العليا الذين تؤثر أحكامهم في حياة الأميركيين، بما يتناسب مع التغييرات الاجتماعية والسياسية واختلاف نظرة المجتمع إلى القوانين واتجاهات تطويرها وكيفية تطبيقها.
يُعتبر تعيين القاضية كيتانجي جاكسون، أول قاضية سوداء في أرفع محكمة أميركية، سابقة تاريخية ولكن في مسار تطور طبيعي يعبّر مباشرة عن تغيّر نظرة المجتمع الأميركي، رغم انقساماته، إلى قضية المساواة العرقية. كما عُدّ تعيينها «تطوراً طبيعياً»، للحياة السياسية الأميركية، منذ انتخاب باراك أوباما، كأول رجل أسود رئيساً للبلاد، وانتخاب كامالا هاريس كأول امرأة وأول امرأة سوداء نائبة للرئيس. لكنه في المقابل، أفقد «الرجل الأبيض» للمرة الأولى أيضاً، الغالبية في المحكمة، مع خمسة من أعضائها من غير البيض، واقتراب النساء من المساواة مع الرجال (4 نساء مقابل 5 رجال). ومع تولي القاضية جاكسون منصبها في 3 أكتوبر (تشرين الأول) المقبل، ستكون المحكمة العليا قد شهدت أكبر تغيير في تاريخها في أقل من جيل واحد، وسيكون متوسط عمر قضاتها 61 عاماً، مقابل إدارة أميركية يبلغ فيها الرئيس 79 عاماً ورئيسة مجلس النواب 82 عاماً. وهو ما طرح نقاشات وتساؤلات عن ضرورة تحديد سقف عمري، ليس فقط لقضاة المحكمة العليا، بل ولقادة البلاد السياسيين أيضاً.
ومن نافل القول إن الرئيس بايدن قد حقق واحداً من وعوده الانتخابية المهمة، لناخبيه من الأميركيين السود، عندما قال إن المحكمة العليا في طريقها لتكون «أشبه بأميركا»، عبر تعيينه جاكسون أول قاضية سوداء في المحكمة العليا. لكن ورغم ذلك، لن يتمكن تعيينها هذا من كسر التوازن القائم في المحكمة، حيث 6 من أعضائها من المحافظين، مقابل 3 ليبراليين. ويذكر، في هذا الإطار، أنه رغم تعيين ترمب للقضاة الثلاثة نيل غورساتش وبريت كافانو وإيمي باريت، الذين غالباً ما كانوا على يمين رئيس المحكمة العليا المحافظ جون روبرتس، فإن أمله قد خاب منهم بعد تصويتهم في المحكمة على قرارات رفضت تأكيداته المبالغة عن امتيازه التنفيذي، وادعاءاته بشأن خسارته انتخابات 2020.
كما أن تعيين جاكسون لن يخفف من حدة الانقسام السياسي الذي يتجه للاحتدام، مع استعداد المحكمة العليا للنظر في قضايا تثير خلافات شديدة، على رأسها قانون الإجهاض، والتعديل الدستوري الثاني المتعلق بحمل السلاح، والتمييز العرقي في القبول في الجامعات، وحقوق المثليين مقابل الحرية الدينية وغيرها من القضايا التي ينقسم الأميركيون حولها بشكل حاد، على أسس حزبية أكثر مما هو عليه الأمر في المحكمة. غير أن مراقبين لأعمال المحكمة العليا يرون أنها ستواجه مشكلات في المستقبل، في ظل تآكل الموافقة العامة على خلفيات قضاتها، نتيجة الانقسام السياسي. وأظهر استطلاع أجرته مدرسة «ماركيت» للحقوق في مارس (آذار) الماضي، أن 54 في المائة من الجمهور يوافقون على أداء وظائف المحكمة (64 في المائة من الجمهوريين، مقابل 52 في المائة من الديمقراطيين و51 في المائة من المستقلين)، تراجعاً من 66 في المائة في سبتمبر (أيلول) 2020، رغم ارتفاعه من 49 في المائة عام 2021، لكن حتى أدنى الاستطلاعات لا تزال تظهر أن المحكمة تتصدر مستوى شعبية بايدن أو الكونغرس. ومع تلك القضايا المعروضة على المحكمة، سيكون من الصعب الحفاظ على موافقة الحزبين، التي تستند بشكل عام إلى نتيجة القضية، وليس إلى منطق المحكمة. ويرجح أن تتعزز وجهات النظر الحزبية للمحكمة، عبر إصدارها مزيجاً من القرارات، أو لقرارات محدودة النطاق، قد لا تكون كافية للتخفيف من الانقسامات الحزبية، التي يمكن أن تهيمن على الحملات الانتخابية قبيل انتخابات التجديد النصفي للكونغرس الخريف المقبل.
