صراعات دولية وإجراءات اقتصادية تُربك حسابات المصريين

أزمة غلاء في الأسواق... والحكومة تسعى لتبديد المخاوف الاجتماعية

صراعات دولية وإجراءات اقتصادية تُربك حسابات المصريين
TT

صراعات دولية وإجراءات اقتصادية تُربك حسابات المصريين

صراعات دولية وإجراءات اقتصادية تُربك حسابات المصريين

لم يكد المصريون يتجاوزون التداعيات الاجتماعية والاقتصادية لجائحة «كوفيد - 19»، حتى داهمهم تحالف بين عاملين مهمين مثلهما: أولاً صراع دولي تخوضه روسيا مقابل الدول الغربية. وثانياً، إجراءات اقتصادية أقدمت عليها الحكومة الأسبوع الماضي، منها رفع سعر الفائدة وتراجع سعر صرف العملة الوطنية مقابل الدولار الأميركي، والإعلان عن بدء مناقشات مع صندوق النقد الدولي للحصول على تمويل جديد؛ ولقد أسهم العاملان في إرباك للحسابات المحلية على مستويات عدة.
كانت الحرب الأوكرانية - الروسية متهمة وحيدة تقريباً للوهلة الأولى من قبل المصريين وحكومتهم، عندما حلت الصدمة المبدئية التي تلقتها أسواق البلاد جراء اشتعال المواجهة البعيدة نسبياً على مستوى الجغرافيا، والقريبة عملياً على مستوى الاقتصاد والسياسة.
وكذلك أصبح رغيف الخبز أول الضحايا، بسبب اعتماد البلاد بنسبة كبيرة على القمح الوارد من موسكو وكييف في تدبير احتياجاتها. إذ قفز سعر الخبز الحر بنسب تراوحت بين 50 في المائة إلى 100 في المائة (بحسب الحجم) للسعر النهائي للرغيف الواحد، وكان هذا ناقوس خطر بسبب ما يمثله «العيش» (كما يسميه المصريون) من صمام أمان اجتماعي لكل الطبقات تقريباً، وبالتالي أظهرت الحكومة إدراكاً لامتدادا تأثيراته على كل السلع والأسواق.

كان الظرف استثنائياً حقاً في مصر، خلال الأسبوع الماضي. ورغم اعتراف مسؤوليها بأن التأثر الاقتصادي بأزمة الحرب قادم لا محالة؛ فإن الحكومة شنت هجوماً على «مستغلي الأزمة». ثم شككت عبر وزيرها للتموين، علي المصيلحي، في سرعة تأثر سوق الخبز، ودحضت مبررات زيادة سعر القمح الموجود بالفعل في السوق المحلية جراء الحرب.
المصيلحي كان حاسماً عبر تصريحات تلفزيونية، قبل أيام قال فيها «مصر لم تستورد حبة قمح واحدة من الخارج منذ اشتعال الحرب الروسية - الأوكرانية»، قبل أن يتعهد بإعادة خفض السعر خلال يومين، رغم أن الزيادة كانت في أسواق القطاع الخاص.
ولكن بسبب الظروف غير العادية، لجأت الحكومة المصرية الأسبوع الماضي، إلى قرار استثنائي مؤقت لتحديد سعر رغيف الخبز في السوق الحر، وذلك لمدة 3 أشهر قد تجدد وفق المستجدات. ودافعت عن تدخلها في عمل القطاع الخاص بالتأكيد على أن «قانون حماية المستهلك» يكفل لها وفق شروط (رأت أنها تحققت) أن تحدد مؤقتاً سعر سلعة بعينها لمدة محددة.
مع ذلك فإن «موجة الغلاء» لم تتراجع في سلع أخرى بينها السلع الغذائية. وهنا يشرح الخبير في الاقتصاد وأستاذ التمويل الدكتور مدحت نافع لـ«الشرق الأوسط» أنه «بمجرد أن اشتعل الصدام المسلح بين روسيا وأوكرانيا تأثرت أسواق القمح، لكن كثيراً من الدول قررت أن تتحوط تحسباً لطول أمد الأزمة، فزادت حجم احتياطياتها من المواد الغذائية والأولية والنفط ومشتقاته، وأدى هذا بدوره إلى نقص المعروض وضغط على بورصات السلع الكبرى والتي تعد مؤشرا للأسعار في كل دول العالم ومن بينها مصر».
إلا أن نافع يعود فيذكر بأن «الاضطراب في سلاسل الإمداد بدأ منذ تفشي كوفيد - 19، وأعقبته أزمة الحرب الروسية - الأوكرانية وفرض عقوبات على موسكو. وأخيراً، جاء ارتفاع أسعار الفائدة الأميركية التي ستتبعها زيادات أخرى حتى نهاية العام». ويخلص إلى أن كل تلك العوامل مع غيرها «تضغط على الواردات المصرية وبالتالي على السلع والخدمات كافة».

