كيتانجي جاكسون... قاضية سوداء تكمل مسيرة «التطور الطبيعي» للمجتمع الأميركي

ملء المناصب الشاغرة في المحكمة العليا بات يعتمد على الحزب المسيطر لا الحياد

كيتانجي جاكسون... قاضية سوداء تكمل مسيرة «التطور الطبيعي» للمجتمع الأميركي
TT

كيتانجي جاكسون... قاضية سوداء تكمل مسيرة «التطور الطبيعي» للمجتمع الأميركي

كيتانجي جاكسون... قاضية سوداء تكمل مسيرة «التطور الطبيعي» للمجتمع الأميركي

تُعد المحكمة العليا في الولايات المتحدة واحدة من بين كبرى المؤسسات الأميركية التي «تضمن احترام الدستور، وتطبيق القانون، وتحقيق العدالة للجميع، والحفاظ على النظام الديمقراطي». غير أن الانقسام السياسي العميق الذي يضرب المجتمع الأميركي، سلّط الضوء على الواقع الجديد المتمثل في أن ملء منصب شاغر في المحكمة العليا في الوقت الحالي أصبح يعتمد على الحزب المسيطر على كل من البيت الأبيض ومجلس الشيوخ. حدث ذلك مع تعيين الرئيس السابق دونالد ترمب 3 قضاة محافظين، خلال فترة رئاسته وسيطرة الجمهوريين على مجلس الشيوخ. ليتكرر اليوم مع تأكيد تعيين كيتانجي براون جاكسون، التي رشحها الرئيس الديمقراطي جو بايدن لعضوية المحكمة العليا. غير أن الواقع الأخطر الذي يهدد حيادية المحكمة العليا، وضمان تحقيق وظائفها أعلاه، أن أحكامها القضائية، وبدلاً من أن تحتكم إلى القانون، صارت تحتكم إلى ما يريده الرأي العام، بحسب العديد من المراقبين وخبراء القانون الأميركيين. ومع فترة ولاية مدى الحياة، أصبح تعيين القضاة قضية بالغة الأهمية في تقرير مستقبل المحكمة العليا، التي باتت أحكامها تثير انقسامات شديدة لدى الرأي العام الأميركي.
ويطرح ذلك تساؤلات عن ضرورة «إعادة نظر» استراتيجية بشأن موعد تقاعد قضاة المحكمة العليا الذين تؤثر أحكامهم في حياة الأميركيين، بما يتناسب مع التغييرات الاجتماعية والسياسية واختلاف نظرة المجتمع إلى القوانين واتجاهات تطويرها وكيفية تطبيقها.
يُعتبر تعيين القاضية كيتانجي جاكسون، أول قاضية سوداء في أرفع محكمة أميركية، سابقة تاريخية ولكن في مسار تطور طبيعي يعبّر مباشرة عن تغيّر نظرة المجتمع الأميركي، رغم انقساماته، إلى قضية المساواة العرقية. كما عُدّ تعيينها «تطوراً طبيعياً»، للحياة السياسية الأميركية، منذ انتخاب باراك أوباما، كأول رجل أسود رئيساً للبلاد، وانتخاب كامالا هاريس كأول امرأة وأول امرأة سوداء نائبة للرئيس. لكنه في المقابل، أفقد «الرجل الأبيض» للمرة الأولى أيضاً، الغالبية في المحكمة، مع خمسة من أعضائها من غير البيض، واقتراب النساء من المساواة مع الرجال (4 نساء مقابل 5 رجال). ومع تولي القاضية جاكسون منصبها في 3 أكتوبر (تشرين الأول) المقبل، ستكون المحكمة العليا قد شهدت أكبر تغيير في تاريخها في أقل من جيل واحد، وسيكون متوسط عمر قضاتها 61 عاماً، مقابل إدارة أميركية يبلغ فيها الرئيس 79 عاماً ورئيسة مجلس النواب 82 عاماً. وهو ما طرح نقاشات وتساؤلات عن ضرورة تحديد سقف عمري، ليس فقط لقضاة المحكمة العليا، بل ولقادة البلاد السياسيين أيضاً.
ومن نافل القول إن الرئيس بايدن قد حقق واحداً من وعوده الانتخابية المهمة، لناخبيه من الأميركيين السود، عندما قال إن المحكمة العليا في طريقها لتكون «أشبه بأميركا»، عبر تعيينه جاكسون أول قاضية سوداء في المحكمة العليا. لكن ورغم ذلك، لن يتمكن تعيينها هذا من كسر التوازن القائم في المحكمة، حيث 6 من أعضائها من المحافظين، مقابل 3 ليبراليين. ويذكر، في هذا الإطار، أنه رغم تعيين ترمب للقضاة الثلاثة نيل غورساتش وبريت كافانو وإيمي باريت، الذين غالباً ما كانوا على يمين رئيس المحكمة العليا المحافظ جون روبرتس، فإن أمله قد خاب منهم بعد تصويتهم في المحكمة على قرارات رفضت تأكيداته المبالغة عن امتيازه التنفيذي، وادعاءاته بشأن خسارته انتخابات 2020.
كما أن تعيين جاكسون لن يخفف من حدة الانقسام السياسي الذي يتجه للاحتدام، مع استعداد المحكمة العليا للنظر في قضايا تثير خلافات شديدة، على رأسها قانون الإجهاض، والتعديل الدستوري الثاني المتعلق بحمل السلاح، والتمييز العرقي في القبول في الجامعات، وحقوق المثليين مقابل الحرية الدينية وغيرها من القضايا التي ينقسم الأميركيون حولها بشكل حاد، على أسس حزبية أكثر مما هو عليه الأمر في المحكمة. غير أن مراقبين لأعمال المحكمة العليا يرون أنها ستواجه مشكلات في المستقبل، في ظل تآكل الموافقة العامة على خلفيات قضاتها، نتيجة الانقسام السياسي. وأظهر استطلاع أجرته مدرسة «ماركيت» للحقوق في مارس (آذار) الماضي، أن 54 في المائة من الجمهور يوافقون على أداء وظائف المحكمة (64 في المائة من الجمهوريين، مقابل 52 في المائة من الديمقراطيين و51 في المائة من المستقلين)، تراجعاً من 66 في المائة في سبتمبر (أيلول) 2020، رغم ارتفاعه من 49 في المائة عام 2021، لكن حتى أدنى الاستطلاعات لا تزال تظهر أن المحكمة تتصدر مستوى شعبية بايدن أو الكونغرس. ومع تلك القضايا المعروضة على المحكمة، سيكون من الصعب الحفاظ على موافقة الحزبين، التي تستند بشكل عام إلى نتيجة القضية، وليس إلى منطق المحكمة. ويرجح أن تتعزز وجهات النظر الحزبية للمحكمة، عبر إصدارها مزيجاً من القرارات، أو لقرارات محدودة النطاق، قد لا تكون كافية للتخفيف من الانقسامات الحزبية، التي يمكن أن تهيمن على الحملات الانتخابية قبيل انتخابات التجديد النصفي للكونغرس الخريف المقبل.
- أوباما مهّد لجاكسون
في يوليو (تموز) 2009، عندما رشح باراك أوباما جاكسون لمنصب نائب رئيس لجنة إصدار الأحكام في الولايات المتحدة، بدا واضحاً أن عملية «إعداد وتأهيل» جارية للدفع بوجه أسود صاعد في عالم القضاء. في ذلك الوقت أكد مجلس الشيوخ تعيين جاكسون بالإجماع في فبراير (شباط) 2010، لتخلف القاضي مايكل هورويتز. وبقيت جاكسون في اللجنة حتى 2014، وفي سبتمبر 2012، رشّح أوباما جاكسون للعمل كقاضية في محكمة الاستئناف في الولايات المتحدة عن مقاطعة كولومبيا (العاصمة واشنطن)، عن المقعد الذي أخلاه القاضي المتقاعد هنري كينيدي. تم تقديم جاكسون في جلسة التأكيد في ديسمبر (كانون الأول) 2012 من قبل الجمهوري بول رايان، أحد أقاربها من خلال الزواج، الذي قال: «قد تختلف سياستنا، لكن مديحي لفكر كيتانجي وشخصيتها ونزاهتها لا لبس فيه». وفي فبراير 2013، تم تقديم ترشيحها إلى مجلس الشيوخ بكامل هيئته، ليتم تأكيدها عن طريق التصويت في مارس، وأدت اليمين في مايو (أيار) أمام القاضي ستيفن براير الذي ستخلفه اليوم في منصبه في المحكمة العليا.
