مكي صال.. أعاد السنغال للواجهة

الرئيس السنغالي.. يعمل للانفتاح عربيًا وإسلاميًا وينوي إرسال قوات لمساندة التحالف العربي

مكي صال.. أعاد السنغال للواجهة
TT

مكي صال.. أعاد السنغال للواجهة

مكي صال.. أعاد السنغال للواجهة

هو أصغر رئيس في القارة الأفريقية.. وصل إلى الحكم قبل ثلاث سنوات، وينوي تقليص مأموريته الرئاسية من سبع إلى خمس سنوات. اتخذ قرارات قوية منذ وصوله إلى السلطة، وخاصة في محاربة الفساد والانفتاح على العالم العربي والإسلامي، كما ينوي إرسال قوات إلى السعودية للمشاركة ضمن التحالف العربي الإسلامي ضد الحوثيين في اليمن.. ويقدم في الوقت نفسه نظرة اقتصادية جديدة لتطوير السنغال. يواجه الرئيس الشاب تحديات كبيرة، في مقدمتها المشهد السياسي الداخلي وصراعه مع الرئيس السابق عبد الله واد، بالإضافة إلى التحدي الأمني في منطقة الساحل والمتمردين في جنوب البلاد. وهو خريج الجامعات السنغالية والفرنسية، يملك شهادات عليا في الجيولوجيا، وسبق أن شغل منصب الوزير الأول ورئيس البرلمان.

