فيكتور باسيلا في «ساحة ساسين»... محطة فرح يومية ينتظرها المارة

فيكتور باسيلا في «ساحة ساسين»... محطة فرح يومية ينتظرها المارة
TT

فيكتور باسيلا في «ساحة ساسين»... محطة فرح يومية ينتظرها المارة

فيكتور باسيلا في «ساحة ساسين»... محطة فرح يومية ينتظرها المارة

ورث آلة الأكورديون عن والده، الذي عزف عليها طيلة 35 عاماً في المحلات والطرقات. ففيكتور باسيلا الذي يجلس يومياً وسط ساحة ساسين، يعزف للمارة منذ السابعة صباحاً حتى الواحدة ظهراً، أصبح بمثابة محطة فرح يومية. فالناس الذين يمرون بهذا الموقع، لا بد أن يجذبهم عزف فيكتور على قارعة الطريق، وتستوقفهم أنغام أغانٍ كلاسيكية شهيرة كـ«لافي أُن روز»، و«بادام»، و«نحنا والقمر جيران»، و«كان عنا طاحون» وغيرها.
يضع فيكتور أمامه قبعة سوداء، يرمي فيها المارة له قطع النقود كلٌّ حسب قدرته.
مشهد اعتدنا رؤيته في بلدان الغرب، فهناك عازفون على آلات موسيقية مختلفة يفترشون أرض الساحات، ومحطات المترو. ولكن في لبنان قلة قليلة من الموسيقيين يعتمدون هذه الآلية مهنة يرتزقون منها. فيكتور قرر أن يستغل موهبته الموسيقية، محاولاً بذلك تجاوز الأيام الصعبة، التي يمر بها كغيره من اللبنانيين.
«أعزف على هذه الآلة منذ 50 عاماً، تنقلت في مختلف مناطق بيروت كالحمرا، والمزرعة، وأسواق بيروت وغيرها. حالياً أصبحت ساحة ساسين محطة دائمة لي، أجلس هنا على هذا الكرسي الصغير، أعزف لنحو 8 ساعات متتالية. آخذ استراحة قصيرة وأرتشف فنجان قهوة وأدخن سيجارة. فالعزف على آلة الأكورديون هو شغفي وسعادتي. لذلك ترينني آتي كل يوم من منزلي في عوكر، وأقطع هذه المسافة التي تكلفني نحو 120 ألف ليرة يومياً ثمن وقود، لأنني أحب هذه المنطقة وأهلها».
تتحدث مع فيكتور الفخور بنفسه لأنه فنان أصيل حسب قوله، وأثناءها يقاطعك أحد المارة الذي يرمي في قبعته المثبتة أمامه، مبلغاً من المال. وبالتالي يرد له فيكتور التحية عزفاً مع كلمة «شكراً». فمن خلال العزف يؤمّن فيكتور رزقه، الذي يتفاوت حجمه بين يوم وآخر.