حوافز وعقوبات
على أي حال، فإن الحكومة المصرية، سعت لتأمين جبهتها الداخلية من القمح التي طمأنت بأنه متوفر باحتياطي يكفي لاستهلاك 4 أشهر. غير أنه على المدى المتوسط والمدى الطويل فقد اتخذت إجراءات عدة لحشده من المزارعين المحليين... عبر إلزام نسبي لهم بتوريد حصة محددة من محصولهم للشركات المملوكة للدولة مع تعهد السلطات بسرعة سداد المستحقات.
جدير بالذكر، أن مصر تعد من أكبر مستوردي القمح في العالم. وفي أعقاب اندلاع الحرب الروسية - الأوكرانية، أقر وزير المالية المصري محمد معيط، بأن البلاد ستواجه تبعات جراء تلك الأحداث، مشيراً إلى أن «بند (شراء) القمح في موازنة الدولة سيرتفع بمقدار 15 مليار جنيه مصري (الدولار يساوي 18.3 جنيه تقريباً).
ووفق الإجراءات التنظيمية التي أقدمت عليها الحكومة المصرية لتأمين جزء من احتياج البلاد من القمح المحلي فإنها أعلنت عن «حوافز ودعم للأسمدة لأصحاب حيازات الأراضي الكبيرة ممن سيوردون لها 90 في المائة من محصولهم»، وفي الوقت نفسه لوحت بتطبيق عقوبات الحبس والغرامة المالية على المخالفين.
وتضمن القرار الذي أصدره وزير التموين المصري إلزاماً على كل «من يملك محصولاً من قمح عن موسم حصاد عام 2022 أن يسلم إلى جهات التسويق (المملوكة للدولة) جزءاً من المحصول بواقع 12 إردباً عن كل فدان كحد أدنى؛ بناءً على الحيازة الزراعية المسجلة بوزارة الزراعة والجمعيات الزراعية». هذا، وتتباين التقديرات لإنتاجية الفدان من القمح حسب جودة الأراضي وأنواع التقاوي، وتتراوح بين 18 و23 إردباً للفدان تقريباً.
وعلى الجانب الآخر، طمأنت الحكومة المصرية المزارعين بتعهدها «السداد الفوري لمقابل كميات القمح بحد أقصى 48 ساعة من تاريخ التسلم». في حين حذر القرار من أن العقوبات على المخالفين، التي تتضمن الحبس والغرامة المالية، تتضمن «الأشخاص الذين اشتركوا في عملية بيع القمح، مسؤولين بالتضامن؛ سواء أكانوا بائعين أم مشترين أم وسطاء أم ممولين، وفي جميع الأحوال تضبط الكميات موضوع المخالفة، ويحكم بمصادرتها، كما تضبط وسائل النقل أو الجر التي استعملت في نقله ويحكم بمصادرتها».
ومن ثم، إذا كان المسار العاجل لتوفير القمح قد تلقى إجراءات تحفيزية، فإن ثمة ملفات أخرى لجأت إليها مصر على مستوى موازنتها. إذ أعلن رئيس مجلس الوزراء مصطفى مدبولي، إعادة هيكلة الموازنة للعام المقبل، وقال موضحاً «في ظل الأوضاع العالمية الحالية وما نشهده من تغيرات اقتصادية متلاحقة، وضعنا حلولاً وتوقعات للتعامل مع السيناريوهات الأكثر تشاؤما، للتخفيف من حدتها».
لم يخفِ مدبولي أن هناك قرارات ستتخذ «لتحقيق الانضباط المالي الكامل في الإنفاق، بل والتقشف في عدد من الأمور، مع ترتيب الأولويات، إلى أن تتضح الصورة في الفترة المقبلة، وتمر هذه الأزمة». وأضاف مدبولي «سنتابع توافر السلع الأساسية والمنتجات الغذائية في الأسواق، وانتظام عمل المصانع المنتجة لتلك المواد الغذائية، واستمرار الجهود المتعلقة بضبط الأسعار والأسواق، بما يضمن عدم السماح بوجود أي ممارسات سلبية، كإخفاء السلع أو احتكارها».