ولدت كيتانجي براون جاكسون (بروتستانتية) في العاصمة واشنطن، عام 1970، وترعرعت في ميامي بولاية فلوريدا. كان والداها من خريجي كليات وجامعات السود تاريخياً. والدها، المحامي جوني براون، تخرج في كلية الحقوق بجامعة ميامي، وأصبح في النهاية كبير المحامين لمجلس مدرسة مقاطعة ميامي ديد ذات الغالبية السوداء. عملت والدتها إليري مديرة في مدرسة العالم الجديد للفنون. في عام 1996، تزوجت كيتانجي براون (اسم عائلتها قبل الزواج) الجراح باتريك جاكسون، من بوسطن، ولديهما ابنتان ليلى وتاليا. تربطها علاقة قرابة مع رئيس مجلس النواب السابق بول رايان، الذي ترشح عام 2012 كنائب للرئيس مع المرشح الرئاسي الجمهوري ميت رومني. فصهرها متزوج بأخت زوجة رايان.
تخرجت جاكسون في مدرسة ميامي بالميتو الثانوية العليا عام 1988. في سنتها الأخيرة، فازت بلقب الخطابة الوطنية في بطولة الرابطة الوطنية الكاثوليكية للطب الشرعي في نيو أورلينز. درست جاكسون المحاماة وأعمال الحكومة في جامعة هارفارد، وشاركت في تقديم أنشطة ثقافية وأخذت دروساً في الدراما، وقادت احتجاجات ضد طالب قام بعرض علم الكونفدرالية من نافذة مسكنه الطلابي في الجامعة. تخرجت في جامعة هارفارد عام 1992 بدرجة امتياز كبير، عن أطروحتها بعنوان «يد القهر: عمليات المساومة بالذنب وإكراه المتهمين بارتكاب جرائم». عملت جاكسون مراسلة وباحثة في مجلة «تايم» من 1992 إلى 1993، لتكمل تحصيلها في كلية الحقوق بجامعة هارفارد، حيث كانت محرراً مشرفاً لمجلة هارفارد للقانون، وتخرجت عام 1996 بدرجة دكتوراه في القانون بامتياز. وبينما كانت لا تزال طالبة في الكلية، حُكم على عم جاكسون، توماس براون جونيور، بالسجن مدى الحياة لإدانته بتعاطي الكوكايين من دون عنف. بعد سنوات، أقنعت جاكسون شركة محاماة بتولي قضيته مجاناً، وخفف الرئيس الأسبق أوباما عقوبته في النهاية. فيما خدم عم آخر، يدعى كالفن روس، كرئيس شرطة ميامي.
- جاكسون معارضة قوية لترمب
بدأت حياتها المهنية القانونية بثلاث وظائف كتابية، بما في ذلك واحدة مع القاضي ستيفن براير، الذي كان لا يزال مساعداً في المحكمة العليا. قبل ترقيتها إلى محكمة الاستئناف الأميركية عن دائرة العاصمة، عملت قاضية مقاطعة في محكمة مقاطعة كولومبيا في الولايات المتحدة من 2013 إلى 2021. منذ عام 2016، كانت عضواً في مجلس المشرفين في جامعة هارفارد. خلال فترة وجودها في المحكمة الجزئية، كتبت جاكسون عدة قرارات معارضة لمواقف إدارة ترمب. وفي رأيها الذي يطلب من دونالد ماكغان مستشار البيت الأبيض السابق في إدارة ترمب، الامتثال لأمر الاستدعاء التشريعي من مجلس النواب، كتبت أن «الرؤساء ليسوا ملوكاً». وتعاملت جاكسون مع عدد من التحديات لإجراءات بعض الوكالات التنفيذية التي أثارت تساؤلات حول القانون الإداري. كما أصدرت أحكاماً في قضايا عدة حظيت باهتمام سياسي خاص.
في 30 مارس 2021، أعلن الرئيس جو بايدن عزمه على ترشيح جاكسون للعمل قاضية في محكمة الاستئناف الأميركية عن دائرة العاصمة. في 19 أبريل (نيسان) 2021، أرسلت أوراق ترشيحها إلى مجلس الشيوخ، عن المقعد الذي أخلاه القاضي ميريك غارلاند، الذي استقال ليتولى منصب وزير العدل. في 28 من الشهر نفسه عقدت جلسة استماع بشأن ترشيحها أمام اللجنة القضائية بمجلس الشيوخ. وخلال جلسة التثبيت، تم استجواب جاكسون حول العديد من أحكامها ضد إدارة ترمب. في 20 مايو 2021، صوّتت اللجنة القضائية على ترشيحها بأغلبية 13 مقابل 9 أصوات. وفي 10 يونيو (حزيران) 2021، صوّت مجلس الشيوخ على ترشيحها بأغلبية 52 صوتاً. وبعد أربعة أيام، أكد مجلس الشيوخ تعيين جاكسون بأغلبية 53 مقابل 44 صوتاً، بعد انضمام أعضاء مجلس الشيوخ من الحزب الجمهوري سوزان كولينز وليندسي غراهام وليزا موركوفسكي إلى جميع الديمقراطيين الخمسين. وفي أول قرار لها كقاضية في محكمة الاستئناف، ألغت جاكسون قاعدة صدرت عام 2020، عن الهيئة الفيدرالية لعلاقات العمل التي كانت تقيّد القدرة التفاوضية لنقابات العمال في القطاع الفيدرالي.
وفي 25 فبراير 2022، رشح الرئيس جو بايدن جاكسون لعضوية المحكمة العليا، لملء المنصب الذي سيشغر بعد إعلان القاضي ستيفن براير نيته التقاعد نهاية هذا الصيف، لتندلع مجدداً معركة تثبيتها على طول خطوط الانقسام الحزبية المتوقعة. وفي السابع من هذا الشهر، صوّت جميع الديمقراطيين وثلاثة جمهوريين، هم السيناتور ميت رومني وسوزان كولينز وليزا موركوفسكي، من أعضاء مجلس الشيوخ، لصالح ترشيحها، مقابل اعتراض 47 جمهورياً. وخلال جلسات الاستماع التي عقدت لتثبيت عضويتها، اتهمها الجمهوريون بالتساهل مع المجرمين، بعد دفاعها وإصدارها أحكاماً مخففة عن بعض المحكومين بجرائم القتل، رغم عدم تبنيها حتى الآن مع غالبية أعضاء المحكمة إلغاء عقوبة الإعدام، التي يدعو إليها القاضي براير. كما ذكرت وكالة بلومبرغ أن المحافظين المعترضين أشاروا إلى أنه في ربيع عام 2021، أخذت جاكسون قرارات تم نقضها في الاستئناف، بوصفها «عيباً محتملاً في سجلها». وأشاروا إلى أنه في عام 2019، حكمت جاكسون بأن أحكاماً في ثلاثة أوامر تنفيذية لترمب تتعارض مع حقوق الموظفين الفيدرالية في المفاوضة الجماعية. لكن دائرة العاصمة عكست قرارها بالإجماع. وفي قرار آخر عام 2019 يطعن بقرار لوزارة الأمن الداخلي بخصوص ترحيل غير المواطنين، تم عكسه أيضاً من قبل دائرة العاصمة. لكن مدافعين عنها قالوا إن في سجلها ما يقرب من 600 رأي قضائي، لم يتعرض سوى 12 منها للطعن.