«أجمع أحياناً نحو مليون ليرة في اليوم ومرات نصف هذا المبلغ، وهناك أيام أخرى لا أجمع فيها سوى حفنة قليلة من المال لا تتعدى الـ100 ألف ليرة. ما أحبه في هذه المهنة هو تواصلي مع الناس، من خلال العزف. فهم يقفون ويصغون ويستمعون مستمتعين بأنغام الأكورديون. بعضهم يطلب مني نغمة معينة لأنها تشعره بالحنين أو الفرح، وبينهم من يعتبر الموسيقى بحد ذاتها فأل خير، يبدأ به يومه الطويل في العمل».
لا يعزف فيكتور على السمع فقط، فهو يؤكد أنه تعلم الموسيقى على أيادي أساتذة معروفين. «من دون النوتة والسلم الموسيقي، قد يقترف العازف أخطاء عدة. أما أنا فأعزف بتأنٍّ وعلى الأصول».
يشارك فيكتور في إحياء حفلات بموسم الصيف، في منطقة البترون، ومرات يتجه نحو بعض الجبال القريبة بناء على طلب من زبون. «في الماضي كنت أعزف في أسواق بيروت بعد أن دعتني شركة «سوليدير» للعزف يومياً، وسط العاصمة. كانت أياماً جميلة فيها العز والبركة لبيروت. كنت ووالدي نتقاضى أجراً شهرياً من الشركة، إذ كنا نؤمن دواماً يومياً، في أسواق بيروت ومحيطها. كما دعتني مرة لجنة التجار في أسواق شارع مار الياس بمنطقة المزرعة، فكنت أعزف على آلتي، وأجذب جمهوراً كبيراً إلى المحلات التجارية هناك».
يصنف فيكتور الناس بالأجناس، بينهم من يحب الموسيقى فتجذبه من بعيد، وبعضهم من لا تعني لهم شيئاً، لا بل يهربون من صوتها. «هناك من ينتقل إلى الرصيف الموازي عندما يسمع موسيقاي، فأشعر كأنه يهرب. ربما لديه أسبابه الخاصة، فلا يمكنني أن أحكم عليه من تصرف كهذا. والبعض الآخر تحاكيه موسيقى آلة الأكورديون، فيقف جانباً يصغي إليها بإحساس كبير».
يُستعان بفيكتور أحياناً كثيرة للاحتفال بمناسبة خاصة رومانسية، أو أعياد ميلاد، أو دعوة إلى العشاء يقول: «أذكر قصصاً كثيرة حصلت معي. بينها قصة امرأة أجرت عملية جراحية، فدعتني ابنتها لأعزف لها في المستشفى، لأن والدتها كانت حزينة وتشعر بالإحباط. وما إن سمعت نغمة الأكورديون حتى ابتسمت. هذه المرأة عادت وزارتني هنا، وشكرتني على عزفي لها وهي في أحرج الأوقات. واعتبرت أنها بفضل موسيقاي تجاوزت الخطر وعادت إلى أولادها معافاة».



رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
TT

رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»

إنه «فضلو» في «بياع الخواتم»، و«أبو الأناشيد الوطنية» في مشواره الفني، وأحد عباقرة لبنان الموسيقيين، الذي رحل أول من أمس (الأربعاء) عن عمر ناهز 84 عاماً.
فبعد تعرضه لأزمة صحية نقل على إثرها إلى المستشفى، ودّع الموسيقي إيلي شويري الحياة. وفي حديث لـ«الشرق الأوسط» أكدت ابنته كارول أنها تفاجأت بانتشار الخبر عبر وسائل التواصل الاجتماعي قبل أن تعلم به عائلته. وتتابع: «كنت في المستشفى معه عندما وافاه الأجل. وتوجهت إلى منزلي في ساعة متأخرة لأبدأ بالتدابير اللازمة ومراسم وداعه. وكان الخبر قد ذاع قبل أن أصدر بياناً رسمياً أعلن فيه وفاته».
آخر تكريم رسمي حظي به شويري كان في عام 2017، حين قلده رئيس الجمهورية يومها ميشال عون وسام الأرز الوطني. وكانت له كلمة بالمناسبة أكد فيها أن حياته وعطاءاته ومواهبه الفنية بأجمعها هي كرمى لهذا الوطن.
ولد إيلي شويري عام 1939 في بيروت، وبالتحديد في أحد أحياء منطقة الأشرفية. والده نقولا كان يحضنه وهو يدندن أغنية لمحمد عبد الوهاب. ووالدته تلبسه ثياب المدرسة على صوت الفونوغراف الذي تنساب منه أغاني أم كلثوم مع بزوغ الفجر. أما أقرباؤه وأبناء الجيران والحي الذي يعيش فيه، فكانوا من متذوقي الفن الأصيل، ولذلك اكتمل المشوار، حتى قبل أن تطأ خطواته أول طريق الفن.
- عاشق لبنان
غرق إيلي شويري منذ نعومة أظافره في حبه لوطنه وترجم عشقه لأرضه بأناشيد وطنية نثرها على جبين لبنان، ونبتت في نفوس مواطنيه الذين رددوها في كل زمان ومكان، فصارت لسان حالهم في أيام الحرب والسلم. «بكتب اسمك يا بلادي»، و«صف العسكر» و«تعلا وتتعمر يا دار» و«يا أهل الأرض»... جميعها أغنيات شكلت علامة فارقة في مسيرة شويري الفنية، فميزته عن سواه من أبناء جيله، وذاع صيته في لبنان والعالم العربي وصار مرجعاً معتمداً في قاموس الأغاني الوطنية. اختاره ملك المغرب وأمير قطر ورئيس جمهورية تونس وغيرهم من مختلف أقطار العالم العربي ليضع لهم أجمل معاني الوطن في قالب ملحن لا مثيل له. فإيلي شويري الذي عُرف بـ«أبي الأناشيد الوطنية» كان الفن بالنسبة إليه منذ صغره هَوَساً يعيشه وإحساساً يتلمسه في شكل غير مباشر.
عمل شويري مع الرحابنة لفترة من الزمن حصد منها صداقة وطيدة مع الراحل منصور الرحباني. فكان يسميه «أستاذي» ويستشيره في أي عمل يرغب في القيام به كي يدله على الصح من الخطأ.
حبه للوطن استحوذ على مجمل كتاباته الشعرية حتى لو تناول فيها العشق، «حتى لو رغبت في الكتابة عن أعز الناس عندي، أنطلق من وطني لبنان»، هكذا كان يقول. وإلى هذا الحد كان إيلي شويري عاشقاً للبنان، وهو الذي اعتبر حسه الوطني «قدري وجبلة التراب التي امتزج بها دمي منذ ولادتي».
تعاون مع إيلي شويري أهم نجوم الفن في لبنان، بدءاً بفيروز وسميرة توفيق والراحلين وديع الصافي وصباح، وصولاً إلى ماجدة الرومي. فكان يعدّها من الفنانين اللبنانيين القلائل الملتزمين بالفن الحقيقي. فكتب ولحن لها 9 أغنيات، من بينها «مين إلنا غيرك» و«قوم تحدى» و«كل يغني على ليلاه» و«سقط القناع» و«أنت وأنا» وغيرها. كما غنى له كل من نجوى كرم وراغب علامة وداليدا رحمة.
مشواره مع الأخوين الرحباني بدأ في عام 1962 في مهرجانات بعلبك. وكانت أول أدواره معهم صامتة بحيث يجلس على الدرج ولا ينطق إلا بكلمة واحدة. بعدها انتسب إلى كورس «إذاعة الشرق الأدنى» و«الإذاعة اللبنانية» وتعرّف إلى إلياس الرحباني الذي كان يعمل في الإذاعة، فعرّفه على أخوَيه عاصي ومنصور.