مشكلة دولية أم محلية؟
على صعيد متصل، حملت الساعات الأولى من يوم 21 من مارس (آذار) خبراً ساراً للمصريين، إذ نشرت الجريدة الرسمية قراراً حكومياً رسمياً بتحديد سعر بيع الخبز الحر (غير المدعوم) في برهنة على تنفيذ التعهدات بتخفيض سعره. ولكن وبعد ساعات معدودة من بزوغ شمس اليوم نفسه جاء خبر مفاجئ من البنك المركزي للبلاد يشير إلى رفع سعر الفائدة بنسبة 1 في المائة، لتبدأ العملة الوطنية مسار هبوط متوقع مقابل الدولار الأميركي.
بطبيعة الحال، صدم قرار زيادة الفائدة الأسواق ومرتاديها، خاصةً أنه صدر عن اجتماع استثنائي عقدته لجنة السياسية النقدية قبل موعدها المقرر بثلاثة أيام، وتبعته تساؤلات وتعليقات عدة بشأن طبيعة تلك الإجراءات وأسبابها، وكان ذلك مصحوباً بترقب لحظي لزيادة كبيرة قاربت 3 جنيهات لسعر صرف الدولار الواحد مقابل الجنيه. وهو ما يعني زيادة أسعار سلع وخامات مختلفة في بلد مثل مصر التي تعتمد بشكل كبير على الاستيراد من الخارج بالعملة الصعبة.
ومع تصاعد الجدل بشأن أسباب المشكلة، وما إذا كانت بسبب تداعيات النزاع الدولي بين روسياً وأوكرانيا، أم أن مرجعها مشكلة اقتصادية محلية؟... يعتقد الدكتور نافع أن «الفصل بين مدى تأثير العوامل الداخلية والخارجية صعب في هذه الحالة، خاصةً إذا أتت بشكل آنٍ». وشرح الخبير الاقتصادي المصري أن «أحد الآثار الظاهرة أمامنا في الحالة المصرية لسعر صرف العملة مرتبط بارتفاع الفائدة الأميركية وانعكاسه على التضخم وتكلفة الدين بالنسبة لكل الدول النامية». وقال إنه «سبق أن حذر صندوق النقد والبنك الدوليين من الضغوط التي ستفرض على الدول النامية والتي من شأنها خلق أزمة».
ثم استكمل «هناك أيضاً أزمة تضخم في مصر كانت تحتاج لسياسة نقدية تمتص السيولة عبر رفع سعر الفائدة الذي لم يكن فقط عبر 1 في المائة لسعر الإقراض والإيداع، ولكن علينا أن ننظر إلى الشهادات التي طرحها بنكان حكوميان بفائدة 18 في المائة ارتفاعاً من 11 في المائة وهو ما انعكس على السيولة».

سخرية وطمأنة
واقع الحال، أن الإجراءات التي أفضت إلى هبوط سعر صرف العملة الوطنية مقابل العملات الأجنبية وأخصها الدولار، أدخلت المصريين في موجة «قلق وسخرية» عبّر عنها مستخدمون لمواقع التواصل الاجتماعي ومعلقون محليون بصور شتى. وتواكب ذلك مع إجراءات حكومية لتخفيف آثار زيادة الأسعار، ودعم رواتب الفئات الأقل دخلا ومنها قطاع المعاشات.
وفي هذه الأثناء، سعت الحكومة إلى تبديد المخاوف الاجتماعية جراء التطورات، وأعلنت عن تخصيص 190.5 مليار جنيه للهيئة القومية للتأمين الاجتماعي لصرف زيادة المعاشات بنسبة 13 في المائة بحد أدنى 120 جنيهاً بدءاً من أول أبريل (نيسان)، فضلا عن تدبير 2.7 مليار جنيه لضم 450 ألف أسرة جديدة للمستفيدين من «تكافل وكرامة».
بيد أن إجراءات «الطمأنة» الحكومية لم تقنع - على ما يبدو - آخرين عبروا بصور مركبة ساخرة «كوميكس» عن صدمتهم من «تعويم عملتهم»، ومن بينها صورة مقتطعة من فيلم شهير لسيدة أجروا على لسانها سؤالاً استنكارياً: «أنا نايمه امبارح (بالأمس) طبقة متوسطة... ينفع أصحى النهارده (اليوم) ألاقيني تحت خط الفقر»، في محاكاة تتسم بالمبالغة الساخرة للإشارة لما فقده الجنيه أمام الدولار.
ويبدو أن نمو التعبير عن القلق من زيادة أسعار السلع أو السيناريوهات التي قدمها البعض من احتمال نضوب بعض المنتجات أثار انتباه المسؤولين على مستويات رسمية مختلفة، لكن أبرز تعليق جاء في ختام الأسبوع، على لسان الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي الذي دعا مواطنيه في احتفالية عامة إلى الاطمئنان. ومع إشارته إلى ضرورة ترشيد الاستهلاك خلال الموسم الرمضاني، فإنه استدرك وقال: «هذا لا يعني أن السلع غير متوفرة، اشتروا كما تريدون من الأسواق وكل شيء متوفر وبكثرة».
كذلك، دخل الجيش المصري على خط التطورات عبر توفير السلع، وأعلن «تجهيز وتعبئة أكثر من مليون ونصف المليون عبوة غذائية لطرحها في الأسواق بنسبة خصم تصل إلى 60 في المائة وطرحها في جميع المحافظات».