من فوق تلة دكار يطل بيت أبيض بملامح أفريقية، يقف أمامه حارسان بزي تقليدي مزركش بألوان حمراء وسوداء، يحملان سيوفًا تقليدية، ويرتديان قبعات طويلة على هيئة محاربي الغابات الأفريقية، داخل القصر يجلس الرئيس السنغالي مكي صال وهو يحتسي قهوته الصباحية من شرفة تطل على المحيط الأطلسي، عندما يلقي نظرة عن يمينه يجد جزيرة غوري التي تشهد على تاريخ مرير من العبودية، وبنظرة إلى اليسار يقع بصره على مدينة دكار التي تمثل مستقبل السنغال المشرق. يدرك مكي صال أهمية موقعه الجغرافي وهو الخبير الجيولوجي الذي تخرج في الجامعات السنغالية والفرنسية، يراقب الشمس وهي تشرق على مدينة دكار لتكشف له حجم التحديات التي عليه أن يواجه وهو الرئيس الأصغر سنًا في قارة من بين رؤسائها من تولوا الحكم وهو لا يزال طالبًا في الجامعة.
ولد مكي صال في شهر ديسمبر (كانون الأول) من عام 1961، في عائلة تقطن منطقة فاتيك وسط السنغال، تعود في أصولها إلى قبائل التكرور التي أسست لقرون مملكة عظيمة امتدت من المحيط الأطلسي وحتى تخوم إقليم دارفور في السودان. تربى مكي صال في حضن أسرة ريفية مكافحة، لديه أربعة إخوة، وكان والده يعمل موظفًا للدولة، تلقى تعليمه الابتدائي والثانوي في مسقط رأسه، قبل أن يلتحق بجامعة دكار، حيث تخرج بشهادة مهندس في الجيولوجيا، قبل أن يستفيد من تكوين في الجيولوجيا والجيوفيزياء في معهد علوم الأرض بدكار، ثم في المدرسة العليا للنفط والمحركات التابعة للمعهد الفرنسي للنفط بباريس.
كانت طموحات المهندس الشاب كبيرة فقرر بعد تخرجه الهجرة للبحث عن آفاق جديدة، فحملته أحلامه إلى تكساس بالولايات المتحدة، عمل هناك لسنوات في مجال النفط والطاقة، ولكن ميوله السياسية غلبت على تخصصه المهني فعاد إلى أرض الوطن وهو يحمل أحلامًا أخرى. بعد عودته ألقى المهندس الشاب نظرة المتخصص على الأرضية السياسية، فوقع اختياره على الحزب الديمقراطي السنغالي الذي يقوده السياسي المخضرم والمحامي عبد الله واد، لتبدأ بذلك مرحلة جديدة من مسيرته السياسية. تدرج مكي صال في الحزب وبدأ يقترب شيئًا فشيئًا من الدائرة الضيقة لرئيسه عبد الله واد، حيث أصبح رئيسًا لأطر الحزب قبل أن يبدي نشاطًا وكفاءة كبيرين في الحملة الدعائية للانتخابات الرئاسية عام 2000، وهي الانتخابات التي حملت الرئيس عبد الله واد إلى الحكم بعد أكثر من ثلاثة عقود من النضال في صفوف المعارضة.
مباشرة بعد فوز عبد الله واد عيّن مكي صال مديرًا عامًا لشركة النفط في السنغال، وهو منصب لم يكن غريبًا على الرجل المختص في الجيولوجيا والذي سبق أن شغل منصب رئيس قسم بنك المعلومات في الشركة لعدة سنوات؛ ولكن عبد الله واد لم يفرط في مكي صال، بل فضل له أن يكون قريبًا منه عبر تعيينه مستشارًا برئاسة الجمهورية مكلفًا ملف الطاقة والمعادن.
لفت مي صال نظر الرئيس عبد الله واد بخبرته في ميدان تخصصه، بالإضافة إلى قدراته كسياسي محنك، فأدخله حكومته الثانية عام 2001 حين منحه حقيبة المعادن والطاقة والمحروقات، وبعد عامين عينه وزيرًا للداخلية والمجموعات المحلية وناطقًا رسميًا باسم الحكومة. حصل مكي صال على الثقة الكاملة للرئيس واد عام 2004 حين اختاره لرئاسة الوزراء وكلفه تعيين الحكومة، وهو المنصب الذي شغله لثلاث سنوات، يشير أنصاره إلى أن مشاريع عبد الله واد الكبيرة أطلقت خلال قيادة مكي صال للحكومة (2004 - 2007)، ويضربون المثال بمشاريع الطرق السريعة والجسور والأنفاق التي شيدت داخل مدينة دكار لحل أزمة الاختناقات المرورية، بالإضافة إلى كورنيش دكار ومطار دكار الجديد.
انتهت المأمورية الأولى للرئيس عبد الله واد عام 2007، كان خلالها مكي صال هو الرجل الثاني في الحزب الحاكم والدولة، فتولى إدارة الحملة الدعائية من أجل إعادة انتخاب الرئيس، نجح صال في المهمة وخرج واد منتصرًا في الشوط الأول من الانتخابات، غير أن الأيام كانت تخفي عن الرجلين مرحلة صعبة من العلاقة بين الأستاذ والتلميذ. بعد إعادة انتخابه لم يجدد عبد الله واد الثقة في صال على رأس الحكومة، قرار برره آنذاك بأنه يحتاج إليه في مهام وأماكن أخرى؛ لينتخب صال رئيسًا للبرلمان، ومن هناك اتخذ قرارات صعبة كانت مؤثرة في علاقاته مع عائلة واد، وخصوصا نجل الرئيس كريم واد.
بدأت المواجهة بين الرئيس عبد الله واد ورئيس البرلمان مكي صال عندما أصرّ الأخير على استدعاء نجل الرئيس أمام النواب لاستجوابه حول تسيير المشاريع التي نفذتها الوكالة الوطنية لتنظيم المؤتمر الإسلامي الذي احتضنته العاصمة السنغالية دكار عام 2008. وقف الرئيس بقوة أمام استجواب نجله، ولكنه اصطدم بإصرار مكي صال على موقفه، ليتعرض لحملة من الضغوطات بدأت بفقدانه لمنصب الرجل الثاني في الحزب الديمقراطي السنغالي الحاكم، وانتهت بتقليص مأموريته كرئيس للبرلمان من خمس سنوات إلى سنة واحدة، قبل أن توجه له تهمٌ بتبييض الأموال وهي التهمة التي سقطت عنه بعد ذلك.