- أوباما مهّد لجاكسون
في يوليو (تموز) 2009، عندما رشح باراك أوباما جاكسون لمنصب نائب رئيس لجنة إصدار الأحكام في الولايات المتحدة، بدا واضحاً أن عملية «إعداد وتأهيل» جارية للدفع بوجه أسود صاعد في عالم القضاء. في ذلك الوقت أكد مجلس الشيوخ تعيين جاكسون بالإجماع في فبراير (شباط) 2010، لتخلف القاضي مايكل هورويتز. وبقيت جاكسون في اللجنة حتى 2014، وفي سبتمبر 2012، رشّح أوباما جاكسون للعمل كقاضية في محكمة الاستئناف في الولايات المتحدة عن مقاطعة كولومبيا (العاصمة واشنطن)، عن المقعد الذي أخلاه القاضي المتقاعد هنري كينيدي. تم تقديم جاكسون في جلسة التأكيد في ديسمبر (كانون الأول) 2012 من قبل الجمهوري بول رايان، أحد أقاربها من خلال الزواج، الذي قال: «قد تختلف سياستنا، لكن مديحي لفكر كيتانجي وشخصيتها ونزاهتها لا لبس فيه». وفي فبراير 2013، تم تقديم ترشيحها إلى مجلس الشيوخ بكامل هيئته، ليتم تأكيدها عن طريق التصويت في مارس، وأدت اليمين في مايو (أيار) أمام القاضي ستيفن براير الذي ستخلفه اليوم في منصبه في المحكمة العليا.
ولدت كيتانجي براون جاكسون (بروتستانتية) في العاصمة واشنطن، عام 1970، وترعرعت في ميامي بولاية فلوريدا. كان والداها من خريجي كليات وجامعات السود تاريخياً. والدها، المحامي جوني براون، تخرج في كلية الحقوق بجامعة ميامي، وأصبح في النهاية كبير المحامين لمجلس مدرسة مقاطعة ميامي ديد ذات الغالبية السوداء. عملت والدتها إليري مديرة في مدرسة العالم الجديد للفنون. في عام 1996، تزوجت كيتانجي براون (اسم عائلتها قبل الزواج) الجراح باتريك جاكسون، من بوسطن، ولديهما ابنتان ليلى وتاليا. تربطها علاقة قرابة مع رئيس مجلس النواب السابق بول رايان، الذي ترشح عام 2012 كنائب للرئيس مع المرشح الرئاسي الجمهوري ميت رومني. فصهرها متزوج بأخت زوجة رايان.
تخرجت جاكسون في مدرسة ميامي بالميتو الثانوية العليا عام 1988. في سنتها الأخيرة، فازت بلقب الخطابة الوطنية في بطولة الرابطة الوطنية الكاثوليكية للطب الشرعي في نيو أورلينز. درست جاكسون المحاماة وأعمال الحكومة في جامعة هارفارد، وشاركت في تقديم أنشطة ثقافية وأخذت دروساً في الدراما، وقادت احتجاجات ضد طالب قام بعرض علم الكونفدرالية من نافذة مسكنه الطلابي في الجامعة. تخرجت في جامعة هارفارد عام 1992 بدرجة امتياز كبير، عن أطروحتها بعنوان «يد القهر: عمليات المساومة بالذنب وإكراه المتهمين بارتكاب جرائم». عملت جاكسون مراسلة وباحثة في مجلة «تايم» من 1992 إلى 1993، لتكمل تحصيلها في كلية الحقوق بجامعة هارفارد، حيث كانت محرراً مشرفاً لمجلة هارفارد للقانون، وتخرجت عام 1996 بدرجة دكتوراه في القانون بامتياز. وبينما كانت لا تزال طالبة في الكلية، حُكم على عم جاكسون، توماس براون جونيور، بالسجن مدى الحياة لإدانته بتعاطي الكوكايين من دون عنف. بعد سنوات، أقنعت جاكسون شركة محاماة بتولي قضيته مجاناً، وخفف الرئيس الأسبق أوباما عقوبته في النهاية. فيما خدم عم آخر، يدعى كالفن روس، كرئيس شرطة ميامي.
- جاكسون معارضة قوية لترمب