- المحكمة الأميركية العليا سلطتها مطلقة في جميع القضايا الفيدرالية أو التي تخص الدولة
> المحكمة العليا الأميركية هي أعلى محكمة في القضاء الفيدرالي للولايات المتحدة. تتمتع بسلطة استئنافية نهائية وتقديرية إلى حد كبير على جميع قضايا المحاكم الفيدرالية ومحاكم الولايات التي تنطوي على قضايا تخص القانون الفيدرالي، وكذلك على الولاية القضائية الأصلية على نطاق ضيق من القضايا. كما تختص على وجه التحديد في «جميع القضايا التي تؤثر في السفراء، والوزراء العامين، والقناصل الآخرين، وتلك التي تكون الدولة الأميركية فيها طرفاً». تتمتع المحكمة بسلطة المراجعة القضائية، والقدرة على إبطال القانون، لانتهاكه أحد أحكام الدستور. كما أنها قادرة على إلغاء التوجيهات والأوامر الرئاسية التنفيذية لانتهاكها الدستور أو القانون الوضعي. ومع ذلك، لا يجوز لها أن تتصرف إلا في سياق قضية في مجال قانوني لها اختصاص عليها. ويجوز للمحكمة أن تفصل في قضايا ذات مغزى سياسي. لكنها قضت خلال تاريخها بأنها «لا تملك سلطة الفصل في المسائل السياسية غير القابلة للتقاضي».
تأسست المحكمة العليا بموجب المادة الثالثة من دستور الولايات المتحدة. لكن قبل وضع هذه المادة الدستورية، تم إنشاء وتعيين إجراءات المحكمة العليا في البداية، من قبل الكونغرس الأول من خلال قانون القضاء لعام 1789. وبموجب قانون القضاء لعام 1869، حدد لاحقاً أن محكمة الولايات المتحدة العليا، تتكون من رئيس وثمانية قضاة مساعدين، يعينون لفترة مدى الحياة، ولا يغادرون منصبهم، إلّا في حالة الوفاة، أو التقاعد، أو الاستقالة، أو العزل. وهم اليوم، الرئيس جون روبرتس عينه جورج بوش الابن عام 2006، والقاضي كلارنس ثوماس عيّنه جورج بوش الأب عام 1991، ويعد الأطول في الخدمة، والقاضي ستيفن براير عينه بيل كلينتون عام 1994، وقد تقاعد أخيراً وتنتهي خدمته نهاية الصيف، لتحل مكانه القاضية كيتانجي جاكسون، والقاضي صاموئيل أليتو عيّنه بوش الابن عام 2006، والقاضية سونيا سوتوماير عينها أوباما عام 2009، والقاضية إلينا كاغان عينها أوباما عام 2010، والقاضي نيل غورساتش عينه ترمب عام 2017، والقاضي بريت كافانو عيّنه ترمب عام 2018، والقاضية إيمي باريت عينها ترمب نهاية 2020.
عندما شغور منصب فيها، يقوم الرئيس الأميركي، بترشيح قاضٍ شرط موافقة مجلس الشيوخ عليه. ورغم تعرض منصب القاضي «مدى الحياة» لانتقادات متزايدة، على خلفية تحول تعيينه إلى مسألة حزبية، وتخوفاً من «تحجر» آراء كبار السن، يقول آخرون إن ديمومة المنصب تجلب فوائد كثيرة، مثل الحياد والتحرر من الضغط السياسي. ولضمان استقلاليتهم المالية، يتقاضى قضاة المحكمة رواتب مرتفعة نسبياً. واعتباراً من عام 2021، يتقاضى القضاة راتباً سنوياً قدره 268 ألف دولار، ويتقاضى رئيس المحكمة 280 ألفاً. وتحظر المادة الثالثة من الدستور على الكونغرس، خفض رواتب القضاة. ورغم أن القانون يمنع القضاة من تلقي الهدايا ودعوات السفر باهظة الثمن، فإن تدقيقات أخيرة في العقدين الماضيين أظهرت أن جميع أعضاء المحكمة يقبلون هذه الهدايا. فقد تلقت القاضية سونيا سوتوماير 1.9 مليون دولار، من أحد الناشرين. وقام القاضي الراحل انتوني سكاليا وآخرون بعشرات الرحلات باهظة الثمن إلى «مواقع غريبة»، دفع ثمنها متبرعون من القطاع الخاص. كما تثير المناسبات الخاصة التي ترعاها مجموعات حزبية، ويحضرها القضاة مع أولئك الذين لديهم مصلحة، مخاوف بشأن التواصل معهم والتأثير في أحكامهم.