تعميق الصناعة والتكامل
لكن هل يمكن القول إن هناك إجراءات إضافية ينبغي على مصر تنفيذها لمواجهة تدهور العملة؟...
يجيب الخبير في الاقتصاد مدحت نافع على هذا السؤال بالقول إن «الاعتمادات المالية التي طرحتها الحكومة لتفعيل زيادة رواتب بعض الفئات الأقل دخلاً وأصحاب المعاشات، إجراء موفق وله آثار اجتماعية مهمة على المدى القصير، ولكن على الأجلين المتوسط والطويل يجب الاتجاه لضرورة تعميق الصناعة الوطنية لتجنب مسار الأزمات».
وأردف موضحاً «هناك اتجاه عالمي لتغيير فلسفة وإجراءات التحوط، وسنجد أن ألمانيا مثلاً كدولة رائدة في مجالات الطاقة المستدامة، قررت أن تؤجل إغلاق محطتين نوويتين على خلفية تعطل مشروع «نورد ستريم2» (الروسي لنقل الغاز)... فضلاً عن إجراءات تحوط في آسيا لبناء مخزون استراتيجي من السلع المهمة ومنها الأرز بشكل إقليمي وخلق اكتفاء ذاتي».
في الحقيقة، نافع يدعو إلى تسريع العمل على «تحقيق الاكتفاء الذاتي من المواد الغذائية ومدخلات الصناعة الرئيسية بشكل إقليمي لأن العمل الذاتي بات صعباً للغاية»، ويرى أن يجب «طرح مشروع إقليمي بين عدد من الدول للتكامل يقوم على المصالح المشتركة والربح في الاتجاهين Win - Win، ويعتمد على المشروع القاطرة فيكون لدينا مثلا مشروع الاكتفاء الذاتي من الحبوب كبداية تقود هذا النوع من التكامل».


مقالات ذات صلة

مصر: أعمال البحث عن الغاز الطبيعي بالبحر المتوسط «مبشرة للغاية»

الاقتصاد وزير البترول المصري كريم بدوي خلال حديثه في مؤتمر مؤسسة «إيجيبت أويل آند غاز» (وزارة البترول المصرية)

مصر: أعمال البحث عن الغاز الطبيعي بالبحر المتوسط «مبشرة للغاية»

قال وزير البترول المصري كريم بدوي إن أعمال البحث والاستكشاف للغاز الطبيعي في البحر المتوسط مع الشركات العالمية «مبشرة للغاية».

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
الاقتصاد ناقلة غاز طبيعي مسال تمر بجانب قوارب صغيرة (رويترز)

مصر تُجري محادثات لإبرام اتفاقيات طويلة الأجل لاستيراد الغاز المسال

تجري مصر محادثات مع شركات أميركية وأجنبية أخرى لشراء كميات من الغاز الطبيعي المسال عبر اتفاقيات طويلة الأجل، في تحول من الاعتماد على السوق الفورية الأكثر تكلفة.

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
الاقتصاد سيدة تتسوق في إحدى أسواق القاهرة (رويترز)

«المركزي المصري» يجتمع الخميس والتضخم أمامه وخفض الفائدة الأميركية خلفه

بينما خفض الفيدرالي الأميركي أسعار الفائدة للمرة الثانية على التوالي يدخل البنك المركزي المصري اجتماعه قبل الأخير في العام الحالي والأنظار تتجه نحو التضخم

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
الاقتصاد مسؤولو «مدن» الإماراتية و«حسن علام» المصرية خلال توقيع مذكرة تفاهم لتعزيز التعاون في مشروع رأس الحكمة (الشرق الأوسط)

«مدن القابضة» الإماراتية توقع مذكرة تفاهم في البنية التحتية والطاقة بمشروع رأس الحكمة

وقعت «مدن القابضة» الإماراتية، اليوم الثلاثاء، مذكرة تفاهم مع مجموعة «حسن علام القابضة» المصرية، لتعزيز أفق التعاون في مشروع رأس الحكمة في مصر.