بدأت حياتها المهنية القانونية بثلاث وظائف كتابية، بما في ذلك واحدة مع القاضي ستيفن براير، الذي كان لا يزال مساعداً في المحكمة العليا. قبل ترقيتها إلى محكمة الاستئناف الأميركية عن دائرة العاصمة، عملت قاضية مقاطعة في محكمة مقاطعة كولومبيا في الولايات المتحدة من 2013 إلى 2021. منذ عام 2016، كانت عضواً في مجلس المشرفين في جامعة هارفارد. خلال فترة وجودها في المحكمة الجزئية، كتبت جاكسون عدة قرارات معارضة لمواقف إدارة ترمب. وفي رأيها الذي يطلب من دونالد ماكغان مستشار البيت الأبيض السابق في إدارة ترمب، الامتثال لأمر الاستدعاء التشريعي من مجلس النواب، كتبت أن «الرؤساء ليسوا ملوكاً». وتعاملت جاكسون مع عدد من التحديات لإجراءات بعض الوكالات التنفيذية التي أثارت تساؤلات حول القانون الإداري. كما أصدرت أحكاماً في قضايا عدة حظيت باهتمام سياسي خاص.
في 30 مارس 2021، أعلن الرئيس جو بايدن عزمه على ترشيح جاكسون للعمل قاضية في محكمة الاستئناف الأميركية عن دائرة العاصمة. في 19 أبريل (نيسان) 2021، أرسلت أوراق ترشيحها إلى مجلس الشيوخ، عن المقعد الذي أخلاه القاضي ميريك غارلاند، الذي استقال ليتولى منصب وزير العدل. في 28 من الشهر نفسه عقدت جلسة استماع بشأن ترشيحها أمام اللجنة القضائية بمجلس الشيوخ. وخلال جلسة التثبيت، تم استجواب جاكسون حول العديد من أحكامها ضد إدارة ترمب. في 20 مايو 2021، صوّتت اللجنة القضائية على ترشيحها بأغلبية 13 مقابل 9 أصوات. وفي 10 يونيو (حزيران) 2021، صوّت مجلس الشيوخ على ترشيحها بأغلبية 52 صوتاً. وبعد أربعة أيام، أكد مجلس الشيوخ تعيين جاكسون بأغلبية 53 مقابل 44 صوتاً، بعد انضمام أعضاء مجلس الشيوخ من الحزب الجمهوري سوزان كولينز وليندسي غراهام وليزا موركوفسكي إلى جميع الديمقراطيين الخمسين. وفي أول قرار لها كقاضية في محكمة الاستئناف، ألغت جاكسون قاعدة صدرت عام 2020، عن الهيئة الفيدرالية لعلاقات العمل التي كانت تقيّد القدرة التفاوضية لنقابات العمال في القطاع الفيدرالي.
وفي 25 فبراير 2022، رشح الرئيس جو بايدن جاكسون لعضوية المحكمة العليا، لملء المنصب الذي سيشغر بعد إعلان القاضي ستيفن براير نيته التقاعد نهاية هذا الصيف، لتندلع مجدداً معركة تثبيتها على طول خطوط الانقسام الحزبية المتوقعة. وفي السابع من هذا الشهر، صوّت جميع الديمقراطيين وثلاثة جمهوريين، هم السيناتور ميت رومني وسوزان كولينز وليزا موركوفسكي، من أعضاء مجلس الشيوخ، لصالح ترشيحها، مقابل اعتراض 47 جمهورياً. وخلال جلسات الاستماع التي عقدت لتثبيت عضويتها، اتهمها الجمهوريون بالتساهل مع المجرمين، بعد دفاعها وإصدارها أحكاماً مخففة عن بعض المحكومين بجرائم القتل، رغم عدم تبنيها حتى الآن مع غالبية أعضاء المحكمة إلغاء عقوبة الإعدام، التي يدعو إليها القاضي براير. كما ذكرت وكالة بلومبرغ أن المحافظين المعترضين أشاروا إلى أنه في ربيع عام 2021، أخذت جاكسون قرارات تم نقضها في الاستئناف، بوصفها «عيباً محتملاً في سجلها». وأشاروا إلى أنه في عام 2019، حكمت جاكسون بأن أحكاماً في ثلاثة أوامر تنفيذية لترمب تتعارض مع حقوق الموظفين الفيدرالية في المفاوضة الجماعية. لكن دائرة العاصمة عكست قرارها بالإجماع. وفي قرار آخر عام 2019 يطعن بقرار لوزارة الأمن الداخلي بخصوص ترحيل غير المواطنين، تم عكسه أيضاً من قبل دائرة العاصمة. لكن مدافعين عنها قالوا إن في سجلها ما يقرب من 600 رأي قضائي، لم يتعرض سوى 12 منها للطعن.