لم يلتفت مكي صال وراءه عام 2008 وهو يعلن الانسحاب من الحزب الحاكم ويؤكد تخليه عن جميع المناصب التي كان يشغلها بصفته الحزبية، وبدأ مرحلة جديدة لحفر اسمه كواحد من رموز المعارضة في بلد تحظى فيه التقاليد الديمقراطية باحترام كبير، فمن النادر أن يتنكر السنغاليون لمن يفقدون مناصبهم بسبب خلاف مع من هم في الأعلى، فهؤلاء يحتضنهم المجتمع ويحظون بتعاطف كبير وينظر إليهم على أنهم شجعان في زمن الخنوع.
بعد انسحابه من الحزب الحاكم أسس مكي صال رفقة عشرات السياسيين الغاضبين من حكم واد، حزب «التحالف من أجل الجمهورية»، حقق الحزب الجديد نتائج جيدة نسبيًا في الانتخابات المحلية عام 2009، وأصبح مكي صال عمدة لبلدية فاتيك التي ينحدر منها، وهو المنصب الذي سيتخلى عنه عام 2012 لتعارضه مع مهام رئيس الجمهورية.
استطاع مكي صال خلال السنوات الأولى بعد تأسيس حزبه أن يخلق لنفسه خطًا نضاليًا جديدًا يعتمد على قوة الخطاب والحضور والكاريزما، ما جعل السنغاليين يطلقون عليه لقب «مكي الحاد»، فيما يشهد له خصومه السياسيون بالنزاهة والكفاءة؛ كما حاول مكي صال تجسيد التنوع الثقافي للسنغال من خلال حديثه في مهرجاناته بأكثر من ثلاث لهجات محلية، بالإضافة إلى الفرنسية والإنجليزية، فمثل بذلك وجه الحداثة في السنغال مع التمسك بالهوية الثقافية لبلد يعتز مواطنوه بجذورهم الأفريقية.
دخلت السنغال في أتون صراع سياسي حاد قبيل الانتخابات الرئاسية عام 2012، صراع كاد يعصف بواحدة من أعرق الديمقراطيات الأفريقية، حيث أصرّ عبد الله واد على تعديل الدستور من أجل البقاء في السلطة، وهو أمر رفضته الطبقة السياسية والحركات الشبابية، لتتبلور حالة من الإجماع على ضرورة إنهاء حكم عبد الله واد، فكان مكي صال حاضرًا ليقدم نفسه كبديل مناسب تحترمه النخبة السياسية ويجسد أمل الشباب في مستقبل أفضل.
حقق مكي صال المستحيل في الشوط الثاني من الانتخابات، وقطف ثمرة سنوات من العمل في صمت، سنوات نادرًا ما يتحدث عنها الرجل الذي بذل خلالها جهدًا خرافيًا لاستقطاب أكبر قدر من الناخبين، في واحد من مؤتمراته الصحافية قال مكي صال عن نفسه: «أنا رجل سياسي واقعي مؤمن بالعمل، ولا إيمان لديّ بتوريث النجاح.. أنا جيولوجي ومحظوظ دائمًا لأنني أعرف قيمة أن أضع قدمي على الأرض وأن أنظر لما يجري على أرض الواقع، وعندما فهمت ذلك بدأت رحلة البحث عن الشعب السنغالي للالتقاء به، وقمت بما لم يسبق أن قام به أي سياسي سنغالي منذ عهد سينغور في إطار البحث عن اللقاء المباشر مع السنغاليين، قطعت أكثر من 80 ألف كلم في ثلاث سنوات، لقد زرت أكثر من 4 آلاف قرية حتى تلك الأكثر بعدًا وانقطاعًا عن العالم، إذا أنا لست هنا بالصدفة».
لا يؤمن مكي صال بالصدفة لذا فقد وضع منذ وصوله إلى الحكم طريقة خاصة في إدارة البلاد، حيث قرر إلغاء أكثر من خمسين وزارة وإدارة ووكالة ذات طابع عمومي لأنها «تثقل كاهل الدولة من دون جدوى»؛ ولكن الحرب على الفساد شكلت حجر الزاوية في سياسات الرجل، فقد أسس محكمة خاصة بمتابعة ملفات الفساد التي تورط فيها عدد من رموز النظام السابق، هي التي حكمت بالسجن والغرامة على نجل الرئيس السابق كريم واد.
يقول الكاتب الصحافي السنغالي فييه سافاني، إن مكي صال «وضع برامج وخططا مهمة في مجال الأمن الغذائي وتشغيل الشباب، ولكن الأهم بالنسبة لي هو محاربته للفساد، حيث بدأ يؤسس لثقافة جديدة تحارب الإحساس بالبعد عن العقاب، وأعتقد أن ملاحقة المتورطين في ملفات الفساد من رموز النظام السابق التي تجري الآن هي مهمة جدًا ليفهم السنغاليون أنه لا يمكنهم الثراء عبر الاستحواذ على ممتلكات الدولة». يواجه مكي صال تحديات كبيرة من أبرزها الوضع الاقتصادي وتشغيل الشباب، ولكنه يراهن على سياسات الانفتاح التي اعتمدها من خلال تشجيع الاستثمار، ويقول صال في هذا السياق: «نحن اليوم مجتمع منفتح جدًا يحاول تحسين مناخ الأعمال وإرساء الديمقراطية ودولة القانون وهو يتمتع بالاستقرار والحمد لله، وهو ما يؤهلنا لاستقبال الاستثمارات»، ولكنه بشكل خاص يراهن على الاستثمارات القادمة من دول الخليج العربي التي يصفها بـ«الحليف الاستراتيجي» لبلاده.
وعود كثيرة أعطاها مكي صال للسنغاليين، وملفات شائكة وعد بتسويتها، ولكن صخرة الواقع صلبة رغم خبرة الرجل الجيولوجية، ولعل أشهر وعوده تقليص المأمورية الرئاسية من سبع سنوات إلى خمس، وهو وعد أكد في أكثر من مناسبة أنه سيوفيه كما فعل مع وعده باستعادة ممتلكات الدولة التي تم الاستحواذ عليها بطرق غير مشروعة. الميزة التي يحفظها السنغاليون لرئيسهم الشاب هي الحزم في القرارات التي تتعلق بمواقف السنغال من الملفات الدولية، ظهر ذلك في تعامله مع الأزمة في دولة مالي المجاورة لبلاده حين كان أول من أرسل جنودًا لحفظ السلام في شمال مالي، كما عاد حزمه ليظهر حين قرر مؤخرًا إرسال 2100 جندي سنغالي إلى الأراضي السعودية من أجل المشاركة في العملية العسكرية ضد الحوثيين في اليمن. ما بين الملفات الدولية وقضايا الشأن الداخلي، يحاول صال أن يقدم رؤية إقليمية جديدة على بلدان غرب أفريقيا، حيث يسعى لخلق استراتيجية اقتصادية مبنية على التعاون الاقتصادي مع القوى الاقتصادية الكبرى بدل الاكتفاء بالمساعدات والديون، فطالما أكد الرئيس الشاب: «ما تحتاج إليه أفريقيا شركاء اقتصاديون أقوياء وليس مساعدات مالية وإنسانية».



كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
TT

كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين

رجل واحد حمله المستشار الألماني أولاف شولتس مسؤولية انهيار حكومته، وما نتج عن ذلك من فوضى سياسية دخلت فيها ألمانيا بينما هي بأمس الحاجة للاستقرار وتهدئة اقتصادها المتدهور. رجل وصفه المستشار بأنه «أناني»، وشن عليه هجوماً شخصياً نادراً ما يصدر عن شولتس المعروف بتحفظه وهدوئه. ذلك الرجل كان وزير ماليته كريستيان ليندنر، زعيم «الحزب الديمقراطي الحر» الذي كان شريكاً في الحكومة الائتلافية الثلاثية منذ عام 2021، برئاسة «الحزب الديمقراطي الاجتماعي» (الاشتراكي)، ومشاركة حزب «الخضر». ولقد طرده شولتس من الحكومة بعد خلافات حول ميزانية سنة 2025، ما تسبب بخروج الوزراء المتبقين من «الحزب الديمقراطي الحر»، ليبقى المستشار يقود حكومة أقلية حتى إجراء الانتخابات المبكرة في 23 فبراير المقبل. ثم إن شولتس تعرض لانتقادات كثيرة لهجومه الشخصي على ليندنر، خاصة من المستشارة السابقة أنجيلا ميركل التي وصفته بأنه كان «خارجاً عن السيطرة». لكن مع ذلك، فإن الصورة التي رسمها المستشار عن وزيره قد تحمل شيئاً من الواقع؛ إذ خرجت انتقادات من أوساط الديمقراطيين الأحرار لليندنر و«تصرفه بشكل أحادي» في دفع المستشار لإقالته. وقبل ذلك طالته انتقادات بعدما أصبح «الوجه الأوحد» لـ«الحزب الديمقراطي الحر» إبان الانتخابات الماضية عام 2021 وقبلها عام 2017. ولعل الحزب تسامح مع تصرفات ليندنر «الأنانية» تلك لنجاحه بإعادة الحزب إلى الخارطة السياسية بعد انهياره تقريباً عام 2013 وفشله بدخول البرلمان للمرة الأولى في تاريخه. إلا أن مستقبل الرجل الذي أعاد حزبه إلى الحياة... هو نفسه في خطر. فهل يستمر ليندنر بالبناء على تاريخه حتى اليوم للنهوض مجدداً؟

