صراعات دولية وإجراءات اقتصادية تُربك حسابات المصريين

أزمة غلاء في الأسواق... والحكومة تسعى لتبديد المخاوف الاجتماعية

صراعات دولية وإجراءات اقتصادية تُربك حسابات المصريين
TT

صراعات دولية وإجراءات اقتصادية تُربك حسابات المصريين

صراعات دولية وإجراءات اقتصادية تُربك حسابات المصريين

لم يكد المصريون يتجاوزون التداعيات الاجتماعية والاقتصادية لجائحة «كوفيد - 19»، حتى داهمهم تحالف بين عاملين مهمين مثلهما: أولاً صراع دولي تخوضه روسيا مقابل الدول الغربية. وثانياً، إجراءات اقتصادية أقدمت عليها الحكومة الأسبوع الماضي، منها رفع سعر الفائدة وتراجع سعر صرف العملة الوطنية مقابل الدولار الأميركي، والإعلان عن بدء مناقشات مع صندوق النقد الدولي للحصول على تمويل جديد؛ ولقد أسهم العاملان في إرباك للحسابات المحلية على مستويات عدة.
كانت الحرب الأوكرانية - الروسية متهمة وحيدة تقريباً للوهلة الأولى من قبل المصريين وحكومتهم، عندما حلت الصدمة المبدئية التي تلقتها أسواق البلاد جراء اشتعال المواجهة البعيدة نسبياً على مستوى الجغرافيا، والقريبة عملياً على مستوى الاقتصاد والسياسة.
وكذلك أصبح رغيف الخبز أول الضحايا، بسبب اعتماد البلاد بنسبة كبيرة على القمح الوارد من موسكو وكييف في تدبير احتياجاتها. إذ قفز سعر الخبز الحر بنسب تراوحت بين 50 في المائة إلى 100 في المائة (بحسب الحجم) للسعر النهائي للرغيف الواحد، وكان هذا ناقوس خطر بسبب ما يمثله «العيش» (كما يسميه المصريون) من صمام أمان اجتماعي لكل الطبقات تقريباً، وبالتالي أظهرت الحكومة إدراكاً لامتدادا تأثيراته على كل السلع والأسواق.

كان الظرف استثنائياً حقاً في مصر، خلال الأسبوع الماضي. ورغم اعتراف مسؤوليها بأن التأثر الاقتصادي بأزمة الحرب قادم لا محالة؛ فإن الحكومة شنت هجوماً على «مستغلي الأزمة». ثم شككت عبر وزيرها للتموين، علي المصيلحي، في سرعة تأثر سوق الخبز، ودحضت مبررات زيادة سعر القمح الموجود بالفعل في السوق المحلية جراء الحرب.
المصيلحي كان حاسماً عبر تصريحات تلفزيونية، قبل أيام قال فيها «مصر لم تستورد حبة قمح واحدة من الخارج منذ اشتعال الحرب الروسية - الأوكرانية»، قبل أن يتعهد بإعادة خفض السعر خلال يومين، رغم أن الزيادة كانت في أسواق القطاع الخاص.
ولكن بسبب الظروف غير العادية، لجأت الحكومة المصرية الأسبوع الماضي، إلى قرار استثنائي مؤقت لتحديد سعر رغيف الخبز في السوق الحر، وذلك لمدة 3 أشهر قد تجدد وفق المستجدات. ودافعت عن تدخلها في عمل القطاع الخاص بالتأكيد على أن «قانون حماية المستهلك» يكفل لها وفق شروط (رأت أنها تحققت) أن تحدد مؤقتاً سعر سلعة بعينها لمدة محددة.
مع ذلك فإن «موجة الغلاء» لم تتراجع في سلع أخرى بينها السلع الغذائية. وهنا يشرح الخبير في الاقتصاد وأستاذ التمويل الدكتور مدحت نافع لـ«الشرق الأوسط» أنه «بمجرد أن اشتعل الصدام المسلح بين روسيا وأوكرانيا تأثرت أسواق القمح، لكن كثيراً من الدول قررت أن تتحوط تحسباً لطول أمد الأزمة، فزادت حجم احتياطياتها من المواد الغذائية والأولية والنفط ومشتقاته، وأدى هذا بدوره إلى نقص المعروض وضغط على بورصات السلع الكبرى والتي تعد مؤشرا للأسعار في كل دول العالم ومن بينها مصر».
إلا أن نافع يعود فيذكر بأن «الاضطراب في سلاسل الإمداد بدأ منذ تفشي كوفيد - 19، وأعقبته أزمة الحرب الروسية - الأوكرانية وفرض عقوبات على موسكو. وأخيراً، جاء ارتفاع أسعار الفائدة الأميركية التي ستتبعها زيادات أخرى حتى نهاية العام». ويخلص إلى أن كل تلك العوامل مع غيرها «تضغط على الواردات المصرية وبالتالي على السلع والخدمات كافة».