- المحكمة الأميركية العليا سلطتها مطلقة في جميع القضايا الفيدرالية أو التي تخص الدولة
> المحكمة العليا الأميركية هي أعلى محكمة في القضاء الفيدرالي للولايات المتحدة. تتمتع بسلطة استئنافية نهائية وتقديرية إلى حد كبير على جميع قضايا المحاكم الفيدرالية ومحاكم الولايات التي تنطوي على قضايا تخص القانون الفيدرالي، وكذلك على الولاية القضائية الأصلية على نطاق ضيق من القضايا. كما تختص على وجه التحديد في «جميع القضايا التي تؤثر في السفراء، والوزراء العامين، والقناصل الآخرين، وتلك التي تكون الدولة الأميركية فيها طرفاً». تتمتع المحكمة بسلطة المراجعة القضائية، والقدرة على إبطال القانون، لانتهاكه أحد أحكام الدستور. كما أنها قادرة على إلغاء التوجيهات والأوامر الرئاسية التنفيذية لانتهاكها الدستور أو القانون الوضعي. ومع ذلك، لا يجوز لها أن تتصرف إلا في سياق قضية في مجال قانوني لها اختصاص عليها. ويجوز للمحكمة أن تفصل في قضايا ذات مغزى سياسي. لكنها قضت خلال تاريخها بأنها «لا تملك سلطة الفصل في المسائل السياسية غير القابلة للتقاضي».
تأسست المحكمة العليا بموجب المادة الثالثة من دستور الولايات المتحدة. لكن قبل وضع هذه المادة الدستورية، تم إنشاء وتعيين إجراءات المحكمة العليا في البداية، من قبل الكونغرس الأول من خلال قانون القضاء لعام 1789. وبموجب قانون القضاء لعام 1869، حدد لاحقاً أن محكمة الولايات المتحدة العليا، تتكون من رئيس وثمانية قضاة مساعدين، يعينون لفترة مدى الحياة، ولا يغادرون منصبهم، إلّا في حالة الوفاة، أو التقاعد، أو الاستقالة، أو العزل. وهم اليوم، الرئيس جون روبرتس عينه جورج بوش الابن عام 2006، والقاضي كلارنس ثوماس عيّنه جورج بوش الأب عام 1991، ويعد الأطول في الخدمة، والقاضي ستيفن براير عينه بيل كلينتون عام 1994، وقد تقاعد أخيراً وتنتهي خدمته نهاية الصيف، لتحل مكانه القاضية كيتانجي جاكسون، والقاضي صاموئيل أليتو عيّنه بوش الابن عام 2006، والقاضية سونيا سوتوماير عينها أوباما عام 2009، والقاضية إلينا كاغان عينها أوباما عام 2010، والقاضي نيل غورساتش عينه ترمب عام 2017، والقاضي بريت كافانو عيّنه ترمب عام 2018، والقاضية إيمي باريت عينها ترمب نهاية 2020.
عندما شغور منصب فيها، يقوم الرئيس الأميركي، بترشيح قاضٍ شرط موافقة مجلس الشيوخ عليه. ورغم تعرض منصب القاضي «مدى الحياة» لانتقادات متزايدة، على خلفية تحول تعيينه إلى مسألة حزبية، وتخوفاً من «تحجر» آراء كبار السن، يقول آخرون إن ديمومة المنصب تجلب فوائد كثيرة، مثل الحياد والتحرر من الضغط السياسي. ولضمان استقلاليتهم المالية، يتقاضى قضاة المحكمة رواتب مرتفعة نسبياً. واعتباراً من عام 2021، يتقاضى القضاة راتباً سنوياً قدره 268 ألف دولار، ويتقاضى رئيس المحكمة 280 ألفاً. وتحظر المادة الثالثة من الدستور على الكونغرس، خفض رواتب القضاة. ورغم أن القانون يمنع القضاة من تلقي الهدايا ودعوات السفر باهظة الثمن، فإن تدقيقات أخيرة في العقدين الماضيين أظهرت أن جميع أعضاء المحكمة يقبلون هذه الهدايا. فقد تلقت القاضية سونيا سوتوماير 1.9 مليون دولار، من أحد الناشرين. وقام القاضي الراحل انتوني سكاليا وآخرون بعشرات الرحلات باهظة الثمن إلى «مواقع غريبة»، دفع ثمنها متبرعون من القطاع الخاص. كما تثير المناسبات الخاصة التي ترعاها مجموعات حزبية، ويحضرها القضاة مع أولئك الذين لديهم مصلحة، مخاوف بشأن التواصل معهم والتأثير في أحكامهم.


