هل يعود مهرجان «كان» أقوى مما كان؟

رغم أزمات المنطقة وقلة حضور المرأة

أنطوني هوبكنز وآن هاذاواي في «زمن القيامة»
أنطوني هوبكنز وآن هاذاواي في «زمن القيامة»
TT

هل يعود مهرجان «كان» أقوى مما كان؟

أنطوني هوبكنز وآن هاذاواي في «زمن القيامة»
أنطوني هوبكنز وآن هاذاواي في «زمن القيامة»

أعلن تييري فريمو، النائب العام لمهرجان «كان» السينمائي أول من أمس، عن رزمة الأفلام المشتركة في إطار الدورة المقبلة التي ستقام ما بين 17 و28 من الشهر المقبل. وتشمل الأفلام المعلنة إنتاجات داخل المسابقة الأولى وخارجها وداخل مسابقة «نظرة ما» والعروض الخاصة وتلك الأفلام التي تدخل في برامج أخرى مثل «مدنايت سكريننغ» و«كان برميير». يبلغ عدد الأفلام المعلنة 47 لكن من المتوقع إضافة بضعة أفلام ليتجاوز عددها «نحو الخمسين»، كما ذكر فريمو في المؤتمر الصحافي. من بين هذه الأعمال 18 فيلماً في المسابقة الرسمية، وستة أفلام خارجها، وثلاثة في تظاهرة «مدنايت سكريننغز»، وأربعة في «كان برميير»، وثلاثة أخرى في «عروض خاصّة». أما برنامج مسابقة «نظرة ما» فيضم خمسة عشر فيلماً حتى الآن.
على تعدد هذه الأقسام لا يوجد إيضاح حول أي فيلم يصلح لدخول «كان برميير» مثلاً وليس «عروض خاصّة» ما دام كل الأفلام عروضاً خاصّة وتُعرض للمرّة الأولى عالمياً. ثم بين هذين القسمين وقسم «أفلام خارج المسابقة» ما دام كل الأفلام، باستثناء المسابقتين الأساسية و«نظرة ما»، هي خارج المسابقة. لكنّ أحداً لن يتوقف عند هذه النقاط كونها تتبع التنظيم الذي يسير «كان» عليه منذ سنوات بعيدة.
الثابت أن هناك عدّة ملامح مهمّة تستوجب التوقف عندها في تحليل أوّلي لما سيعرضه المهرجان في دورته الخامسة والسبعين. ملامح بعضها جديد يتعلق بتداعيات الحرب الأوكرانية وبعضها الآخر قديم متكرر ومعهود. وثمة اتفاق إعلامي في الغرب على أن هذه الدورة ستكون أهم دورات المهرجان في السنوات الأخيرة. وهو أمر محتمل جداً نظراً إلى الأسماء المهمّة المشتركة وللتنويع بينها، إذ تنقسم بين من ارتاد المهرجان من قبل ومن هو إضافة جديدة إليه.
في المسألة الأوكرانية كان المهرجان الفرنسي قد أعلن قبل نحو شهر ونصف أنه في الوقت الذي لن يستقبل فيه وفوداً روسية رسمية ولا أفلاماً ممولة من مؤسساتها الرسمية، لكنه ترك الباب مفتوحاً أمام احتمال قبول أفلام روسية لمخرجين نازحين أو مستقلين. وهذا ما يفعله المهرجان تماماً، إذ يعرض في المسابقة فيلم «زوجة تشايكوفسكي» لكيريل سيربررنيكوف، وهو مخرج مستقل، وفيلم «التاريخ الطبيعي للتدمير» لسيرغي لوزنتزا. كلاهما يعيش في ألمانيا اليوم، إذ كان سيربررنيكوف (والدته أوكرانية) قد نزح إليها قبل عدة أشهر بينما يقيم لوزنتزا فيها منذ سنوات. وبينما يعرض المهرجان فيلم سيربررنيكوف في المسابقة الرسمية، نجد «التاريخ الطبيعي للتدمير» معروضاً في نطاق العروض الخاصّة. بينما يتعامل «زوجة تشايكوفسكي» مع موضوع لا علاقة له بالأحداث الجارية كان لا بد للمخرج الأوكراني لوزنتزا (الذي تم سحب عضويته من الأكاديمية بعدما عارض قرارات الحكومة حيال مخرجين روس وعُدّ بالتالي مؤيداً للغزو) من تقديم ما عمد في السابق إلى تقديمه من أعمال وثائقية حول الحروب والدمار الذي تسببه. ومع أن الفيلم أُنجز قبل الغزو الروسي، فإنه سيذكّر بالطبع بما يحصل في أوكرانيا اليوم.

