هو أصغر رئيس في القارة الأفريقية.. وصل إلى الحكم قبل ثلاث سنوات، وينوي تقليص مأموريته الرئاسية من سبع إلى خمس سنوات. اتخذ قرارات قوية منذ وصوله إلى السلطة، وخاصة في محاربة الفساد والانفتاح على العالم العربي والإسلامي، كما ينوي إرسال قوات إلى السعودية للمشاركة ضمن التحالف العربي الإسلامي ضد الحوثيين في اليمن.. ويقدم في الوقت نفسه نظرة اقتصادية جديدة لتطوير السنغال. يواجه الرئيس الشاب تحديات كبيرة، في مقدمتها المشهد السياسي الداخلي وصراعه مع الرئيس السابق عبد الله واد، بالإضافة إلى التحدي الأمني في منطقة الساحل والمتمردين في جنوب البلاد. وهو خريج الجامعات السنغالية والفرنسية، يملك شهادات عليا في الجيولوجيا، وسبق أن شغل منصب الوزير الأول ورئيس البرلمان.
من فوق تلة دكار يطل بيت أبيض بملامح أفريقية، يقف أمامه حارسان بزي تقليدي مزركش بألوان حمراء وسوداء، يحملان سيوفًا تقليدية، ويرتديان قبعات طويلة على هيئة محاربي الغابات الأفريقية، داخل القصر يجلس الرئيس السنغالي مكي صال وهو يحتسي قهوته الصباحية من شرفة تطل على المحيط الأطلسي، عندما يلقي نظرة عن يمينه يجد جزيرة غوري التي تشهد على تاريخ مرير من العبودية، وبنظرة إلى اليسار يقع بصره على مدينة دكار التي تمثل مستقبل السنغال المشرق. يدرك مكي صال أهمية موقعه الجغرافي وهو الخبير الجيولوجي الذي تخرج في الجامعات السنغالية والفرنسية، يراقب الشمس وهي تشرق على مدينة دكار لتكشف له حجم التحديات التي عليه أن يواجه وهو الرئيس الأصغر سنًا في قارة من بين رؤسائها من تولوا الحكم وهو لا يزال طالبًا في الجامعة.
ولد مكي صال في شهر ديسمبر (كانون الأول) من عام 1961، في عائلة تقطن منطقة فاتيك وسط السنغال، تعود في أصولها إلى قبائل التكرور التي أسست لقرون مملكة عظيمة امتدت من المحيط الأطلسي وحتى تخوم إقليم دارفور في السودان. تربى مكي صال في حضن أسرة ريفية مكافحة، لديه أربعة إخوة، وكان والده يعمل موظفًا للدولة، تلقى تعليمه الابتدائي والثانوي في مسقط رأسه، قبل أن يلتحق بجامعة دكار، حيث تخرج بشهادة مهندس في الجيولوجيا، قبل أن يستفيد من تكوين في الجيولوجيا والجيوفيزياء في معهد علوم الأرض بدكار، ثم في المدرسة العليا للنفط والمحركات التابعة للمعهد الفرنسي للنفط بباريس.
كانت طموحات المهندس الشاب كبيرة فقرر بعد تخرجه الهجرة للبحث عن آفاق جديدة، فحملته أحلامه إلى تكساس بالولايات المتحدة، عمل هناك لسنوات في مجال النفط والطاقة، ولكن ميوله السياسية غلبت على تخصصه المهني فعاد إلى أرض الوطن وهو يحمل أحلامًا أخرى. بعد عودته ألقى المهندس الشاب نظرة المتخصص على الأرضية السياسية، فوقع اختياره على الحزب الديمقراطي السنغالي الذي يقوده السياسي المخضرم والمحامي عبد الله واد، لتبدأ بذلك مرحلة جديدة من مسيرته السياسية. تدرج مكي صال في الحزب وبدأ يقترب شيئًا فشيئًا من الدائرة الضيقة لرئيسه عبد الله واد، حيث أصبح رئيسًا لأطر الحزب قبل أن يبدي نشاطًا وكفاءة كبيرين في الحملة الدعائية للانتخابات الرئاسية عام 2000، وهي الانتخابات التي حملت الرئيس عبد الله واد إلى الحكم بعد أكثر من ثلاثة عقود من النضال في صفوف المعارضة.
مباشرة بعد فوز عبد الله واد عيّن مكي صال مديرًا عامًا لشركة النفط في السنغال، وهو منصب لم يكن غريبًا على الرجل المختص في الجيولوجيا والذي سبق أن شغل منصب رئيس قسم بنك المعلومات في الشركة لعدة سنوات؛ ولكن عبد الله واد لم يفرط في مكي صال، بل فضل له أن يكون قريبًا منه عبر تعيينه مستشارًا برئاسة الجمهورية مكلفًا ملف الطاقة والمعادن.