مقالات ذات صلة

أفريقيا... ساحة تنافس جديد بين الهند والصين

حصاد الأسبوع Chinese Foreign Minister Wang Yi (C) speaks during a press conference with Senegal's Foreign Minister Yassine Fall (L) and Congo Foreign Minister Jean-Claude Gakosso (R) at the Forum on China-Africa Cooperation (FOCAC) in Beijing on September 5, 2024. (Photo by GREG BAKER / AFP)

أفريقيا... ساحة تنافس جديد بين الهند والصين

منذ فترة ولايته الأولى عام 2014، كان رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي أكبر مناصر للعلاقات بين الهند وأفريقيا.

براكريتي غوبتا (نيودلهي)
حصاد الأسبوع نيتومبو ندايتواه... أول امرأة تترأس ناميبيا

نيتومبو ندايتواه... أول امرأة تترأس ناميبيا

سطرت نيتومبو ناندي ندايتواه، 72 عاماً، اسمها في التاريخ بوصفها أول امرأة تتولى رئاسة ناميبيا منذ استقلال البلاد عام 1990، بعدما حصدت 57 في المائة من الأصوات في

فتحية الدخاخني ( القاهرة)
رياضة سعودية السعودية تستمر في تشكيل خريطة مختلف الرياضات العالمية بتنظيم واستضافات غير مسبوقة (الشرق الأوسط)

السعودية ستُشكل خريطة الرياضة العالمية في 2025

شارف عام حافل بالأحداث الرياضية بما في ذلك الألعاب الأولمبية التي حظيت بإشادة واسعة وأربع بطولات قارية لكرة القدم على الانتهاء ومن المتوقع أن يكون عام 2025 أقل.

«الشرق الأوسط» (لندن)
حصاد الأسبوع فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟

فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟

بعد 9 أيام من سقوط الحكومة الفرنسية بقيادة ميشال بارنييه في اقتراع لحجب الثقة، عيّن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، فرنسوا بايرو، زعيم رئيس حزب الوسط (الموديم)،

أنيسة مخالدي (باريس)
حصاد الأسبوع خافيير ميلي (أ.ب)

خافيير ميلي... شعبية «المخرّب الأكبر» لا تعرف التراجع

في المشهد الشعبوي واليميني المتطرف، المتنامي منذ سنوات، يشكّل الصعود الصاعق لخافيير ميلي إلى سدّة الرئاسة في الأرجنتين، حالة مميّزة، لا بل فريدة، من حيث الأفكار

شوقي الريّس (مدريد)

خافيير ميلي... شعبية «المخرّب الأكبر» لا تعرف التراجع

خافيير ميلي (أ.ب)
خافيير ميلي (أ.ب)
TT

خافيير ميلي... شعبية «المخرّب الأكبر» لا تعرف التراجع

خافيير ميلي (أ.ب)
خافيير ميلي (أ.ب)

في المشهد الشعبوي واليميني المتطرف، المتنامي منذ سنوات، يشكّل الصعود الصاعق لخافيير ميلي إلى سدّة الرئاسة في الأرجنتين، حالة مميّزة، لا بل فريدة، من حيث الأفكار والطروحات «التخريبية» التي حملها برنامجه وباشر بتطبيقها منذ توليه المنصب في مثل هذه الأيام من العام الفائت. حالة لم يتح لها الوقت الكافي بعد كي تفجّر كل «مواهبها» ومفاجآتها التي لا يوفّر ميلي مناسبة ليتوعّد بها، خاصة بعد نيله «بركة» مثاله الأعلى، دونالد ترمب، الذي يستعد للعودة قريباً إلى البيت الأبيض.

في مقابلة أجرتها معه مجلة «الإيكونوميست» نهاية الشهر الماضي، قال ميلي إنه يشعر بازدراء لا نهاية له تجاه الدولة، مؤكداً أنه سيفعل كل ما بوسعه للقضاء على تدخل الدولة في شؤون المواطنين وتنظيم حياتهم «لأن ذلك يشكّل أسرع الطرق إلى الاشتراكية». لكن اللافت أن «الإيكونوميست»، الموصوفة برصانتها، تعتبر أن ما يقوم به هذا «المخرّب الأكبر» - كما يحلو له أن يطلق على نفسه – يجب أن يكون قدوة للولايات المتحدة وحكومتها الجديدة التي يبدو أنها مستعدة لتحذو حذو الرئيس الأرجنتيني وتكليف هذه المهمة إلى الملياردير إيلون ماسك.