قد يكون كريستيان ليندنر أصغر زعيم انتُخب ليرأس حزبه «الديمقراطي الحر»، عن عمر 34 سنة فقط عام 2013، بيد أنه لم يكن ناجحاً على الدوام. وبعكس حياته السياسية وصعوده السريع إلى القمة، فشل ليندنر في مشاريع أعمال أطلقها عندما كانت السياسة ما زالت هواية بالنسبة إليه. واعترف لاحقاً بإخفاقاته تلك، مستعيناً بعبارة «المشاكل هي مجرد فرص شائكة» لكي يدفع نفسه إلى الأمام.

وبين عامَي 1997 و2001 أسس شركات خاصة مع أصدقاء له، انتهت بالفشل آخرها شركة «موماكس» التي انهارت وأفلست بعد أقل من سنة على إطلاقها.

هذه «الإخفاقات» التي طبعت مغامراته التجارية وهو في مطلع العشرينات قد تكون دفعته للتوجه إلى السياسة بجدية أكبر. وبالفعل، نجح عام 2001 بدخول البرلمان المحلي في ولايته شمال الراين-وستفاليا وهو ابن 21 سنة ليغدو أصغر نائب يدخل برلمان الولاية. ولصغر سنه وقسمات وجهه الخجولة كسب ليندنر آنذاك لقب «بامبي» بين أعضاء الحزب نسبة للغزال الصغير عند «ديزني».

«بامبي» في «البوندستاغ»

في عام 2009، فاز ليندنر بمقعد في البرلمان الفيدرالي (البوندستاغ) ليعود عام 2012 إلى ولايته أميناً عاماً للحزب في الولاية ونائباً محلياً مرة أخرى.

وبعدها ساعدت إخفاقات الديمقراطيين الأحرار في الانتخابات العامة عام 2013 بتسليط الضوء على ليندنر، الشاب الكاريزماتي الطموح الذي وجد فرصة سانحة أمامه للصعود داخل الحزب. ويومذاك فشل الحزب بتخطي عتبة الـ5 في المائة من أصوات الناخبين التي يحددها القانون شرطاً لدخول «البوندتساغ». وعقد أعضاؤه اجتماعاً خاصاً لمناقشة النتائج الكارثية التي لم يسبق للحزب أن سجلها في تاريخه، وانتخب ليندنر، وهو في سن الـ34، زعيماً للحزب مكلفاً بتأهيله وإعادته للحياة... وبذلك بات أصغر زعيم ينتخب لـ«الحزب الديمقراطي الحر».

شاب أنيق وجذّاب

شكّل سن ليندنر وأناقته وشخصيته عاملاً جاذباً للناخبين الشباب خاصة. وقاد حملة مبنية على أساس جذب الشباب ونفض صورة الحزب القديم التقليدي عنه، كما ساعده حضوره على وسائل التواصل الاجتماعي في التواصل مع مستخدميها من الشباب وتقريبهم إلى الحزب.

وغالباً ما نُشرت له صور من حياته الشخصية على «إنستغرام»، منها صورة لإجازة مع فرانكا ليهفيلدت، زوجته الصحافية التي كانت تعمل في قناة «دي فيلت»، ولقد عقدا قرانهما وهو في الحكومة عام 2022 في حفل ضخم وباذخ بجزيرة سيلت حضره عدد كبير من السياسيين. وينتظر الزوجان مولودهما الأول في الربيع المقبل.

للعلم، كان ليندر متزوجاً قبل ذلك من صحافية أخرى كانت نائبة رئيس تحرير «دي فيلت» أيضاً، هي داغمار روزنفلت، التي تكبره سناً ولم ينجبا أطفالاً معاً. لكنهما ظلا متزوجين من 2011 وحتى 2018 عندما أعلن طلاقهما وكشف عن علاقته مع ليهفيلدت.