مقالات ذات صلة

أفريقيا... ساحة تنافس جديد بين الهند والصين

حصاد الأسبوع Chinese Foreign Minister Wang Yi (C) speaks during a press conference with Senegal's Foreign Minister Yassine Fall (L) and Congo Foreign Minister Jean-Claude Gakosso (R) at the Forum on China-Africa Cooperation (FOCAC) in Beijing on September 5, 2024. (Photo by GREG BAKER / AFP)

أفريقيا... ساحة تنافس جديد بين الهند والصين

منذ فترة ولايته الأولى عام 2014، كان رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي أكبر مناصر للعلاقات بين الهند وأفريقيا.

براكريتي غوبتا (نيودلهي)
حصاد الأسبوع نيتومبو ندايتواه... أول امرأة تترأس ناميبيا

نيتومبو ندايتواه... أول امرأة تترأس ناميبيا

سطرت نيتومبو ناندي ندايتواه، 72 عاماً، اسمها في التاريخ بوصفها أول امرأة تتولى رئاسة ناميبيا منذ استقلال البلاد عام 1990، بعدما حصدت 57 في المائة من الأصوات في

فتحية الدخاخني ( القاهرة)
رياضة سعودية السعودية تستمر في تشكيل خريطة مختلف الرياضات العالمية بتنظيم واستضافات غير مسبوقة (الشرق الأوسط)

السعودية ستُشكل خريطة الرياضة العالمية في 2025

شارف عام حافل بالأحداث الرياضية بما في ذلك الألعاب الأولمبية التي حظيت بإشادة واسعة وأربع بطولات قارية لكرة القدم على الانتهاء ومن المتوقع أن يكون عام 2025 أقل.

