لم يكن شادي الهبر بحاجة لأكثر من بيت قديم استأجره في منطقة «فرن الشباك» عام 2016. مع إعادة تأهيله، كي يتمكن من إطلاق مشروعه المسرحي الطموح، الذي تزامن مع أصعب أيام لبنان وأقساها على الإطلاق.
تعاون مع زميلته مايا سبعلي ليؤسسا معاً ورشاً مسرحية، على مدار الأسبوع، تعمل على تدريب وتخرّيج دفعات من الممثلين والمخرجين، يشاركون فيما بعد، في تقديم مسرحيات بشكل متواصل. هكذا أصبح «مسرح شغل بيت»، حاضراً في الحياة الفنية اللبنانية، دون انقطاع. «لم نتوقف عن التدريب وتقديم الأعمال، حتى أيام الحجر»، يقول لنا شادي الهبر. ويضيف في حديثه لـ«الشرق الأوسط»: «فكرت بطريقة مختلفة. هناك كثر يحبون المسرح والتمثيل، لكن لأسباب كثيرة، منها عدم تشجيع العائلة والمجتمع، ذهبوا إلى مهنٍ أخرى، لكنهم لم ينسوا شغفهم. حين يأتون إلى الورشة، بعد نهارهم الطويل يجدون معنا اللحظات التي يلتقطون بها الأنفاس، ويمارسون خلالها عشقهم». البعض لا ينتهي إلى احتراف التمثيل، ويكتفي بأن يجد فيه فسحة للتعبير، والإفراج عن مكنوناته، أو تطوير بعض المهارات.
مشهد من مسرحية نرسيس (تصوير كريس غفري)
لكن مجموعات أخرى تنخرط في المهنة. ويساعد «مسرح شغل بيت» المتدربين في امتهان التمثيل، وربما تعلم الموسيقى والإضاءة، والماكياج، وغيرها من المهارات، ليشكلوا فريقاً متكاملاً، يقدم مسرحياته بالاعتماد على نفسه. «أدفع لمن أجد عنده الكفاءة، لينخرط في ورش تقنية متعددة. هؤلاء يعودون لينضموا إلينا، ويسهموا معنا في أعمالنا المسرحية. مسرحيتنا الأخيرة التي قدمناها (فولار) على (مسرح المدينة) من تمثيل سوسن شوربا. اعتمدنا فيها كلياً على كفاءاتنا، كان مع الممثلة على المسرح، مؤدون ومساعدون، نحو ثمانية أشخاص من الفرقة، وعدد مماثل يعمل على التقنيات. وبذلك حققنا ما يشبه الاكتفاء الذاتي».
مسرحيات عديدة قدمها «مسرح شغل بيت» بينها «ألفت» التي تتعلق بحضانة الأطفال من قبل الأم، و«درج» عن ضياع الحب في زمن الفوضى، و«أفيون» عن حال الإنسان وعلاقته بالعمل. «لا يعنيني أن أشتم رجال السياسة، أو أن أنتقدهم. هذا ليس همي في الوقت الحالي وقد أغير رأيي، فيما بعد. كل السياسة لا تعنيني. أنا قضيتي الإنسان، وهي محور الأعمال التي نقدمها».
درّب «مسرح شغل بيت» منذ إنشائه قبل 6 سنوات، أكثر من 18 مجموعة، وأصبحت له فرقة دائمة مكونة من عشرين فناناً. «قدمنا لغاية اليوم ما يقارب من 28 مسرحية، بين مسرحيات طلاب، وأعمال احترافية، وتحولنا إلى هيئة متكاملة. نحن نقدم بمعدل مسرحية كل شهر، دون انقطاع».
«مسرح شغل بيت» مفتوح على مدار النهار. يدرب هذه الأيام خمس مجموعات. يقول الهبر: «عندنا مستويان. المستوى الأول ينضم إليه المبتدئون، وحالياً لدينا ثلاث مجموعات، تضم كل منها ما يقارب 15 شخصاً. وإذا ما نجح المتدرب في هذا المستوى، ويخضع ذلك للجنة من المحترفين تحكم على عمله المسرحي الذي يقدمه، بمقدوره أن ينتقل إلى المستوى الثاني. وهنا يخضع المتدرب لنوع آخر من التعليم، يتضمن النصوص، والمدارس المسرحية، وتقنيات أكثر عمقاً. وفي هذا المستوى ندرب حالياً مجموعتين».