أيضاً، لا يخفي ليندنر حبه للسيارات السريعة، وكان قال غير مرة قبل دخوله الحكومة مع حزب «الخضر» بأنه يهوى السيارات القديمة ويملك سيارة بورشه قديمة ومعها يملك رخصة للسباقات. وبجانب هذه الهواية يحب اليخوت ويملك رخصة للإبحار الرياضي وأخرى للصيد.

صورة شبابية عصرية

هذه الصورة التي رسمها ليندنر لنفسه، صورة الرجل الأنيق الذي يهتم بمظهره (لدرجة أنه خضع لزرع شعر) ويمارس هوايات عصرية، ساعدته على اجتذاب ناخبين من الشباب خاصة، وجعلته ينجح بإعادة حزبه إلى البرلمان عام 2017 بحصوله على نسبة أصوات قاربت 11 في المائة.

في حينه دخل في مفاوضات لتشكيل حكومة ائتلافية مع المستشارة أنجيلا ميركل التي فاز حزبها بالانتخابات، وكانت تبحث عن شركاء للحكم إثر حصولها على 33 في المائة من الأصوات. وفعلاً، بدأت ميركل مفاوضات مع الديمقراطيين الأحرار و«الخضر»، لكن ليندنر انسحب فجأة من المفاوضات بعد 4 أسابيع، ليعلن: «أفضل عدم الحكم من الحكم بشكل خاطئ».

ليندنر كان يختلف آنذاك مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين قبل سنتين. ويومها واجه الانتقاد لتفويته على حزبه فرصة الحكم، وهي فرصة خشي بعض الحزبيين ألا تُتاح مُجدداً.

ائتلاف مع اليسار

غير أن الفرصة أتيحت مرة أخرى في الانتخابات التالية عام 2021 عندما حقق «الحزب الديمقراطي الحر» نتائج أفضل من الانتخابات السابقة، حاصلاً على نسبة 11.5 في المائة من الأصوات. ومع أن «الحزب الديمقراطي الحر» حزب وسطي ليبرالي يؤيد الحريات الاقتصادية، ويعدّ شريكاً طبيعياً لحزب «الاتحاد الديمقراطي المسيحي» (يمين معتدل)، قرر ليندنر عام 2021 الدخول في ائتلاف حاكم مع الاشتراكيين و«الخضر»؛ ذلك أن الأخير يعتبر نقيضاً فكرياً للديمقراطيين الأحرار الذين يرون سياساته البيئية مكلفة وكابحة للتقدم الاقتصادي.

وهكذا تسلم ليندنر إحدى أهم الوزرات؛ إذ عُيّن وزيراً للمالية وثاني نائب للمستشار. وحقق بذلك حلمه الذي غالباً ما كرره خلال الحملات الانتخابية بأنه يريد أن يصبح وزيراً للمالية، وحتى إنه عرّف نفسه في إحدى الحملات ممازحاً: «تعرّفوا على وزير ماليتكم المقبل!».

خلفيته العلمية والفكرية

اهتمام ليندنر بالسياسة الاقتصادية ينبع من اهتماماته منذ تخرّجه من الجامعة؛ حيث درس العلوم السياسية ثم القانون والفلسفة في جامعة بون المرموقة (واسمها الرسمي جامعة راينيشه فريدريش - فيلهامز).

ثم إنه لم ينضم فور مغادرته المدرسة للخدمة العسكرية التي كانت إجبارية آنذاك، وأجّلها للدراسة وإكمال مغامراته التجارية، لكنه عاد لاحقاً وانضم إلى جنود الاحتياط ووصل لرتبة رائد. ورغم فشل مغامراته التجارية، بقيت اهتماماته السياسية منصبّة على الجانب المالي، ومن هنا جاء طموحه بأن يصبح وزيراً للمالية في الحكومة الفيدرالية.

وفكرياً، يؤمن ليندنر وحزبه بتقليص الإنفاق العام وخفض الضرائب وفتح الأسواق أمام الشركات الخاصة. ودائماً عارض خططاً عدّها متطرفة يدعمها «الخضر» لاستثمارات أكبر في الطاقة النظيفة بحجة تكلفتها العالية وتأثيرها على الشركات والأعمال. وكانت المفارقة أنه تسلّم حكومة كانت مسؤولة عن تطبيق سياسات تروّج للطاقة البديلة وتزيد من النفقات الاجتماعية وترفع من الضرائب.