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
الاقتصاد الشمس أثناء الغروب خلف أعمدة خطوط الكهرباء ذات الجهد العالي (رويترز)

الربط الكهربائي بين مصر والسعودية يحسّن إمدادات التيار في المنطقة ويقلل الانقطاعات

ترى الشركة المنفذة لأعمال الربط الكهربائي بين مصر والسعودية، أن الربط الكهربائي بين البلدين سيحسّن إمدادات التيار في المنطقة ويقلل من انقطاعات الكهرباء.

صبري ناجح (القاهرة)

ألمانيا تتأهّب لانتخابات تعِد اليمين باستعادة الحكم

صادرات السيارات الألمانية إلى أميركا في قلب التأزم المحتمل مع ترمب (أ ف ب)
صادرات السيارات الألمانية إلى أميركا في قلب التأزم المحتمل مع ترمب (أ ف ب)
TT

ألمانيا تتأهّب لانتخابات تعِد اليمين باستعادة الحكم

صادرات السيارات الألمانية إلى أميركا في قلب التأزم المحتمل مع ترمب (أ ف ب)
صادرات السيارات الألمانية إلى أميركا في قلب التأزم المحتمل مع ترمب (أ ف ب)

عوضاً عن بدء ألمانيا استعداداتها للتعامل مع ولاية جديدة للرئيس الأميركي «العائد» دونالد ترمب والتحديات التي ستفرضها عليها إدارته الثانية، فإنها دخلت أخيراً في أزمة سياسية بعد الانهيار المفاجئ للحكومة الائتلافية التي يرأسها المستشار أولاف شولتس. وبهذا التطوّر بات شولتس أحد أقصر المستشارين حكماً في ألمانيا؛ إذ إنه قبل إكماله 3 سنوات على رأس الحكومة الائتلافية التي تمثل 3 أحزاب (اشتراكي وليبرالي وبيئي «أخضر») صار المستشار رئيساً لحكومة أقلية مؤلفة من حزبين بانتظار الانتخابات المبكرة التي حُدّد موعدها يوم 23 فبراير (شباط) المقبل.

الحكومة الألمانية ترنّحت إثر انسحاب «ضلعها» الليبرالي، الحزب الديمقراطي الحر، منها. ورغم انسحاب الحزب، أراد رئيسها المستشار أولاف شولتس الاستمرار على رأس «حكومة أقلية» حتى نهاية مارس (آذار)، وهو التاريخ الذي حدّده في البداية لإجراء الانتخابات المبكرة عوضاً عن نهاية سبتمبر (أيلول).

لكن أمام ضغوط المعارضة وافق المستشار وزعيم الحزب الديمقراطي الاجتماعي (الاشتراكي) على تقريب الموعد شهراً آخر. وحتى بعد إجراء الانتخابات، فإن فترة الشكوك قد تستمر لأسابيع أو أشهر إضافية. وللعلم، في ألمانيا، لم يسبق أن فاز أي حزب بغالبية مطلقة تسمح له بتشكيل حكومة منفرداً. وبالنتيجة، حكمت ألمانيا (الغربية أساساً) منذ نهاية الحرب العالمية الثانية حكومات ائتلافية قادها إما محافظو حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي (يمين الوسط) أو اشتراكيو الحزب الديمقراطي الاجتماعي (يسار الوسط).

فريدريش ميرتز (آجنزيا نوفا)

اليمين عائد... لكن!

هذه المرة يبدو أن الديمقراطيين المسيحيين (الحزب الذي قادته لفترة أنجيلا ميركل) يتجهون لاستعادة السلطة. فحزبهم تصدر استطلاعات الرأي بفارق كبير بنسبة تصل إلى 33 في المائة، وهي أعلى من النسبة التي تتمتع بها الأحزاب الثلاثة التي شكَّلت حكومة شولتس مجتمعة، قبل انهيارها. غير أن اختيار الحزب الشريك - أو الأحزاب الشريكة – في ائتلاف الديمقراطيين المرتقب، قد يكون أمراً معقّداً ويستغرق وقتاً طويلاً.