«الشرق الأوسط» (لندن)
حصاد الأسبوع فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟

فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟

بعد 9 أيام من سقوط الحكومة الفرنسية بقيادة ميشال بارنييه في اقتراع لحجب الثقة، عيّن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، فرنسوا بايرو، زعيم رئيس حزب الوسط (الموديم)،

أنيسة مخالدي (باريس)
حصاد الأسبوع خافيير ميلي (أ.ب)

خافيير ميلي... شعبية «المخرّب الأكبر» لا تعرف التراجع

في المشهد الشعبوي واليميني المتطرف، المتنامي منذ سنوات، يشكّل الصعود الصاعق لخافيير ميلي إلى سدّة الرئاسة في الأرجنتين، حالة مميّزة، لا بل فريدة، من حيث الأفكار

شوقي الريّس (مدريد)

منطقة الساحل... ساحة صراع بين الغرب وروسيا

طائرة ميراج 2000 فرنسية في قاعدة بنيامي، عاصمة النيجر، يوم 5 يونيو 2021 (أ.ب)
طائرة ميراج 2000 فرنسية في قاعدة بنيامي، عاصمة النيجر، يوم 5 يونيو 2021 (أ.ب)
TT

منطقة الساحل... ساحة صراع بين الغرب وروسيا

طائرة ميراج 2000 فرنسية في قاعدة بنيامي، عاصمة النيجر، يوم 5 يونيو 2021 (أ.ب)
طائرة ميراج 2000 فرنسية في قاعدة بنيامي، عاصمة النيجر، يوم 5 يونيو 2021 (أ.ب)

يسدلُ الستارُ على آخر مشاهد عام 2024 في منطقة الساحل الأفريقي، ورغم أن هذه الصحراء الشاسعة ظلت رتيبة لعقود طويلة، فإن المشهد الأخير جاء ليكسر رتابتها، فلم يكن أحد يتوقع أن ينتهي العام والمنطقة خالية من القوات الفرنسية، وأن يحل محلها مئات المسلحين الروس، وأنّ موسكو ستكون أقربَ من باريس لكثير من أنظمة الحكم في العديد من بلدان القارة السمراء.ورغم أن الفرنسيين كانوا ينشرون في الساحل أكثر من 5 آلاف جندي لمحاربة الإرهاب، بينما أرسل الروس بدورهم مرتزقة شركة «فاغنر» للمساعدة في المهمة نفسها، التي فشل فيها الفرنسيون، فإن الإرهاب ما زال يتمدد، بل إنه ضرب في قلب دول الساحل هذا العام، كما لم يفعل من قبل.

لم يكن الإرهاب حجةً للتدخل العسكري الأجنبي فقط، وإنما كان حجة جيوش دول الساحل للهيمنة على الحكم في انقلابات عسكرية أدخلت الدول الثلاث، مالي، النيجر وبوركينا فاسو، في أزمة حادة مع جيرانها في المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (إيكواس)، انتهت بالقطيعة التامة وانسحاب الدول الثلاث من المنظمة الإقليمية التي كانت حتى وقت قريب تمثّلُ حلماً جميلاً بالاندماج والتكامل الاقتصادي.

بالإضافة إلى تصاعد الإرهاب والعزلة الإقليمية، حمل عام 2024 معه لدول الساحل تداعيات مدمرة للتغيّر المناخي، فضرب الجفاف كثيراً من المحاصيل الزراعية، وجاءت بعد ذلك فيضانات دمّرت ما بقي من حقول وقرى متناثرة في السافانا، وتسببت في موت الآلاف، وتشريد الملايين في النيجر وتشاد ومالي وبوركينا فاسو.

صورة وزعها الجيش الفرنسي لمقاتلين من المرتزقة الروس خلال صعودهم إلى مروحية في شمال مالي في أبريل 2022 (الجيش الفرنسي - أ.ب)

الخروج الفرنسي

الساحل الذي يصنّف واحدة من أفقر مناطق العالم وأكثرها هشاشة، كان يمثّلُ الجبهة الثانية للحرب الروسية - الأوكرانية، فكان مسرحاً للصراع بين الغرب وروسيا، وقد تصاعد هذا الصراع في عام 2024، وتجاوز النفوذ السياسي والاستراتيجي، إلى ما يشبه المواجهة المباشرة من أجل الهيمنة على مناجم الذهب واليورانيوم وحقول النفط، والموارد الهائلة المدفونة في قلب صحراء يقطنها قرابة 100 مليون إنسان، أغلبهم يعيشون في فقر مدقع.

يمكن القول إن عام 2024 محطة فاصلة في تاريخ الوجود العسكري الفرنسي في منطقة الساحل، خصوصاً أن الفرنسيين دخلوا المنطقة مطلع القرن التاسع عشر، تحت غطاء تجاري واقتصادي، ولكن سرعان ما تحوّل إلى استعمار عسكري وسياسي، هيمن بموجبه الفرنسيون على المنطقة لأكثر من قرن من الزمان، وبعد استقلال هذه الدول، ظلت فرنسا موجودة عسكرياً بموجب اتفاقات للتعاون العسكري والأمني.