تدلّ كل المؤشرات على أن الهدف الأساسي من وصول ميلي إلى الحكم، أواخر العام الفائت، هو «تدمير» الدولة من الداخل. ألغى 13 وزارة، وسرّح ما يزيد على ثلاثين ألفاً من الموظفين العموميين، وخفّض بنسب وصلت إلى 74% مخصصات الرواتب التقاعدية والتعليم والصحة والعلوم والثقافة والتنمية الاجتماعية. وعلى هذه الخلفية، سارعت أسواق المال للاحتفاء بالفائض المالي وتراجع التضخم الذي ليس سوى ثمرة واحدة من أكبر الجراحات المالية في التاريخ. لكن الوجه الآخر لهذه العملة البرّاقة كان انضمام 5 ملايين أرجنتيني إلى قافلة الفقراء الذين يعيش معظمهم على المعونة الغذائية في واحد من أغنى البلدان الزراعية والغذائية في العالم، وانكماشا اقتصاديا... من غير أن تتراجع شعبية ميلي الذي يفاخر بأنه الرئيس الأوسع شعبية على وجه الكرة الأرضية.

لا يكفّ ميلي عن مخاطبة مواطنيه عبر وسائط التواصل التي لعبت دوراً أساسياً في وصوله إلى الرئاسة، ويقول إن «القوى السماوية» التي تسدد خطاه وتقود كفاحه ضد الطبقة السياسية التقليدية والاشتراكية ستجعل من الأرجنتين قريباً «قوة عالمية كبرى».

رئيسة الأرجنتين السابقة كريستينا كيرشنر (أ.ب)

لا يعترف الرئيس الأرجنتيني بالتغيّر المناخي، ولا بالمساواة بين الرجل والمرأة، أو بالعدالة الاجتماعية، وينكر الذاكرة التاريخية لأنظمة الاستبداد التي تعاقبت على بلاده، ويعتبر أن كل ذلك ليس سوى بدع يسارية يتوعّد بالقضاء عليها في «حرب ثقافية» يتبّلها بكل أنواع الشتائم التي توقد الحماسة في صفوف أنصاره وتزرع الحيرة في أوساط المعارضة المشتتة.

الأغرب في كل ذلك هو أن ميلي لا تؤيده سوى أقلية في مجلسي الشيوخ والنواب، فضلاً عن أن جميع حكّام الولايات الذين يتمتعون بصلاحيات واسعة، ليسوا من حزبه «الحرية تتقدم». كما أنه اضطر للإبقاء على العديد من كبار موظفي الحكومة اليسارية السابقة في مناصبهم لعدم وجود كوادر مؤهلة كافية في حزبه. لكن رغم هذا العجر الهائل، تمكّن ميلي من إقرار حزمة قوانين يعتبرها أساسية لمشروع تفكيك الدولة ورفع القيود عن العجلة الاقتصادية، من غير أن يتضّح بعد إذا كانت هذه السنة الأولى من ولايته مدخلاً لإحكام سيطرته على الدولة، أو هي تمهيد لهيمنة اليمين المتطرف على المشهد السياسي.

يعتمد ميلي على التأييد الشعبي الواسع الذي ما زال يلقاه، وعلى حاجة حكّام الولايات لموارد الدولة، وبشكل خاص على الحلف التشريعي الذي أقامه مع اليمين المعتدل ممثلاً بالحزب الذي يقوده رئيس الجمهورية الأسبق ماوريسيو ماكري. ومنذ نزوله المعترك السياسي، بعد أن كان ينشر أفكاره وطروحاته عبر البرامج التلفزيونية التي كان يقدمها، استمد شعبيته وقوته ضد ما يسميه «السلالة»، أي الطبقة السياسية التقليدية. أما الاتفاقات أو الائتلافات التي سعى إليها، فهي لم تكن سوى تكتيكية، ولم يفاوض على برنامجه مع الأحزاب أو القوى التي تحالف معها، بل بقي تحالفه الأساسي مع القاعدة الشعبية التي ما زالت تدعمه، والتي يرجّح أن تكون هي أيضاً نقطة ضعفه الرئيسية التي ستؤدي إلى سقوطه عندما تتوقف عن دعمه بعد أن تفقد الأمل الضئيل الذي ما زال يحدوها في أن تتحسن الأوضاع المعيشية.

وصفة ميلي تحقق نتائجها

يقول المقربون من ميلي إن سر استمرار شعبيته التي توقع كثيرون أنها إلى زوال سريع، هو أنه ينفّذ كل الوعود التي قطعها في حملته الانتخابية، فيما بدأ بعض منتقديه يعترفون بأن «وصفته» تحقق النتائج التي وعد بها.

وقد شهدت الأشهر الأخيرة انشقاق بعض رموز الحزب البيروني واصطفافهم إلى جانب ميلي، مثل العضو البارز في مجلس الشيوخ كارلوس باغوتو، وهو قريب من الرئيس الأسبق كارلوس منعم. وقال باغوتو: «إن ميلي هو الشخص الذي تحتاجه الأرجنتين للتخلص من الموجة الشعبوية الاشتراكية التي حكمتها طيلة العقدين المنصرمين... كنا في حال من التحلل الاجتماعي الذي بلغ مستويات يصعب تصورها. وبعد أن أصبحت الدولة تتدخل في جميع مسالك الحياة، عاجزة عن توفير الحد الأدنى من الخدمات الأساسية لشريحة واسعة من المواطنين، وبعد أن أخفقت جميع المحاولات لضبط التضخم الهائل، أدركت الطبقات المتواضعة أن الخلاص لا يمكن أن يأتي من غير تضحيات... وكان ميلي».