هذا الأمر كان صعباً عليه تقبّله. ورغم وجود اتفاق حكومي حدّدت الأحزاب الثلاثة على أساسه العمل خلال السنوات الأربع من عمرها، عانى عمل الحكومات من الخلافات منذ اليوم الأول. وطبعاً لم تساعد الحكومة الأزمات المتتالية التي اضطرت لمواجهتها وكانت لها تأثيرات مباشرة على الاقتصاد، بدءاً بجائحة كوفيد-19 إلى الحرب الأوكرانية.

ولذا كان شولتس غالباً ما يعقد خلوات مع ليندنر وزعيم «الخضر»، روبرت هابيك، ويطول النقاش لساعات بأمل التوصل لحلول وسط يمكن للحكومة أن تكمل فيها عملها. وفي النهاية، كان من أبرز نقاط الخلاف التي رفض ليندنر المساومة فيها هي ما يُعرف في ألمانيا بـ«مكابح الدَّين العام»؛ إذ يرفض الدستور الألماني الاستدانة إلا في حالات الطوارئ، ولقد استخدمت الحكومة كوفيد-19 كطارئ للتخلي عن «مكابح الدَّين العام»، وبالتالي، الاستدانة والإنفاق للمساعدة عجلة الاقتصاد.

وأراد شولتس تمديد العمل بحالة الطوارئ كي تتمكن حكومته من الاستدانة وتمويل الحرب في أوكرانيا من دون الاقتطاع من الخدمات العامة، لكن ليندنر رفض مقترحاً تخفيض الإنفاق العام في المقابل، الأمر الذي اعتبره شولتس «خطاً أحمر».

تهم وشكوك

وحقاً، اتُّهم ليندنر بعد طرده بأنه كان يخطط للانسحاب من الحكومة منذ فترة، وبأنه وضع خطة لذلك بعدما وجد أن حزبه منهار في استطلاعات الرأي وأن نسبة تأييده عادت لتنخفض إلى ما دون عتبة الـ5 في المائة.

أيضاً، كُشف بعد انهيار الحكومة عن «وثيقة داخلية» أعدّها ليندنر وتداولها مع نفر من المقرّبين منه داخل الحزب، تحضّر للانسحاب من الحكومة بانتظار الفرصة المناسبة. وقيل إنه بدأ يخشى البقاء في حكومة فقدت الكثير من شعبيتها بسبب المشاكل الاقتصادية وارتفاع التضخّم خلال السنوات الثلاث الماضية، ما أثر على القدرة الشرائية للألمان. وبناءً عليه، خطّط ليندنر للخروج منها قبل موعد الانتخابات واستخدام ذلك انتخابياً لإعادة رفع حظوظ حزبه الذي يبدو الأكثر تأثراً من الأحزاب المشاركة في الحكومة، بخسارة الأصوات. وطرحت «الوثيقة» التي كُشف عنها مشكلة أخرى بالنسبة لليندنر - داخل حزبه هذه المرة - فواجه اتهامات بالتفرّد بالقرارات وحتى دعوات لإقالته.

طامح لمواصلة القيادة

حتى الآن، يبدو كريستيان ليندنر مصراً على قيادة حزبه في انتخابات فبراير (شباط)، وما زال لم يفقد الأمل العودة حتى إلى الحكومة المقبلة وزيراً للمالية في حكومة يقودها زعيم الديمقراطيين المسيحيين، فريدريش ميرتز، الذي يتقدّم حزبه في استطلاعات الرأي ومن المرجح أن يتولى المستشارية. وللعلم، ميرتز نفسه أبدى انفتاحاً على ضم ليندنر إلى حكومته المحتملة، وشوهد الرجلان بعد أيام من إقالة ليندنر يتهامسان بتفاهم ظاهر داخل «البوندستاغ».

ولكن عودة ليندنر للحكومة ستتطلب منه بدايةً تخطي عقبتين: الأولى أن يبقى على رأس حزبه لقيادته للانتخابات. والثانية أن ينجح بإقناع الناخبين بمنح الحزب أصواتاً كافية لتخطي عتبة الـ5 في المائة الضرورية لدخول البرلمان.