ازداد الوجود العسكري الفرنسي في منطقة الساحل بشكل واضح، عام 2013، بعد أن توجّه تنظيم «القاعدة» إلى منطقة الساحل الأفريقي، ليتخذ منها مركزاً لأنشطته بعد الضربات التي تلقاها في أفغانستان والعراق، ومستغلاً في الوقت ذاته الفوضى التي عمّت المنطقة عقب سقوط نظام العقيد الليبي معمر القذافي عام 2011. حينها أصبح الفرنسيون يقودون «الحرب العالمية على الإرهاب» في الساحل، وأطلقوا عملية «سيرفال» العسكرية في يناير (كانون الثاني) 2013، التي تحوّلت عام 2014 إلى عملية «برخان» العسكرية التي كان ينفق عليها الفرنسيون سنوياً مليار يورو، وينشرون فيها أكثر من 5 آلاف جندي في دول مالي والنيجر وبوركينا فاسو وتشاد.

على وقع هذه الحرب الطاحنة بين الفرنسيين وتنظيم «القاعدة»، وانتشار الجنود الفرنسيين بشكل لافت في شوارع المدن الأفريقية، تصاعد الشعور المعادي لفرنسا في الأوساط الشعبية، ما قاد إلى انهيار الأنظمة السياسية الموالية لباريس، وسيطر عسكريون شباب على الحكم في مالي والنيجر وبوركينا فاسو، وكان أول قرار اتخذوه هو «مراجعة» العلاقة مع فرنسا، وهي مراجعة انتهت بالقطيعة التامة.

حزمت القوات الفرنسية أمتعتها وغادرت مالي، ثم بوركينا فاسو والنيجر، ولكن المفاجأة الأكبر جاءت يوم 28 نوفمبر (تشرين الثاني) 2024 حين قررت تشاد إنهاء اتفاقية التعاون العسكري مع فرنسا، وهي التي ظلت دوماً توصف بأنها «حليف استراتيجي» للفرنسيين والغرب في المنطقة.

وبالفعل بدأ الفرنسيون حزم أمتعتهم ومغادرة تشاد دون أي تأخير، وغادرت مقاتلات «ميراج» الفرنسية قاعدة عسكرية في عاصمة تشاد، إنجامينا، يوم الثلاثاء 10 ديسمبر (كانون الأول) الحالي، في حين بدأ الحديث عن خطة زمنية لخروج أكثر من ألف جندي فرنسي كانوا يتمركزون في تشاد.

ربما كان تطور الأحداث خلال السنوات الأخيرة يوحي بأن الفرنسيين في طريقهم إلى فقدان نفوذهم التقليدي في منطقة الساحل، ولكن ما يمكن تأكيده هو أن عام 2024 شكّل «لحظة الإدراك» التي بدأ بعدها الفرنسيون يحاولون التحكم في صيغة «الخروج» من الساحل.

صورة جماعية لقادة دول "الإيكواس" خلال قمتهم في أبوجا بنيجيريا يوم 15 ديسمبر 2024 (أ.ف.ب)

لقد قرَّر الفرنسيون التأقلم مع الوضع الجديد في أفريقيا، حين أدركوا حجم الجهد الضائع في محاولة المواجهة والضغط على الأنظمة العسكرية المتحالفة مع روسيا، فهذه الأنظمة لا تتوقف عن «إذلال» القوة الاستعمارية السابقة بقرارات «استفزازية» على غرار اعتقال 4 موظفين بالسفارة الفرنسية في بوركينا فاسو، واتهامهم بالتجسس، وبعد عام من السجن، أُفرج عنهم بوساطة قادها العاهل المغربي الملك محمد السادس يوم 19 ديسمبر 2024.

وفي النيجر، قرَّر المجلس العسكري الحاكم، في يونيو (حزيران) 2024، إلغاء رخصة شركة فرنسية كانت تستغل منجماً لليورانيوم شمال البلاد، وسبق أن قرَّرت النيجر، على غرار مالي وبوركينا فاسو، منع وسائل الإعلام الفرنسية من البث في البلاد بعد أن اتهمتها بنشر «أخبار كاذبة».

يدخل مثل هذه القرارات ضمن مسار يؤكد أن «النقمة» تجاه الفرنسيين في دول الساحل تحوّلت إلى قرار نهائي بالقطيعة والخروج من عباءة المستعمِر السابق. وفي ظل مخاوف من اتساع رقعة هذه القطيعة لتشمل دولاً أفريقية أخرى ما زالت قريبةً من باريس، وضع الفرنسيون خطةً لإعادة هيكلة وجودهم العسكري في أفريقيا، من خلال تخفيض قواتهم المتمركزة في السنغال، وكوت ديفوار، والغابون، وجيبوتي.

أسند الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مهمة إعداد هذه الخطة إلى جان-ماري بوكل، حين عيّنه في شهر فبراير (شباط) 2024 مبعوثاً خاصاً إلى أفريقيا، وهي المهمة التي انتهت في نحو 10 أشهر، قدّم بعدها تقريراً خاصاً سلّمه إلى ماكرون، يوم 27 نوفمبر الماضي، ينصح فيه بتقليص عدد القوات الفرنسية المتمركزة إلى الحد الأدنى، وتَحوُّل القواعد العسكرية إلى «مراكز» أكثر مرونة وخفة، هدفها التركيز على التدريب العسكري، وجمع المعلومات الاستخباراتية، وتعزيز الشراكات الاستراتيجية.