مشهد من مسرحية جثة متنقلة (تصوير كريس غفري)
إذا كانت مشكلة المسارح في لبنان، دائماً مادية، مع توفر المواهب، فإن العقبة حلّت هذه المرة، لأن الملتحقين بالورشات يدفعون 500 ألف ليرة لبنانية شهرياً (الدولار نحو 24 ألف ليرة) مقابل تدريبهم. مبلغ صغير نسبياً، لكنه يكفي لتأمين إيجار المكان وتسديد فاتورة الكهرباء وباقي المستلزمات. «حين يكبر العدد، وهذا ما حصل معنا، فإن المبلغ الذي نجمعه يصبح كافياً. ثم إننا من خلال أسعار البطاقات حتى لو كانت منخفضة يمكننا أن نسدد مبلغاً رمزياً للممثلين والفنيين. لا يمكن أن نخرج من مسرحية دون مردود ولو صغيراً، نوزعه على المشاركين معنا».
تمكن شادي الهبر بهذه الحلقة التي شكلها من متدربين، وممثلين، ومسرحيات تبيع تذاكر لجمهور يتنامى بعد الحجر والأزمة الاقتصادية، من أن يؤمن تمويلاً ذاتياً لفرقة مستقلة، وأعمال يصفها بأنها «تملك زمام أمورها».
تدرّب الهبر مع المسرحي الكبير منير أبو دبس لسبع سنوات، أما زميلته مايا فواكبته عشرين عاماً في محترفه في بلدة «الفريكة». منذ البدء عرف الهبر أنه يحب المسرح، ولا يمكنه أن يذهب إلى مهنة أخرى، لكنه في الوقت نفسه لم يرد أن يكون مرتهناً لأحد «لأنني أعرف البئر وغطائه في المجال الفني. مع احترامي للجميع، هذه الاستقلالية تمنحني الحرية والإحساس بالراحة».
لكن كانت شكوى دائمة، من تقاعس الجمهور عن الحضور، ومن صعوبة دفع ثمن البطاقات في وقت الأزمات. يجيب الهبر: «ثمة معادلة بسيطة، كلما ازداد عدد الممثلين، كبر عدد من يأتون لمشاهدتهم. ثم إن ثمن البطاقات، مقبول، ينخفض أحياناً إلى 150 ألف ليرة. كما أننا نبيع بطاقة الطلاب بخمسين ألفاً فقط، مما يتيح للشباب الحضور. لم يكن الفن يوماً مكاناً لجمع المال، لكن الاكتفاء ممكن».
يؤكد لنا المخرج شادي الهبر، أن العمل كثير، والطلب يتزايد على المسرح. «هناك من يريدنا أن ندرب في مدارس، أو أن نقدم مسرحية في مخيم، أو أن نقيم عملاً توعوياً. وهذا كله نقوم به في كل لبنان، وفي مناطق مختلفة، إضافة إلى المسرحيات التي نقدمها في بيروت».
حفل جمع عائلة مسرح شغل بيت (تصوير كريس غفري)
لمؤسس «مسرح شغل بيت» مشاريع كثيرة لم تنفذ بعد. الوقت لا يتسع «من بين ما أفكر به. هو التواصل مع المدارس، لا للتدريب على التمثيل، وإنما للتعريف بالمسرح وأهمية ارتياده، وآداب التعاطي في صالة المسرح». ثمة إمكانية كبيرة «لخلق توازن بين البيزنس والفن. هذا ضروري لإنشاء مسرح حرّ يعتمد على قدراته الذاتية، ولا تملى عليه أجندات لا يريدها. فأي خلل بين الاثنين، يكون ضحيته العمل الفني نفسه، وقوته ومتانته».
من الآن إلى يوليو (تموز) سيقدم «مسرح شغل بيت» ثلاث مسرحيات. في 7 مايو (أيار) ستقدم الدفعة 16 من المتدربين مسرحيتها «رحم» حول إمكانية الولادة الجديدة للإنسان. ومسرحية ثانية محترفة هذه المرة، في 10 يونيو (حزيران) كتبها ديمتري ملكي وإخراج شادي الهبر، تمثيل ديما الحلبي وجميل الحلو هي «دفاتر لميا»، تحكي قصة لميا التي تخدم في بيت وبعد وفاتها، يذهب ابن اخيها، ينبش في أغراضها وكأنه يعاود اللقاء بعمته، وكأنها تخبره قصتها. يقول الهبر «هي قصة عمتي التي بدأت تخدم في بيت منذ كان عمرها 12 سنة إلى أن ماتت بالسرطان. المسرحية تسلط الضوء على معاناة النساء اللواتي يحرمن من التعليم، ويزج بهن صغيرات السن في الخدمة المنزلية».