عقبة البيروقراطية

من ناحية ثانية، رغم محاولات الديمقراطيين المسيحيين تقريب موعد الانتخابات أكثر، مستفيدين من تقدم حزبهم في استطلاعات الرأي، ودعوات جمعيات الأعمال لتقليص فترة الشك والغموض في بلد لم يشهد نمواً اقتصادياً منذ 5 سنوات، فإن البيروقراطية الألمانية شكّلت عائقاً أساسياً أمام ذلك.

وحقاً، لا يقع اللوم في تأخير الانتخابات لنهاية فبراير (شباط) فقط على تشبّث شولتس بإطالة عمر حكومته العاجزة عن العمل. ذلك أنه فور انهيار الحكومة، وبدء الكلام عن انتخابات جديدة، دقّت «هيئة الانتخابات» جرس الإنذار محذّرة من أن التسرّع في إجرائها قد يؤدي إلى أخطاء تسببت بإعادتها. ورأت «الهيئة» ضرورة إفساح الوقت الكافي لتحضير اللوائح، وطبع الأوراق، وتحديات العثور على ورق كافٍ ومطابع جاهزة للعمل في خلال مدة زمنية قصيرة.

نقاط خلافية جدّية

ورغم سخافة هذا المشهد، فهو يعكس واقعاً في ألمانيا المقيدة بالبيروقراطية التي تعيق الكثير من تقدّمها، وكان واحداً من أسباب انهيار الحكومة في النهاية. فقد فشلت حكومة شولتس بإدخال أي إصلاحات لتخفيف البيروقراطية رغم التوصيات المتكرّرة من اختصاصيين. ولقد صدرت آخر هذه التوصيات الأسبوع الماضي من «مجلس الخبراء الاقتصادي»، وهو «مجلس حكماء» مدعوم من الحكومة، دعا إلى تقليص البيروقراطية وتسريع «المكننة» كواحدة من الخطوات الرئيسة لتحقيق النمو الاقتصادي.

وللعلم، كانت تلك واحدة من الخلافات الأبرز بين أحزاب الائتلاف الحكومي الثلاثة. فليبراليو الحزب الديمقراطي الحر (وسط) - الذي يعتبر مؤيداً لمجتمع الأعمال والشركات الكبرى - دفعوا منذ تشكيل الحكومة إلى «تقليص البيروقراطية»، خصوصاً على الشركات، إضافة إلى تخفيض الضرائب عنها، لكن أولويات الاشتراكيين وحزب «الخضر» البيئي تمثّلت بزيادة المعونات الاجتماعية والاستدانة لمواجهة التحديات الاقتصادية التي فرضتها تبعات حرب أوكرانيا وجائحة «كوفيد - 19».

قضية الإنفاق العام

شكّل الإنفاق العام نقطة خلافية أخرى مع الليبراليين الذين رفضوا التخلي عن بند كبح الديون الذي يوصي به الدستور الألماني إلا في الحالات القصوى. وجرى التخلي عن هذا البند بعد جائحة «كوفيد - 19» عندما اضطرت الحكومة إلى الاستدانة والإنفاق لمساعدة الاقتصاد على النهوض. وفي المقابل، أراد الاشتراكيون و«الخضر» مواصلة العمل بتعليق بند كبح الديون ضمن خطط إنعاش الاقتصاد وتمويل الحرب الأوكرانية، لكن ليندنر رفض رغم أن «مجلس الخبراء» أوصى ببحث هذا البند وتخفيف التقيد به.

هكذا أدى الخلاف على إجراءات إنعاش الاقتصاد وميزانية عام 2025 إلى انفراط التحالف مع الليبراليين، ودفع بشولتس إلى طرد زعيمهم ووزير المالية كريستيان ليندنر، الذي قدم مقترحاً لتقليص البيروقراطية وخفض الضرائب مقابل خفض الإعانات الاجتماعية لتمويل الحرب في أوكرانيا من دون زيادة الدين العام.

الاشتراكيون بقيادة شولتس وحزب «الخضر» رفضوا مقترح ليندنر من دون القدرة على التوصل إلى «حل وسط»، مع أن المستشار اعتاد المساومة والحلول الوسطى منذ تشكيل حكومته التي غالباً ما شابتها الخلافات الداخلية.

وطبعاً، دفع طرد ليندنر الوزراء الليبراليين للتضامن مع زعيمهم والاستقالة... ما فرط عقد الحكومة. وبعد أيام من الجدل حول موعد الانتخابات المقبلة، اتفقت الأحزاب على طرح الثقة بالحكومة يوم 16 ديسمبر (كانون الأول) - ويتوقع أن تخسرها بعد خسارتها الغالبية البرلمانية - ما سيؤدي إلى انتخابات عامة حدد موعدها في 23 فبراير.