الأميركيون أيضاً

حين كان الجميعُ يتحدَّث خلال العقدين الأخيرين عن الانتشار العسكري الفرنسي، والنفوذ الذي تتمتع به باريس في منطقة الساحل وغرب أفريقيا، كان الأميركيون حاضرين ولكن بصمت، ينشرون مئات الجنود من قواتهم الخاصة في النيجر؛ لمساعدة هذا البلد في حربه ضد جماعات مثل «القاعدة»، و«بوكو حرام»، و«داعش». واستخدم الأميركيون في عملياتهم قاعدة جوية في منطقة «أغاديز» خاصة بالطائرات المسيّرة التي تمكِّنهم من مراقبة الصحراء الكبرى وتحركات «القاعدة» من جنوب ليبيا وصولاً إلى شمال مالي.

ولا يزال الأميركيون أوفياء لاستراتيجية الحضور العسكري الصامت في أفريقيا، على العكس من حلفائهم الفرنسيين وخصومهم الروس، ولكن التحولات الأخيرة في منطقة الساحل أرغمتهم على الخروج إلى العلن، خصوصاً حين بدأت مجموعة «فاغنر» تتمتع بالنفوذ في النيجر. حينها أبلغ الأميركيون نظام الحكم في نيامي بأنه لا مجال لدخول «فاغنر» إلى بلد هم موجودون فيه.

وحين اختارت النيجر التوجه نحو روسيا و«فاغنر»، قرَّر الأميركيون في شهر أغسطس (آب) 2024 سحب قواتهم من النيجر، وإغلاق قاعدتهم العسكرية الجوية الموجودة في شمال البلاد.

وأعلن الأميركيون خطةً لإعادة تموضع قواتهم في غرب أفريقيا، فتوجَّهت واشنطن نحو غانا وكوت ديفوار وبنين، وهي دول رفعت من مستوى تعاونها العسكري مع الولايات المتحدة، وتسلّمت مساعدات عسكرية كانت موجهة إلى النيجر، عبارة عن مدرعات وآليات حربية.

دبابة فرنسية على مقربة من نهر النيجر عند مدخل مدينة غاو بشمال مالي يوم 31 يناير 2013 (أ.ب)

البديل الروسي

لقد كانت روسيا جاهزة لاستغلال تراجع النفوذ الغربي في منطقة الساحل، وهي المتمركزة منذ سنوات في ليبيا وجمهورية أفريقيا الوسطى، فنشرت المئات من مقاتلي «فاغنر» في مالي أولاً، ثم في بوركينا فاسو والنيجر، كما عقدت صفقات سلاح كبيرة مع هذه الدول.

لكن موسكو حاولت في العام الماضي أن ترفع من مستوى تحالفها مع دول الساحل إلى مستويات جديدة. فبالإضافة إلى الشراكة الأمنية والعسكرية، كان الروس يطمحون إلى شراكة اقتصادية وتجارية.

ولعل الحدث الأبرز في هذا الاتجاه كان جولة قام بها وفد روسي بقيادة نائب رئيس الوزراء ألكسندر نوفاك، نهاية نوفمبر الماضي، وقادته إلى دول الساحل الثلاث: مالي وبوركينا فاسو والنيجر.

كان الهدف من الجولة هو «تعزيز الشراكة الاقتصادية»، مع تركيز روسي واضح على مجال «الطاقة». فقد ضم الوفد الروسي رجال أعمال وفاعلين في قطاع الطاقة، وسط حديث عن اتفاقات لإقامة محطات لإنتاج الطاقة الشمسية، تتولى شركات روسية تنفيذها في الدول الثلاث.

وفي شهر سبتمبر (أيلول) الماضي، وقَّع رؤساء مالي وبوركينا فاسو والنيجر اتفاقاً مع وكالة الفضاء الروسية، ستقدم بموجبه الوكالة الروسية لهذه الدول «صور الأقمار الاصطناعية»؛ من أجل تعزيز مراقبة الحدود وتحسين الاتصالات، أي أن روسيا أصبحت العين الرقيبة على دول الساحل بعد أن أُغمضت العين الفرنسية. هذا عدا عن نجاح روسيا في اللعب بورقة الأمن الغذائي، فكان القمح الروسي أهم سفير لموسكو لدى دول الساحل، وفي العام الماضي أصبحت موسكو أكبر مورِّد للحبوب لهذه الدول التي تواجه مشكلات كبيرة في توفير حاجياتها من الغذاء، فأصبح القمح الروسي يسيطر على سوق حجمها 100 مليون نسمة.

رغم المكاسب التي حققتها روسيا في منطقة الساحل الأفريقي، فإن عام 2024 حمل معه أول هزيمة تتعرَّض لها مجموعة «فاغنر» الخاصة، منذ أن بدأت القتال إلى جانب الجيش المالي، قبل سنوات عدة.

جاء ذلك حين تصاعدت وتيرة المعارك بين الجيش المالي والمتمردين الطوارق، إثر انسحاب مالي من اتفاقية الجزائر المُوقَّعة بين الطرفين عام 2015، ودخل الطرفان في هدنة بموجبها امتدت لقرابة 10 سنوات. لكن الهدنة انتهت حين قرر الماليون الزحف العسكري نحو الشمال حيث يتمركز المتمردون.

استطاع الجيش المالي، المدعوم من «فاغنر»، أن يسيطر سريعاً على كبريات مدن الشمال، حتى لم تتبقَّ في قبضة المتمردين سوى قرية صغيرة، اسمها تينزواتين، على الحدود مع الجزائر، وعلى مشارفها وقعت معركة نهاية يوليو (تموز) 2024، قُتل فيها العشرات من الجيش المالي و«فاغنر»، ووقع عدد منهم في الأسر.

