يكاد صناع القرار والإعلاميون والمثقفون في تونس يجمعون على تحسن هامش الحريات الإعلامية والمستوى المهني للإعلام منذ ثورة يناير (كانون الثاني) 2011، وهذا رغم تناقض تقييماتهم لحصيلة العقد الماضي اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً، إذ بينما يعتبر البعض السنوات العشر الأخيرة «عشرية الخراب»، ينوه آخرون بما تحقق فيها من «مكاسب وإنجازات... رغم بعض الإخفاقات».
في مطلق الأحوال، فإن المشهد الإعلامي اتجه منذ مدة سلباً في نظر غالبية من المراقبين والإعلاميين... بعدما استفحلت أزمة مؤسسات «الإعلام العمومي» و«المؤسسات الإعلامية المصادرة»، لأسباب مالية وسياسية. في حين انتقد نقيب الصحافيين المهدي الجلاصي ما وصفه بـ«تدهور ظروف العمل الصحافي» و«تراجع هامش الحريات منذ القرارات الاستثنائية التي صدرت عن الرئيس التونسي قبل 7 أشهر». الأمر الذي يطرح حسب رأي البعض تساؤلات حول ملامح المشهد الإعلامي اليوم ومساراته. وكذلك عن مستقبل لهذا القطاع الذي كان دائماً «حلبة الصراع الرئيسية» بين السلطات ومعارضيها وبين دعاة المهنية والاستقلالية وخصومهم.
مقر «وكالة تونس أفريقيا للأنباء»... وفي الإطار شعارها
في لغة الأرقام
لقد أوردت تقارير المنظمات الحقوقية والإعلامية في تونس أن عدد الصحافيين تضاعف مراراً بعد سقوط حكم الرئيس زين العابدين بن علي في يناير 2011. فارتفع من نحو 700 صحافي إلى أكثر من ألفين. وساهم في تحقيق هذا «التطور السريع» تأسيس عشرات الصحف والقنوات التلفزيونية والإذاعية، وأكثر من ألف موقع إلكتروني بفضل مبادرات من بعض الإعلاميين ورجال الأعمال حيناً... والأحزاب والسفارات والمؤسسات الغربية حينا آخر.
أيضاً، أمكن بسرعة الانتقال نحو «التعددية الإعلامية والسياسية»، ومواكبة قرارات رفع الحظر عن الأحزاب والتيارات السياسية و«اللوبيات» المالية التي وقع إقصاؤها قبل 2011. وفسّر محمد حمدان، عميد المعهد العالي للصحافة وعلوم الإخبار السابق في تونس، سرعة إنجاز هذا «الانتقال الديمقراطي داخل قطاع الإعلام» بكون 3500 طالب وطالبة تخرّجوا في المعهد منذ تأسيسه قبل 50 سنة، بينهم أكثر من مائتي صحافي عربي من خارج تونس أغلبهم من فلسطين. كذلك أوضح حمدان أن ثمة جامعات خاصة أسست منذ عشرين سنة، منها «الجامعة العربية للعلوم»، ساهمت بدورها في تخرج مئات الإعلاميين من صحافيين وتقنيين ومختصين في الاتصال وإنتاج المواقع الاجتماعية.
ومن جانبه، كشف أستاذ الإعلام هاني مبارك أن «معهد الصحافة العمومي» في تونس أسس عام 1967. وكان تابعاً لنواة الجامعة التونسية العصرية. وتطور منذ عام 1973 إلى مؤسسة مستقلة بذاته تابع لوزارة التربية، ثم لوزارة التعليم العالي والبحث العلمي منذ إحداثها عام 1978. وفي الوقت ذاته تخرّج في مؤسسات التعليم والتدريب الخاصة بالعاصمة تونس ومدن أخرى مئات المتخصصين في الإعلام الإلكتروني الحديث والمواقع الاجتماعية والتصوير والإخراج والبث. ولذلك تجاوز عدد المواقع الإخبارية الإلكترونية الألف، حسب الإعلامي والأكاديمي لطفي الحيدوري، بينما قفز عدد القنوات التلفزيونية والإذاعية والصحف بعد «ثورة 2011» من أقل من عشرة إلى بضع مئات أثر معظمها بصورة ملحوظة في المشهد السياسي والحزبي وفي نتائج انتخابات 2011 و2014 و2019.
تغيير في المشهد
إلا أن الوضع تغير تماماً اليوم. وقد كشف تقارير نقابة الصحافيين وهيئات فروع منظمات حقوقية دولية في تونس، ودراسات جامعية جديدة، عن أن المشهد الإعلامي تغير كثيراً بالذات بعد انتخابات 2019. وخاصة منذ قرارات 25 يوليو (تموز) الماضي التي وصفت بـ«الاستثنائية» وأدت إلى «تجميد» البرلمان والدستور وعدد من المؤسسات المنتخبة بينها المجلس الأعلى للقضاء والهيئة العليا لمكافحة الفساد.
وبالفعل، شهدت الأشهر السبعة الماضية إغلاق بعض القنوات الإذاعية والتلفزيونية والمواقع الإلكترونية والصحف، إما لأسباب مالية، أو على أثر قرارات وعقوبات مالية صدرت عن «الهيئة العليا للإعلام السمعي البصري»، التي أسند لها البرلمان منذ عشر سنوات صلاحيات مماثلة لصلاحيات وزارة الإعلام التي حُلّت في مطلع 2011.