"يقول ميلي إن «القوى السماوية» تسدد خطاه وتقود كفاحه ضد الطبقة السياسية التقليدية والاشتراكية ستجعل من الأرجنتين قريباً «قوة عالمية كبرى»."

خدمة مصالح رجال الأعمال

لكن قراءة المعارضة للمشهد الاجتماعي تختلف كلياً، إذ يرى وزير الداخلية السابق إدواردو دي بيدرو المقرّب من الرئيسة السابقة كريستينا كيرشنر، أن ميلي قضى على حقوق وخدمات أساسية، مثل الصحة والتعليم والحماية الاجتماعية، بينما خدم، في المقابل، مصالح رجال الأعمال والمراكز المالية. ويضيف: «إن قرارات مثل قطع الأدوية عن مرضى السرطان في المراحل الأخيرة، أو الكف عن توفير التغطية العلاجية للمتقاعدين، أو إقفال المطاعم الشعبية التي كانت تؤمن وجبات أساسية لحوالي 19% من السكان يعيشون على المعونة الغذائية، هي دليل ساطع على قسوة هذه الحكومة وعدم إحساسها».

يردّ ميلي على هذه الانتقادات بوصفها من أفعال الشيوعيين المناهضين للحرية، ويكرر أنه يقود «أفضل حكومة في التاريخ»، مقتنعاً بأنه مكلّف مهمة سماوية، ويقترح حرباً نضالية عالمية تحت راية «اليمين الدولي» من أجل القضاء نهائياً على اليسار، يجوز فيها استخدام كل الوسائل، بما في ذلك العنف. كما أكّد مؤخراً في أحد المهرجانات السياسية: «لست في وارد اللياقة أو الوفاق. لن أتراجع أبداً، وسأواصل السير نحو النار، لأن الهجوم هو أفضل وسيلة للدفاع. لسنا ملزمين بتبرير أفعالنا، وإذا فعلنا فسوف يعتبرون ذلك من باب الضعف. كلما تعرضنا لضربة من خصومنا، سنردّ الواحدة بثلاث».

تكيف وبراغماتية

الهجوم الدائم هو العلامة الفارقة في أسلوب الرئيس الأرجنتيني، لكن ميلي أظهر قدرة لافتة على التكيّف والبراغماتية التفاوضية كلّما وجد نفسه بحاجة إلى أصوات المعارضة، في مجلسي الشيوخ والنواب وبين حكام الولايات، خاصة عندما طرح «قانون الأساسات» الذي يتضمّن مئات المواد التي تعتبرها الحكومة ضرورية لتنفيذ برنامجها. يفعل ذلك وهو يدرك جيداً أن الأحزاب التقليدية فقدت شعبيتها، وهي في حال من الانهيار السريع الذي يمكن لحزبه أن يستفيد منه في الانتخابات العامة المرحلية في خريف العام المقبل ليقلب المعادلة البرلمانية الحالية التي تشكّل عائقاً كبيراً أمام مشروعه «التخريبي».

ستكون انتخابات العام المقبل حاسمة بالنسبة لميلي ليقلب المعادلة البرلمانية ويضمن الأغلبية التي تحرره من التفاوض مع المعارضة كلما أقدم على خطوة اشتراعية لتنفيذ برنامجه، خاصة أن التأييد الشعبي ليس مضموناً في المدى الطويل.

ويخشى معاونوه من أن جنوحه الشديد نحو التعصب والصدام العنيف مع خصومه السياسيين قد يبعده عن تحقيق هدفه الأساسي الذي كان وراء فوزه في الانتخابات الرئاسية، وهو معالجة الأزمة الاقتصادية المزمنة التي تتخبط فيها البلاد منذ عقود. وينصحه المقربون بعدم التمادي في «الحروب الثقافية» مع حلفائه الغربيين الذين حصرهم منذ اليوم الأول بالولايات المتحدة وإسرائيل والدول «الحرة»، وسمّى الاشتراكيين واليساريين خصومه إلى الأبد.