وهناك فيلم أوكراني آخر عنوانه «رؤية فراشة» لماكسيم ناكانوتشنيي سيُعرَض «نظرة ما» ويدور حول جندية أوكرانية تلقي القوات الانفصالية القبض عليها وتعتدي عليها جنسياً قبل إطلاقها فتعود إلى منزلها محمّلة بآلام التجربة.
في المؤتمر الصحافي ذكر فريمو أنه من المثير للملاحظة أن السينما الأوكرانية نشطة حتى خلال هذه الحرب، مشيراً إلى «رؤية فراشة» كمثال، لكنّ هذا الفيلم بوشر تصويره قبل أسابيع من الغزو الروسي. لكنّ فريمو كان صريحاً وجاداً عندما أشار إلى أن المهرجان ليس في وارد مقاطعة أحد. «لا يمكن ممارسة رقابة على السينما»، كما ذكر، فاتحاً المجال لبعض التكهنات حول كيفية تطبيق ذلك ضمن الوضع السياسي القائم بين روسيا وأوكرانيا.
من جانب آخر، يعاود المهرجان الفرنسي الاعتماد على زبائنه التقليديين إلى حد بعيد. مثل لوزنتزا الذي أَمّ المهرجان بضع مرّات، وهناك أفلام للبولندي كرستيان منجيو وللأميركي جيمس غراي وللياباني هيروكاتزو كوري - إيدا والفرنسيين أرنود دسبلشان وفاليريا دروني تاديشي وكلير دَني والكندي ديفيد كروننبيرغ. كلٌّ أحضر عمله الأخير فضمّها المهرجان إلى مسابقته الرسمية. هذا الاتكال على زبائن معهودين للمهرجان أمر لا مفر منه وطبيعي إلى حد بعيد، فالمهرجان من القوّة بحيث لا يوجد سبب لمن دخله سابقاً أن يحوّل بوصلته صوب مهرجانات أخرى (وإن كان كثيرون فعلوها ثم عادوا)، وهو يبحث عن الأفضل بين الأسماء التي تصنع السينما الفنية، وهذا الفريق منهم. من هذه الأسماء نلحظ أن عدد الأفلام الفرنسية المشتركة في المسابقة هي ثلاثة فقط؛ فدسبليشان يعرض «أخ وأخته»، وكلير دَني توفر «نجوم عند الظهر» (وكنا توقعنا ذلك في مقال سابق)، وتعرض فاليري بروني تديشي «أشجار الجوز». ‫ثلاثة فرنسية‬.
في لقائه مع الصحافة الفرنسية والأجنبية الموجودة في باريس، قال فريمو إنه أراد التقليل من الوجود الفرنسي لأن «كان» مهرجان عالمي. يتمنى المرء لو تذكر فريمو هذه الحقيقة قبل الآن عندما كانت الأفلام الفرنسية من الغزارة بحيث أخذنا نعتقد أننا في مهرجان خاص به. ففي العام الماضي وحده كانت هناك ثمانية أفلام فرنسية متسابقة من بين 21 فيلماً، والحال ذاته ساد دورات 2017 و2018 و2019. على أن هناك أفلاماً فرنسية عدّة خارج المسابقة هذا العام منها «Z» وهو كوميديا عن الزومبيز للمخرج ميشال أزانافييوس («الفنان»، 2011) الذي سيعرض في حفلة الافتتاح عوضاً عن فيلم «ألفيس» للمخرج الأسترالي باز لورمن الذي قيل سابقاً إنه الفيلم الذي سيفتتح هذه الدورة الجديدة. يفسّر فريمو ذلك بأن المخرج هو من طلب ألا يتم افتتاح الدورة بفيلمه الجديد لأن المهرجان سبق له أن افتتح دورتي 2001 و2013 بفيلمين سابقين له هما «مولان روج» و«غريت غاتسبي». ومن الأفلام الفرنسية الأخرى المعروضة خارج المسابقة الرسمية «إرما فب» لأوليفييه أساياس و«Nos Frangins» لرشيد بوشارب.
تقليل عدد الأفلام الفرنسية داخل المسابقة ليس الإجراء الصحيح الوحيد الذي قام به فريمو وفريق عمله هذا العام. فحسب قراءة قائمة الأفلام نجد أن المسابقة تحتوي على ثلاثة أفلام لمخرجات عوض عن ضعفَي ذلك في العام الماضي. السبب الواضح أن المهرجان لم يعثر على أعمال نسائية جيدة لكي تدخل عرين الأسد إلى جانب بقية الأفلام.
بما يخص ‫الحضور الأميركي‬، هناك «ألفيس» لشركة «وورنر» التي ستنقل طاقمه من الممثلين إلى المهرجان الفرنسي ومن بينهم توم هانكس وكودي سميت - ماكفي. وهو يشي كذلك بحضور أميركي موسّع يحيط به داخل المسابقة فيلم «زمن القيامة» (Armageddon Time) لجيمس غراي، وخارجها «توب غن: مافيريك» لجوزف كوزينسكي، و«جيري لي لويس: متاعب في البال» لإيثان كووَن. وقد أصاب فريمو عندما ذكر، في معرض حديثه عن فيلم «توم غن: مافيريك»، أن توم كروز (أحد منتجي هذا الفيلم وممثله الأول) هو «من بين أكثر الممثلين والمنتجين الأميركيين التزاماً بالسينما وحرصاً على عرض أفلامه في صالاتها. وهو حريص أيضاً على نوعيّتها». بطبيعة الحال سيحضر كروز المهرجان ومعه لفيف من ممثلي فيلمه ومنهم فال كيلمر وجنيفر كونلي وإدا هاريس.