حوافز وعقوبات
على أي حال، فإن الحكومة المصرية، سعت لتأمين جبهتها الداخلية من القمح التي طمأنت بأنه متوفر باحتياطي يكفي لاستهلاك 4 أشهر. غير أنه على المدى المتوسط والمدى الطويل فقد اتخذت إجراءات عدة لحشده من المزارعين المحليين... عبر إلزام نسبي لهم بتوريد حصة محددة من محصولهم للشركات المملوكة للدولة مع تعهد السلطات بسرعة سداد المستحقات.
جدير بالذكر، أن مصر تعد من أكبر مستوردي القمح في العالم. وفي أعقاب اندلاع الحرب الروسية - الأوكرانية، أقر وزير المالية المصري محمد معيط، بأن البلاد ستواجه تبعات جراء تلك الأحداث، مشيراً إلى أن «بند (شراء) القمح في موازنة الدولة سيرتفع بمقدار 15 مليار جنيه مصري (الدولار يساوي 18.3 جنيه تقريباً).
ووفق الإجراءات التنظيمية التي أقدمت عليها الحكومة المصرية لتأمين جزء من احتياج البلاد من القمح المحلي فإنها أعلنت عن «حوافز ودعم للأسمدة لأصحاب حيازات الأراضي الكبيرة ممن سيوردون لها 90 في المائة من محصولهم»، وفي الوقت نفسه لوحت بتطبيق عقوبات الحبس والغرامة المالية على المخالفين.
وتضمن القرار الذي أصدره وزير التموين المصري إلزاماً على كل «من يملك محصولاً من قمح عن موسم حصاد عام 2022 أن يسلم إلى جهات التسويق (المملوكة للدولة) جزءاً من المحصول بواقع 12 إردباً عن كل فدان كحد أدنى؛ بناءً على الحيازة الزراعية المسجلة بوزارة الزراعة والجمعيات الزراعية». هذا، وتتباين التقديرات لإنتاجية الفدان من القمح حسب جودة الأراضي وأنواع التقاوي، وتتراوح بين 18 و23 إردباً للفدان تقريباً.
وعلى الجانب الآخر، طمأنت الحكومة المصرية المزارعين بتعهدها «السداد الفوري لمقابل كميات القمح بحد أقصى 48 ساعة من تاريخ التسلم». في حين حذر القرار من أن العقوبات على المخالفين، التي تتضمن الحبس والغرامة المالية، تتضمن «الأشخاص الذين اشتركوا في عملية بيع القمح، مسؤولين بالتضامن؛ سواء أكانوا بائعين أم مشترين أم وسطاء أم ممولين، وفي جميع الأحوال تضبط الكميات موضوع المخالفة، ويحكم بمصادرتها، كما تضبط وسائل النقل أو الجر التي استعملت في نقله ويحكم بمصادرتها».
ومن ثم، إذا كان المسار العاجل لتوفير القمح قد تلقى إجراءات تحفيزية، فإن ثمة ملفات أخرى لجأت إليها مصر على مستوى موازنتها. إذ أعلن رئيس مجلس الوزراء مصطفى مدبولي، إعادة هيكلة الموازنة للعام المقبل، وقال موضحاً «في ظل الأوضاع العالمية الحالية وما نشهده من تغيرات اقتصادية متلاحقة، وضعنا حلولاً وتوقعات للتعامل مع السيناريوهات الأكثر تشاؤما، للتخفيف من حدتها».
لم يخفِ مدبولي أن هناك قرارات ستتخذ «لتحقيق الانضباط المالي الكامل في الإنفاق، بل والتقشف في عدد من الأمور، مع ترتيب الأولويات، إلى أن تتضح الصورة في الفترة المقبلة، وتمر هذه الأزمة». وأضاف مدبولي «سنتابع توافر السلع الأساسية والمنتجات الغذائية في الأسواق، وانتظام عمل المصانع المنتجة لتلك المواد الغذائية، واستمرار الجهود المتعلقة بضبط الأسعار والأسواق، بما يضمن عدم السماح بوجود أي ممارسات سلبية، كإخفاء السلع أو احتكارها».