لكن رغم خطابه الناري والتهديدي الذي لا يخلو أبداً من الألفاظ البذيئة، والذي بدأ مستشاروه يواجهون صعوبة في تبريره بالقول إن هذا هو أسلوبه والناس تعرف ذلك، بدأ ميلي يعطي مؤشرات على أنه ليس غريباً كلياً عن البراغماتية والواقعية. وهو اعترف قبل أيام أنه تعلّم الكثير في السياسة خلال هذه السنة الأولى من ولايته. وقال إنه لم يعد لديه أعداء سياسيون في الأرجنتين، بل خصوم يريدون الخير للبلاد. وبعد أن كان صرّح مراراً خلال الحملة الانتخابية بأن الصين هي في معسكر الأعداء وبأنه لن يتعامل مع «القتلة»، قال مؤخراً: «إن الصين شريك رائع لا يطلب شيئاً سوى التبادل التجاري الهادئ» وإن الرئيس البرازيلي لويس إيناسيو لولا دا سيلفا، الذي كان وصفه غير مرة بأنه «يساري فاسد»، لن يصبح صديقه، لكن مسؤوليته الدستورية تقتضي منه التعامل معه.

الأرقام الاقتصادية في نهاية العام الأول من ولاية ميلي تظهر أن الشركات الكبرى في قطاع المحروقات، وكبار المستثمرين في أسواق المال والمصارف، هم الذين حققوا أرباحاً استثنائية خلال هذه السنة، وأن الجائزة الكبرى كانت من نصيب المتهربين من دفع الضرائب الذين استفادوا من خطة «التبييض» التي وضعها، بما يزيد على 20 مليار دولار، أي نصف القرض الذي حصلت عليه الأرجنتين منذ سنوات من صندوق النقد الدولي لوقف الانهيار الاقتصادي التام وما زالت حتى اليوم عاجزة عن سداده أو حتى عن جدولته. أما في الجهة المقابلة فكان المتقاعدون والموظفون العموميون وأصحاب المؤسسات الصغيرة والمتوسطة هم الأكثر تضرراً من النموذج الذي خفّض الإنفاق العام وألغى القيود على الواردات بهدف احتواء التضخم الجامح الذي يقضّ مضاجع ملايين الأسر منذ سنوات، فضلاً عن الفقراء (19% من السكان حسب الإحصاء الأخير) الذين حُرموا فجأة من المعونة الغذائية التي كانت تقدمها الدولة.

أرباح الشركات الكبرى في قطاع الطاقة بلغت أرقاماً قياسية هذا العام بفضل زيادة الإنتاج وتحرير الأسعار والتدابير الضريبية والجمركية والقانونية التي أعلنها ميلي الذي يريد لهذا القطاع أن يكون المحرك الأساسي لاقتصاد الأرجنتين في العقود الثلاثة المقبلة، انطلاقاً من منطقة «باتاغونيا» الشاسعة في أقصى الجنوب التي تختزن، بحسب تقديرات، ثاني أكبر احتياطي من الغاز ورابع احتياطي من النفط في العالم. وفي نهاية الشهر الماضي كانت أسعار أسهم شركة النفط الرسمية قد ارتفعت بنسبة 140% عن العام الفائت، فيما ارتفعت أسعار أسهم الشركات الخاصة 75%.

تمديد الإنفاق

في موازاة ذلك قرر ميلي تجميد الإنفاق على المشاريع العامة، بينما كان الاستهلاك يتراجع إلى أدنى مستوياته والصناعة الأرجنتينية تعاني على جبهات ثلاث: انخفاض المبيعات، وتدفق السلع المستوردة بأسعار تصعب منافستها، وتراجع الصادرات بسبب ارتفاع سعر البيزو مقابل الدولار الأميركي. إلى جانب ذلك، سحب ميلي جميع إجراءات الدعم التي كانت اتخذتها الحكومات السابقة لمساعدة الطبقات الفقيرة، ما أدّى إلى ارتفاع أسعار النقل العام بنسبة 1000% وفواتير الغاز والكهرباء والتأمين الطبي والتعليم الخاص بنسب تزيد على 500%. وكانت الأشهر الستة الأولى من ولاية ميلي هي الأكثر صعوبة، إذ تزامنت مع نسبة تضخم قاربت 30% شهرياً بحيث تجاوزت نسبة المصنفين فقراء بين السكان 53%.

ستكون الأشهر الأولى من العام الثاني لولاية ميلي، حاسمة في تقدير عدد من المراقبين، لأنها ستبيّن مدى صمود شعبيته أمام انهيار الخدمات الأساسية والمساعدات التي تعيش نسبة عالية من السكان عليها، فيما يصرّ هو على رهانه بأن الفشل الذريع الذي تتخبط فيه القوى السياسية الأرجنتينية منذ عقود سيكون الخزان الذي سيغرف منه لترسيخ شعبيته حتى نهاية الولاية.