كريستيان ليندنر (رويترز)

الاقتصاد أساس الأزمة

نقطة إنعاش الاقتصاد تظهر الآن نقطةً خلافية أساسية، بينما يراوح الاقتصاد الألماني مكانه عاجزاً عن تحقيق أي نمو يذكر. ثم أن مئات الشركات الصغيرة والوسطى أقفلت خلال العامين الماضيين، وبدأت حتى كبرى شركات السيارات تعاني خسائر دفعت بشركة «فولكسفاغن» العملاقة إلى إقفال 3 من مصانعها العشرة في ألمانيا.

مع هذا، لا يمكن لوم سياسات الحكومة والخلافات الداخلية حول التعامل مع الاقتصاد وحدها، لتبرير تدهور الاقتصاد الألماني خلال السنوات الثلاث الماضية. إذ بدأت حكومة شولتس عملها في خضم جائحة «كوفيد - 19» التي تسببت بأزمات اقتصادية عالمية، وتلت الجائحة الحرب الأوكرانية وتبعاتها المباشرة على ألمانيا، التي كانت تستورد معظم حاجاتها من الغاز من روسيا. وقد تعاملت حكومة شولتس مع انقطاع الغاز الروسي السريع عن ألمانيا بحكمة، ونجحت في تعويضه بسرعة من دون التسبب بأزمة نقص للغاز في البلاد. وأيضاً اتخذت تدابير لحماية المستهلكين من الارتفاع الكبير في الأسعار، مع أنها ما كانت قادرة على تفادي التداعيات بشكل كامل.

من ثم، تحوّلت الحكومة إلى ما يشبه حكومة إدارة الأزمات والسياسات السيئة الموروثة عن الحكومات السابقة. لكن حتى هنا، يمكن تحميل الاشتراكيين بعض مسؤولية السياسات الاقتصادية السيئة، ومنها اعتماد ألمانيا بشكل متزايد طوال حكومات أنجيلا ميركل الأربع على الغاز الروسي، والسبب أن الاشتراكيين شاركوا في ثلاث من هذه الحكومات، وشولتس نفسه كان وزيراً للمالية ثم نائب المستشارة.

علاقة الاشتراكيين بروسيا

من جانب آخر، لم يساعد القرب التاريخي للاشتراكيين من روسيا حكومة شولتس بإبعاد نفسها عن موسكو؛ إذ بقي المستشار متردداً لفترة طويلة في قطع العلاقات مع روسيا ودعم أوكرانيا. ومع أن ألمانيا تحوّلت الآن إلى ثاني أكبر داعم عسكري لكييف بعد واشنطن، فإن تردد شولتس شخصياً في كل قرار يتعلق بتسليح أوكرانيا، غالباً ما وضعه في مواجهة مع حليفيه في الحكومة وكذلك مع المعارضة. وللعلم، يعتمد شولتس سياسة حذرة في دعم أوكرانيا ولا يؤيد ضمها لـ«ناتو» (حلف شمال الأطلسي)؛ تخوفاً من استفزاز روسيا أكثر وخشيته من دفعها لتوسيع الصراع.

في أي حال، كرّر شولتس القول في كل مناسبة بضرورة استمرار دعم أوكرانيا، وكان هذا واحداً من أسباب الخلافات حول الميزانية التي أدت إلى انهيار الحكومة، فوزير المالية أراد اقتطاع مخصّصات اجتماعية لتمويل الحرب في حين شولتس أراد الاستدانة لذلك رافضاً المس بالإعانات.

وحيال أوكرانيا، مع أن مقاربة تمويل الحرب في أوكرانيا تختلف بين الأحزاب الألمانية، لا خلاف على دعم كييف لا خلاف عليه. بل يتشدّد الديمقراطيون المسيحيون المتوقع فوزهم بالانتخابات وقيادتهم الحكومة المقبلة أكثر في دعمهم. ويؤيد زعيم حزبهم، فريدريش ميرتز، الذي قد يصبح المستشار القادم، أوكرانيا ضم أوكرانيا «فوراً» إلى «ناتو» بخلاف شولتس، كما يؤيد إرسال صواريخ «توروس» البعيدة المدى والألمانية الصنع إليها، بينما يعارض شولتس ذلك.