لفت مي صال نظر الرئيس عبد الله واد بخبرته في ميدان تخصصه، بالإضافة إلى قدراته كسياسي محنك، فأدخله حكومته الثانية عام 2001 حين منحه حقيبة المعادن والطاقة والمحروقات، وبعد عامين عينه وزيرًا للداخلية والمجموعات المحلية وناطقًا رسميًا باسم الحكومة. حصل مكي صال على الثقة الكاملة للرئيس واد عام 2004 حين اختاره لرئاسة الوزراء وكلفه تعيين الحكومة، وهو المنصب الذي شغله لثلاث سنوات، يشير أنصاره إلى أن مشاريع عبد الله واد الكبيرة أطلقت خلال قيادة مكي صال للحكومة (2004 - 2007)، ويضربون المثال بمشاريع الطرق السريعة والجسور والأنفاق التي شيدت داخل مدينة دكار لحل أزمة الاختناقات المرورية، بالإضافة إلى كورنيش دكار ومطار دكار الجديد.
انتهت المأمورية الأولى للرئيس عبد الله واد عام 2007، كان خلالها مكي صال هو الرجل الثاني في الحزب الحاكم والدولة، فتولى إدارة الحملة الدعائية من أجل إعادة انتخاب الرئيس، نجح صال في المهمة وخرج واد منتصرًا في الشوط الأول من الانتخابات، غير أن الأيام كانت تخفي عن الرجلين مرحلة صعبة من العلاقة بين الأستاذ والتلميذ. بعد إعادة انتخابه لم يجدد عبد الله واد الثقة في صال على رأس الحكومة، قرار برره آنذاك بأنه يحتاج إليه في مهام وأماكن أخرى؛ لينتخب صال رئيسًا للبرلمان، ومن هناك اتخذ قرارات صعبة كانت مؤثرة في علاقاته مع عائلة واد، وخصوصا نجل الرئيس كريم واد.
بدأت المواجهة بين الرئيس عبد الله واد ورئيس البرلمان مكي صال عندما أصرّ الأخير على استدعاء نجل الرئيس أمام النواب لاستجوابه حول تسيير المشاريع التي نفذتها الوكالة الوطنية لتنظيم المؤتمر الإسلامي الذي احتضنته العاصمة السنغالية دكار عام 2008. وقف الرئيس بقوة أمام استجواب نجله، ولكنه اصطدم بإصرار مكي صال على موقفه، ليتعرض لحملة من الضغوطات بدأت بفقدانه لمنصب الرجل الثاني في الحزب الديمقراطي السنغالي الحاكم، وانتهت بتقليص مأموريته كرئيس للبرلمان من خمس سنوات إلى سنة واحدة، قبل أن توجه له تهمٌ بتبييض الأموال وهي التهمة التي سقطت عنه بعد ذلك.
لم يلتفت مكي صال وراءه عام 2008 وهو يعلن الانسحاب من الحزب الحاكم ويؤكد تخليه عن جميع المناصب التي كان يشغلها بصفته الحزبية، وبدأ مرحلة جديدة لحفر اسمه كواحد من رموز المعارضة في بلد تحظى فيه التقاليد الديمقراطية باحترام كبير، فمن النادر أن يتنكر السنغاليون لمن يفقدون مناصبهم بسبب خلاف مع من هم في الأعلى، فهؤلاء يحتضنهم المجتمع ويحظون بتعاطف كبير وينظر إليهم على أنهم شجعان في زمن الخنوع.
بعد انسحابه من الحزب الحاكم أسس مكي صال رفقة عشرات السياسيين الغاضبين من حكم واد، حزب «التحالف من أجل الجمهورية»، حقق الحزب الجديد نتائج جيدة نسبيًا في الانتخابات المحلية عام 2009، وأصبح مكي صال عمدة لبلدية فاتيك التي ينحدر منها، وهو المنصب الذي سيتخلى عنه عام 2012 لتعارضه مع مهام رئيس الجمهورية.
استطاع مكي صال خلال السنوات الأولى بعد تأسيس حزبه أن يخلق لنفسه خطًا نضاليًا جديدًا يعتمد على قوة الخطاب والحضور والكاريزما، ما جعل السنغاليين يطلقون عليه لقب «مكي الحاد»، فيما يشهد له خصومه السياسيون بالنزاهة والكفاءة؛ كما حاول مكي صال تجسيد التنوع الثقافي للسنغال من خلال حديثه في مهرجاناته بأكثر من ثلاث لهجات محلية، بالإضافة إلى الفرنسية والإنجليزية، فمثل بذلك وجه الحداثة في السنغال مع التمسك بالهوية الثقافية لبلد يعتز مواطنوه بجذورهم الأفريقية.
دخلت السنغال في أتون صراع سياسي حاد قبيل الانتخابات الرئاسية عام 2012، صراع كاد يعصف بواحدة من أعرق الديمقراطيات الأفريقية، حيث أصرّ عبد الله واد على تعديل الدستور من أجل البقاء في السلطة، وهو أمر رفضته الطبقة السياسية والحركات الشبابية، لتتبلور حالة من الإجماع على ضرورة إنهاء حكم عبد الله واد، فكان مكي صال حاضرًا ليقدم نفسه كبديل مناسب تحترمه النخبة السياسية ويجسد أمل الشباب في مستقبل أفضل.