مع أفراد عائلته عند تقلده وسام الأرز الوطني عام 2017

ويروي عن هذه المرحلة: «الدخول على عاصي ومنصور الرحباني يختلف عن كلّ الاختبارات التي يمكن أن تعيشها في حياتك. أذكر أن منصور جلس خلف البيانو وسألني ماذا تحفظ. فغنيت موالاً بيزنطياً. قال لي عاصي حينها؛ من اليوم ممنوع عليك الخروج من هنا. وهكذا كان».
أسندا إليه دور «فضلو» في مسرحية «بياع الخواتم» عام 1964. وفي الشريط السينمائي الذي وقّعه يوسف شاهين في العام التالي. وكرّت السبحة، فعمل في كلّ المسرحيات التي وقعها الرحابنة، من «دواليب الهوا» إلى «أيام فخر الدين»، و«هالة والملك»، و«الشخص»، وصولاً إلى «ميس الريم».
أغنية «بكتب اسمك يا بلادي» التي ألفها ولحنها تعد أنشودة الأناشيد الوطنية. ويقول شويري إنه كتب هذه الأغنية عندما كان في رحلة سفر مع الراحل نصري شمس الدين. «كانت الساعة تقارب الخامسة والنصف بعد الظهر فلفتني منظر الشمس التي بقيت ساطعة في عز وقت الغروب. وعرفت أن الشمس لا تغيب في السماء ولكننا نعتقد ذلك نحن الذين نراها على الأرض. فولدت كلمات الأغنية (بكتب اسمك يا بلادي عالشمس الما بتغيب)».
- مع جوزيف عازار
غنى «بكتب اسمك يا بلادي» المطرب المخضرم جوزيف عازار. ويخبر «الشرق الأوسط» عنها: «ولدت هذه الأغنية في عام 1974 وعند انتهائنا من تسجيلها توجهت وإيلي إلى وزارة الدفاع، وسلمناها كأمانة لمكتب التوجيه والتعاون»، وتابع: «وفوراً اتصلوا بنا من قناة 11 في تلفزيون لبنان، وتولى هذا الاتصال الراحل رياض شرارة، وسلمناه شريط الأغنية فحضروا لها كليباً مصوراً عن الجيش ومعداته، وعرضت في مناسبة عيد الاستقلال من العام نفسه».
يؤكد عازار أنه لا يستطيع اختصار سيرة حياة إيلي شويري ومشواره الفني معه بكلمات قليلة. ويتابع لـ«الشرق الأوسط»: «لقد خسر لبنان برحيله مبدعاً من بلادي كان رفيق درب وعمر بالنسبة لي. أتذكره بشوشاً وطريفاً ومحباً للناس وشفافاً، صادقاً إلى أبعد حدود. آخر مرة التقيته كان في حفل تكريم عبد الحليم كركلا في الجامعة العربية، بعدها انقطعنا عن الاتصال، إذ تدهورت صحته، وأجرى عملية قلب مفتوح. كما فقد نعمة البصر في إحدى عينيه من جراء ضربة تلقاها بالغلط من أحد أحفاده. فضعف نظره وتراجعت صحته، وما عاد يمارس عمله بالشكل الديناميكي المعروف به».
ويتذكر عازار الشهرة الواسعة التي حققتها أغنية «بكتب اسمك يا بلادي»: «كنت أقفل معها أي حفل أنظّمه في لبنان وخارجه. ذاع صيت هذه الأغنية، في بقاع الأرض، وترجمها البرازيليون إلى البرتغالية تحت عنوان (أومينا تيرا)، وأحتفظ بنصّها هذا عندي في المنزل».
- مع غسان صليبا
مع الفنان غسان صليبا أبدع شويري مرة جديدة على الساحة الفنية العربية. وكانت «يا أهل الأرض» واحدة من الأغاني الوطنية التي لا تزال تردد حتى الساعة. ويروي صليبا لـ«الشرق الأوسط»: «كان يعد هذه الأغنية لتصبح شارة لمسلسل فأصررت عليه أن آخذها. وهكذا صار، وحققت نجاحاً منقطع النظير. تعاونت معه في أكثر من عمل. من بينها (كل شيء تغير) و(من يوم ما حبيتك)». ويختم صليبا: «العمالقة كإيلي شويري يغادرونا فقط بالجسد. ولكن بصمتهم الفنية تبقى أبداً ودائماً. لقد كانت تجتمع عنده مواهب مختلفة كملحن وكاتب ومغنٍ وممثل. نادراً ما نشاهدها تحضر عند شخص واحد. مع رحيله خسر لبنان واحداً من عمالقة الفن ومبدعيه. إننا نخسرهم على التوالي، ولكننا واثقون من وجودهم بيننا بأعمالهم الفذة».
لكل أغنية كتبها ولحنها إيلي شويري قصة، إذ كان يستمد موضوعاتها من مواقف ومشاهد حقيقية يعيشها كما كان يردد. لاقت أعماله الانتقادية التي برزت في مسرحية «قاووش الأفراح» و«سهرة شرعية» وغيرهما نجاحاً كبيراً. وفي المقابل، كان يعدها من الأعمال التي ينفذها بقلق. «كنت أخاف أن تخدش الذوق العام بشكل أو بآخر. فكنت ألجأ إلى أستاذي ومعلمي منصور الرحباني كي يرشدني إلى الصح والخطأ فيها».
أما حلم شويري فكان تمنيه أن تحمل له السنوات الباقية من عمره الفرح. فهو كما كان يقول أمضى القسم الأول منها مليئة بالأحزان والدموع. «وبالقليل الذي تبقى لي من سنوات عمري أتمنى أن تحمل لي الابتسامة».