أيضاً، تسببت الأخطاء المالية والعقوبات «المؤقتة»، التي فُرضت على بعض وسائل الإعلام، في توقفها عن إنتاج عدد كبير من البرامج التلفزيونية والإذاعية الإخبارية والتحقيقيات التي كانت تستقطِب غالبية الجمهور التونسي. ومن ثم، كانت الحصيلة «عودة الجمهور إلى متابعة بعض وسائل الإعلام الأجنبية»، على حد تعبير صلاح الدين الدريدي، أستاذ الإعلام في الجامعة التونسية وعدد من الجامعات العربية. ولقد انتقد الدريدي ما وصفه بـ«تدهور المستوى المهني» لغالبية الصحافيين الجدد رغم ملايين الدولارات واليوروهات التي أنفقتها مؤسسات تابعة للاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة وعواصم أجنبية في «برامج تدريب صوَرية وفّرت للفنادق السياحية الفخمة ولبعض اللوبيات أموالاً طائلة».
التوازن المفقود
وفي هذا السياق، توقف بعض الإعلاميين والأكاديميين، مثل صلاح الدين الدريدي، عند بعض مظاهر تدهور المستوى المهني للإعلام التونسي في المدة الماضية بسبب ما وصفوه بـ«اختلال التوازن بين الحقوق والواجبات» و«انتشار الخطاب الآيديولوجي» و«الخلط بين المهنية والنضال السياسي والحزبي»، ناهيك من تضخّم التحركات النقابية والاحتجاجات المطلبية دون مطالبة آلاف العاملين في القطاع من صحافيين وتقنيين وإداريين بالحضور يومياً إلى العمل وبالقيام بواجباتهم المهنية.
هذا، وقدّرت دراسات وتقارير نقابية عدد الموظفين في مؤسسات الإعلام التلفزيوني والإذاعي العمومية وحدها بنحو ألفين و600 نصفهم في القناة التلفزيونية العمومية والنصف الآخر يتوزعون على 9 نقابات وطنية وجهوية... تقلل مؤسسات استطلاعات الرأي من شعبيتها وإشعاعها، مقارنة ببعض القنوات والمواقع الإلكترونية الخاصة.
كذلك يُقدَّر عدد العاملين في وكالة الأنباء الرسمية الوحيدة، أي «وكالة تونس أفريقيا للأنباء»، بأكثر من 300 موظف وإعلامي وعامل رغم ضعف تأثيرها. ويناهز عدد العاملين في مؤسسات الصحافة المكتوبة «الحكومية» و«المصادرة»، مثل دار «لابريس» و«الصباح»، عدد نظرائهم في وكالة الأنباء. وتؤكد كل المصادر أن عُشر الموظفين في وسائل الإعلام العمومية وشبه العمومية فقط يعملون، بينما يتقاضى البقية أجوراً من الدولة «عن بعد» عبر «التحويلات البنكية» وليس لهم أي مشاركة في الإنتاج الصحافي. ولقد استفحلت هذه الظاهرة في العامين الماضين بصورة خاصة بعدما توافر «مبرّر التغيب عن مقر العمل بسبب جائحة «كوفيد - 19».
أجندات ودور وظيفي
على صعيد آخر، في الوقت الذي صعّدت نقابات الإعلام تحركاتها الاحتجاجية والمطلبية، اتهمت عواطف الدالي رئيسة «مؤسسة التلفزيون العمومية» قطاعاً من الإعلاميين بـ«التقصير ورفض العمل والكسل وتوظيف النقابات وابتزاز المسؤولين، من أجل توفير خطط التوظيف والمزايا المادية فقط».
وأوردت عواطف الدالي، وهي صحافية ومقدمة برامج تلفزيونية طبية واجتماعية سابقاً، أن «بعض المحسوبين على العمل النقابي يلعبون دوراً وظيفياً... ولا يؤمنون بالتوازن بين الحقوق والواجبات». واتّهمتهم بأنهم رفضوا إنتاج برامج وتقديمها ولم يرغبوا في العمل. ومن ثم أشارت إلى أن «وجود هدر للمال العام في قطاع الإعلام لأن بعض النقابيين والصحافيين لا يعملون ولا يبدعون... وبعضهم متهم بتخريب تجهيزات المؤسسة الإعلامية».
عدد من المثقفين والإعلاميين أقروا بالفعل، بصحة بعض الانتقادات الموجهة إلى الإعلاميين، غير أنهم ساندوا تصريحات رئيس نقابة الصحافيين ياسين الجلاصي التي انتقد فيها ما وصفه بـ«تدهور هامش الحريات الإعلامية»، وتغييب الحوارات الحوارية السياسية في التلفزيون الرسمي التونسي منذ 25 يوليو، ومنع كل ممثلي الأحزاب من المشاركة في البرامج التلفزيونية، و«بذلك وقع تغييب المعارضة نهائياً وحرمان الجمهور من الرأي والرأي الآخر».
الاستقلالية والتوظيف
في هذه الأثناء انخرط الرئيس التونسي قيس سعيّد مراراً في الجدل عبر تصريحات نشرت في الصفحة الرسمية لرئاسة الجمهورية، قال فيها إنه «لا تراجع عن الحريات في تونس» و«لا مجال للنيل من حرية الإعلام ومن حقوق الإنسان». ودحض سعيّد بقوة التقارير التي تشكك في استقلالية الإعلام في تونس بعد يوم 25 يوليو الماضي. وبطبيعة الحال، تباينت ردود الفعل على كلام سعيّد، إذ انتقدت أوساط إعلامية وسياسية عديدة أداء المكلفين بالإعلام والاتصال في رئاسة الجمهورية والمؤسسات الحكومية، واختزال تواصلها مع الرأي العام في تدوينات وفيديوهات تبث في الصفحة الرسمية لقصر قرطاج. الذي تشير تقارير إلى تضخم عدد متابعيها وتجاوزه المليونين و300 ألف، مما يعطي فكرة عن حجم التغيير الذي حصل في البلاد في مجال الإعلام والاتصال بين السلطة والشعب.