حقق مكي صال المستحيل في الشوط الثاني من الانتخابات، وقطف ثمرة سنوات من العمل في صمت، سنوات نادرًا ما يتحدث عنها الرجل الذي بذل خلالها جهدًا خرافيًا لاستقطاب أكبر قدر من الناخبين، في واحد من مؤتمراته الصحافية قال مكي صال عن نفسه: «أنا رجل سياسي واقعي مؤمن بالعمل، ولا إيمان لديّ بتوريث النجاح.. أنا جيولوجي ومحظوظ دائمًا لأنني أعرف قيمة أن أضع قدمي على الأرض وأن أنظر لما يجري على أرض الواقع، وعندما فهمت ذلك بدأت رحلة البحث عن الشعب السنغالي للالتقاء به، وقمت بما لم يسبق أن قام به أي سياسي سنغالي منذ عهد سينغور في إطار البحث عن اللقاء المباشر مع السنغاليين، قطعت أكثر من 80 ألف كلم في ثلاث سنوات، لقد زرت أكثر من 4 آلاف قرية حتى تلك الأكثر بعدًا وانقطاعًا عن العالم، إذا أنا لست هنا بالصدفة».
لا يؤمن مكي صال بالصدفة لذا فقد وضع منذ وصوله إلى الحكم طريقة خاصة في إدارة البلاد، حيث قرر إلغاء أكثر من خمسين وزارة وإدارة ووكالة ذات طابع عمومي لأنها «تثقل كاهل الدولة من دون جدوى»؛ ولكن الحرب على الفساد شكلت حجر الزاوية في سياسات الرجل، فقد أسس محكمة خاصة بمتابعة ملفات الفساد التي تورط فيها عدد من رموز النظام السابق، هي التي حكمت بالسجن والغرامة على نجل الرئيس السابق كريم واد.
يقول الكاتب الصحافي السنغالي فييه سافاني، إن مكي صال «وضع برامج وخططا مهمة في مجال الأمن الغذائي وتشغيل الشباب، ولكن الأهم بالنسبة لي هو محاربته للفساد، حيث بدأ يؤسس لثقافة جديدة تحارب الإحساس بالبعد عن العقاب، وأعتقد أن ملاحقة المتورطين في ملفات الفساد من رموز النظام السابق التي تجري الآن هي مهمة جدًا ليفهم السنغاليون أنه لا يمكنهم الثراء عبر الاستحواذ على ممتلكات الدولة». يواجه مكي صال تحديات كبيرة من أبرزها الوضع الاقتصادي وتشغيل الشباب، ولكنه يراهن على سياسات الانفتاح التي اعتمدها من خلال تشجيع الاستثمار، ويقول صال في هذا السياق: «نحن اليوم مجتمع منفتح جدًا يحاول تحسين مناخ الأعمال وإرساء الديمقراطية ودولة القانون وهو يتمتع بالاستقرار والحمد لله، وهو ما يؤهلنا لاستقبال الاستثمارات»، ولكنه بشكل خاص يراهن على الاستثمارات القادمة من دول الخليج العربي التي يصفها بـ«الحليف الاستراتيجي» لبلاده.
وعود كثيرة أعطاها مكي صال للسنغاليين، وملفات شائكة وعد بتسويتها، ولكن صخرة الواقع صلبة رغم خبرة الرجل الجيولوجية، ولعل أشهر وعوده تقليص المأمورية الرئاسية من سبع سنوات إلى خمس، وهو وعد أكد في أكثر من مناسبة أنه سيوفيه كما فعل مع وعده باستعادة ممتلكات الدولة التي تم الاستحواذ عليها بطرق غير مشروعة. الميزة التي يحفظها السنغاليون لرئيسهم الشاب هي الحزم في القرارات التي تتعلق بمواقف السنغال من الملفات الدولية، ظهر ذلك في تعامله مع الأزمة في دولة مالي المجاورة لبلاده حين كان أول من أرسل جنودًا لحفظ السلام في شمال مالي، كما عاد حزمه ليظهر حين قرر مؤخرًا إرسال 2100 جندي سنغالي إلى الأراضي السعودية من أجل المشاركة في العملية العسكرية ضد الحوثيين في اليمن. ما بين الملفات الدولية وقضايا الشأن الداخلي، يحاول صال أن يقدم رؤية إقليمية جديدة على بلدان غرب أفريقيا، حيث يسعى لخلق استراتيجية اقتصادية مبنية على التعاون الاقتصادي مع القوى الاقتصادية الكبرى بدل الاكتفاء بالمساعدات والديون، فطالما أكد الرئيس الشاب: «ما تحتاج إليه أفريقيا شركاء اقتصاديون أقوياء وليس مساعدات مالية وإنسانية».