في المقابل فإن الحضور العربي غائب والحضور الآسيوي محدود. بالنسبة للأول لم يجد المهرجان من بين ما تقدّم ما يصلح للمنافسة، والاسم العربي الوحيد المطروح في مسابقته الرسمية الأولى هو اسم طارق صالح الذي سيعرض فيلمه (السويدي؟) «وُلد من السماء». أما بالنسبة للسينما الآسيوية فهناك حضور لثلاث دول هي اليابان (عبر فيلم هيروكاتزو كوري - إيدا «سمسار»)، وكوريا الجنوبية («قرار بالانصراف» لبارك تشان - ووك)، والهند («كل ما يتنفّس» لشوناك سن في قسم «العروض الخاصة»).

** أفلام لا بد منها في «كان»:
1 - 2022 Eo: المخرج البولندي ييرزي سكوليموفسكي، الذي يتنقل ما بين بلاده وبريطانيا يعرض آخر أعماله في المسابقة.
2 - Decision to Leave: دراما من المخرج بارك تشان - ووك الذي عُرض في «كان» سابقاً فيلمه الجيد «الخادمة».
3- RMN: عودة المخرج الروماني كرستيان منجيو إلى «كان» مرتبطة بهذه الدراما الاجتماعية الداكنة.
4- Armageddon Time: فيلم جيمس غراي الجديد، وهو من مرتادي المهرجان الفرنسي سابقاً. فيلمه الجديد من بطولة آن هاذاواي وأنطوني هوبكنز.
5- A Boy From Heaven: المخرج المصري الأصل طارق صالح يقدّم دراما تدور حول وفاة إمام أمام تلاميذه خلال درس ديني. البطولة لتوفيق برهوم وفارس فارس.
6- Broker: فيلم آخر من أفلام المسابقة المنتظرة للمخرج هيروكاتزو كوري - إيدا الذي سبق أن نال السعفة الذهبية عن عمله السابق «النشّالون».
7- Crimes of the Future: للمخرج الكندي ديفيد كروننبيرغ وبطولة الأميركية كرستن ستيوارت والفرنسية ليا سيدو.
8- Three Thousand Years of Longing: الفيلم الأسترالي المنتظر من جورج ميلر («ماد ماكس»). الصحافة الأسترالية تقول إنه أفضل ما حققه ميلر منذ سنوات.
9- Jerry Lee Lewis: بعد انفصال الأخوين كووَن وقيام جووَل بتحقيق أول فيلم منفرد له («تراجيديا ماكبث»)، يقدّم شقيقه إيثان فيلمه المنفرد بدوره، وهو سيرة حياة المغني جيري لي لويس.


مقالات ذات صلة

أربعينات القرن الماضي تجذب صناع السينما في مصر

يوميات الشرق أحمد عز في لقطة من فيلم «فرقة الموت» (الشرق الأوسط)

أربعينات القرن الماضي تجذب صناع السينما في مصر

يبدو أن سحر الماضي دفع عدداً من صناع السينما المصرية إلى اللجوء لفترة الأربعينات من القرن الماضي بوصفها مسرحاً لأحداث أفلام جديدة.

داليا ماهر (القاهرة)
يوميات الشرق مهرجان القاهرة السينمائي لتنظيم ورش على هامش دورته الـ45 (القاهرة السينمائي)

«القاهرة السينمائي» يدعم صناع الأفلام بالتدريبات

أعلن «مهرجان القاهرة السينمائي الدولي» عن تنظيم مجموعة متخصصة من الورش لصنّاع الأفلام.

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
يوميات الشرق المخرج معتز التوني يتوسط وأمينة خليل فريق العمل خلال العرض الخاص بالقاهرة (الشركة المنتجة)

«X مراتي» فيلم مصري جديد يراهن على «الضحك» فقط

يرفع الفيلم المصري «X مراتي» شعار «الضحك للضحك» عبر كوميديا المواقف الدرامية التي تفجرها قصة الفيلم وأداء أبطاله.

انتصار دردير (القاهرة)
يوميات الشرق  الحدث يهتم بالتنوّع البيولوجي والسينما (مهرجانات ريف)

انطلاق «مهرجانات ريف»... ومشكلات بيئة جنوب لبنان في الصدارة

تُعدّ «مهرجانات ريف» المُقامة في بلدة القبيات، الوحيدة لبنانياً التي تتناول موضوعات البيئة، فتضيء على مشكلاتها وتزوّد روّادها بحلول لمعالجتها.

فيفيان حداد (بيروت)
يوميات الشرق حورية فرغلي (إنستغرام)

حديث حورية فرغلي عن حياتها الشخصية يلفت الانتباه في مصر

لفتت الفنانة المصرية، حورية فرغلي، الانتباه في مصر بعد حديثها عن تفاصيل في حياتها الشخصية، والسبب الذي لأجله قالت إنها «تمنت الموت».

محمد الكفراوي (القاهرة )

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)