وهنا نشير إلى أن حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي كان طوال السنوات الماضية، منذ تفجّر الحرب الأوكرانية، شديد الانتقاد لتردّد المستشار الاشتراكي في قرارات تسليح كييف وقطع العلاقات الاقتصادية مع روسيا، رغم أنه كان المسؤول عن وصول العلاقات الاقتصادية إلى مرحلة الاعتماد الألماني على الطاقة الروسية... كما كان حاصلاً قبل الحرب.

على الحكومة الجديدة التعامل مع ترمب

في ملف العلاقات الاقتصادية

أولاف شولتس (رويترز)

تبعات عودة ترمب

في اتجاه موازٍ، مقاربة الحرب الأوكرانية ستضع أي حكومة ألمانية جديدة في مواجهة محتملة مع إدارة دونالد ترمب القادمة في واشنطن. إذ ستضيع ألمانيا شهوراً ثمينة في تحديد سياستها مع العد العكسي للانتخابات المبكرة وتفاوض الأحزاب خلالها على تشكيل حكومة ائتلافية.

ولن يكون أمام الحكومة الجديدة فقط تحدي التعامل مع إدارة ترمب في ملف أوكرانيا، بل أيضاً في ملف التجارة والعلاقات الاقتصادية. ذلك أن ترمب في عهده الأول دأب على انتقاد ألمانيا بسبب ضخامة صادراتها إلى الولايات المتحدة، وبخاصة السيارات، التي تفوق بأضعاف الصادرات الأميركية إليها. وبالفعل، هدَّد آنذاك برسوم على السيارات الألمانية في حال لم تزد برلين وارداتها من الولايات المتحدة خاصة الغاز الأميركي الذي كان ترمب يضغط على ميركل لاستيراده عوضاً عن الغاز الروسي. بالتالي، مع عودة ترمب، ستعود المخاوف من حرب اقتصادية مع واشنطن قد تكون إذا وقعت مدمّرة لقطاع السيارات الألمانية. وحقاً، خفّضت كل الشركات الألمانية الكبرى سقف توقّعاتها للأرباح في الأشهر المقبلة، بعد تراجع مبيعاتها في الأسواق الخارجية وتحديداً الصين، بشكل كبير. وقد يشكّل تقلّص سوقها في الولايات المتحدة ضربة جديدة لها يحذّر الخبراء الاقتصاديون من أن تبعاتها ستكون مؤلمة للاقتصاد الألماني.

حسابات الانتخابات المقبلة

عودة إلى حسابات الداخل، لم يطرح الزعيم الديمقراطي المسيحي فريدريش ميرتز، في الواقع، فكرة إعادة وزير المالية المعزول كريستيان ليندنر إلى حكومته المحتملة. لكن سيتوجّب أولاً على حزب ليندنر، أي الحزب الديمقراطي الحر (الليبرالي) أن يكسب أصواتاً كافية لتمثيله في البرلمان. وحتى مع تحقيق هذا قد لا يكون التحالف بين الحزبين كافياً لضمان الغالبية، إلا إذا حصلت مفاجأة وحقق أحد الحزبين نتائج أعلى من المتوقع في الاستطلاعات، كما فعل الاشتراكيون في الانتخابات الماضية عندما نالوا قرابة 26 في المائة متقدمين على الديمقراطيين المسيحيين الذين نالوا 24 في المائة من الأصوات. ويومذاك كانت استطلاعات الرأي التي سبقت الانتخابات تشير إلى شبه تعادل بين الحزبين.

من ثم، في حال بقاء ليبراليي الحزب الديمقراطي الحر خارج الحكومة، قد تعيد ألمانيا إنتاج حكومة يشارك فيها الحزبان الرئيسان المتناقضان في سياساتهما الاجتماعية والاقتصادية، أي الاتحاد الديمقراطي المسيحي اليميني والحزب الديمقراطي الاجتماعي (الاشتراكي). وقد يُجبَر الحزبان على ضم شريك ثالث يرجح أن يكون حزب «الخضر» في حال غياب الليبراليين عن المشهد. وقد تعيد هكذا حكومة ثلاثية فترة الخلافات والاضطراب التي شهدتها ألمانيا في ظل الحكومة الثلاثية الحالية التي رغم انجازاتها، لا يذكر كثيرون إلا الخلافات التي شابتها.وحتى ذلك الحين، فإن التحديات التي ستواجهها أي حكومة ألمانية قادمة، تجعل من فترة انتظار الانتخابات وتشكيل الحكومة، فترة صعبة ستزيد من عمق الأزمة الاقتصادية وتشرذم الموقف الألماني والأوروبي أمام الإدارة الأميركية.