كانت هزيمة مفاجئة ومذلة، خصوصاً حين نشر المتمردون مقاطع فيديو لعشرات الجثث المتفحمة، بعضها يعود لمقاتلين من «فاغنر»، كان من بينهم قائد الفرقة التي تقدّم الدعم للجيش المالي من أجل استعادة السيطرة على شمال البلاد.

طائرة ميراج فرنسية تُقلع من قاعدة في إنجامينا... (أ.ف.ب)

المفاجأة الأوكرانية

اللافت بعد هزيمة «فاغنر» والجيش المالي في «معركة تينزواتين» هو اكتشاف دور لعبته أوكرانيا في دعم المتمردين من أجل كسر كبرياء روسيا، من خلال إذلال «فاغنر»، وهو ما أكدته مصادر أمنية وعسكرية أوكرانية.

تحدَّثت مصادر عدة عن حصول المتمردين في شمال مالي على تدريب خاص في أوكرانيا، واستفادتهم من طائرات مسيّرة حصلوا عليها من كييف مكّنتهم من حسم المعركة بسرعة، بالإضافة إلى معلومات استخباراتية وفّرتها لهم المخابرات الأوكرانية وكان لها الأثر الكبير في الهزيمة التي لحقت بقوات «فاغنر» وجيش مالي.

لم يكن لأوكرانيا، في الواقع، أي نفوذ في منطقة الساحل الأفريقي، ولا يتجاوز حضورها سفارات شبه نائمة، لكنها وبشكل مفاجئ ألحقت بروسيا أول هزيمة على صحراء مالي، وأصبحت تطمح لما هو أكثر من ذلك. ولكن مالي أعلنت بعد مرور أسبوع على «معركة تينزواتين»، قطع علاقاتها الدبلوماسية مع أوكرانيا، وتبعتها في ذلك النيجر وبوركينا فاسو، كما تقدَّمت مالي بشكوى إلى مجلس الأمن الدولي تتهم فيها أوكرانيا بدعم «الإرهاب» في منطقة الساحل الأفريقي.

رغم مكاسب روسيا في الساحل، إلا إن عام 2024 حمل معه أول هزيمة لمجموعة «فاغنر» منذ أن بدأت القتال إلى جانب جيش مالي

قادة مالي الكولونيل أسيمي غويتا، والنيجر الجنرال عبدالرحمن تياني، وبوركينا فاسو النقيب إبراهيم تراوري خلال لقاء لـ "تحالف دول الساحل" في نيامي، عاصمة النيجر، يوم 6 يوليو الماضي (رويترز)

خطر الإرهاب

في 2024 كثّفت جيوش دول الساحل حربها ضد التنظيمات الإرهابية، ونجحت في تحقيق مكاسب مهمة، وقضت على مئات المقاتلين من تنظيمي «القاعدة» و«داعش»، وقد ساعدت على ذلك الشراكة مع روسيا، حيث حصلت جيوش الساحل على أسلحة روسية متطورة، كما كان هناك عامل حاسم تَمثَّل في مسيّرات «بيرقدار» التركية التي قضت على مئات المقاتلين.

لكن الخطوة الأهم في الحرب، جاءت يوم 6 مارس (آذار) 2024، حين أعلن قادة جيوش دول مالي والنيجر وبوركينا فاسو إنشاء «قوة عسكرية مشتركة»؛ لمواجهة الجماعات الإرهابية التي تنشط في المنطقة، خصوصاً في المناطق الحدودية، ما قلّص من قدرة التنظيمات الإرهابية على التنقل عبر الحدود.

في هذه الأثناء قرَّرت دول الساحل رفع مستوى هذا التعاون مطلع يوليو 2024، من خلال تشكيل «تحالف دول الساحل»؛ بهدف توحيد جهودها في مجال محاربة الإرهاب، ولكن أيضاً مواقفها السياسية والاقتصادية والاستراتيجية، قبل أن تتجه نحو تشكيل عملة موحدة وجواز سفر موحد.

في غضون ذلك، لم تتوقف التنظيمات الإرهابية عن شنِّ هجماتها في الدول الثلاث، ولعل الهجوم الأهم في العام الماضي ذاك الذي نفَّذه تنظيم «القاعدة» يوم 17 سبتمبر الماضي ضد مطار عسكري ومدرسة للدرك في العاصمة المالية باماكو. شكّل الهجوم الذي خلّف أكثر من 70 قتيلاً، اختراقاً أمنياً خطيراً، أثبت من خلاله التنظيم الإرهابي قدرته على الوصول إلى واحدة من أكثر المناطق العسكرية حساسية في قلب دولة مالي.

في يوم 28 يناير 2024 أعلنت الأنظمة العسكرية الحاكمة، في مالي والنيجر وبوركينا فاسو، الانسحاب من المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (إيكواس)، التي فرضت عقوبات ضد دول الساحل إثر الانقلابات العسكرية التي وقعت فيها، وفي يوليو عادت لتُشكِّل «تحالف دول الساحل».

يؤكد التحالف الجديد رغبة هذه الدول في الانسحاب من المنظمة بشكل نهائي، ولكنه في المقابل يرسم ملامح الصراع الدولي في المنطقة. فتحالف دول الساحل يمثّل المحور الموالي لروسيا، أما منظمة «إيكواس» فهي الحليف التقليدي لفرنسا والغرب.

ورغم أن منظمة «إيكواس» في آخر قمة عقدتها خلال ديسمبر الحالي، تركت الباب مفتوحاً أمام تراجع دول الساحل عن القرار، ومنحتها مهلة 6 أشهر، إلا أن القادة العسكريين لدول الساحل ردوا على المنظمة بأن قرارهم «لا رجعة فيه».