مشكلة دولية أم محلية؟
على صعيد متصل، حملت الساعات الأولى من يوم 21 من مارس (آذار) خبراً ساراً للمصريين، إذ نشرت الجريدة الرسمية قراراً حكومياً رسمياً بتحديد سعر بيع الخبز الحر (غير المدعوم) في برهنة على تنفيذ التعهدات بتخفيض سعره. ولكن وبعد ساعات معدودة من بزوغ شمس اليوم نفسه جاء خبر مفاجئ من البنك المركزي للبلاد يشير إلى رفع سعر الفائدة بنسبة 1 في المائة، لتبدأ العملة الوطنية مسار هبوط متوقع مقابل الدولار الأميركي.
بطبيعة الحال، صدم قرار زيادة الفائدة الأسواق ومرتاديها، خاصةً أنه صدر عن اجتماع استثنائي عقدته لجنة السياسية النقدية قبل موعدها المقرر بثلاثة أيام، وتبعته تساؤلات وتعليقات عدة بشأن طبيعة تلك الإجراءات وأسبابها، وكان ذلك مصحوباً بترقب لحظي لزيادة كبيرة قاربت 3 جنيهات لسعر صرف الدولار الواحد مقابل الجنيه. وهو ما يعني زيادة أسعار سلع وخامات مختلفة في بلد مثل مصر التي تعتمد بشكل كبير على الاستيراد من الخارج بالعملة الصعبة.
ومع تصاعد الجدل بشأن أسباب المشكلة، وما إذا كانت بسبب تداعيات النزاع الدولي بين روسياً وأوكرانيا، أم أن مرجعها مشكلة اقتصادية محلية؟... يعتقد الدكتور نافع أن «الفصل بين مدى تأثير العوامل الداخلية والخارجية صعب في هذه الحالة، خاصةً إذا أتت بشكل آنٍ». وشرح الخبير الاقتصادي المصري أن «أحد الآثار الظاهرة أمامنا في الحالة المصرية لسعر صرف العملة مرتبط بارتفاع الفائدة الأميركية وانعكاسه على التضخم وتكلفة الدين بالنسبة لكل الدول النامية». وقال إنه «سبق أن حذر صندوق النقد والبنك الدوليين من الضغوط التي ستفرض على الدول النامية والتي من شأنها خلق أزمة».
ثم استكمل «هناك أيضاً أزمة تضخم في مصر كانت تحتاج لسياسة نقدية تمتص السيولة عبر رفع سعر الفائدة الذي لم يكن فقط عبر 1 في المائة لسعر الإقراض والإيداع، ولكن علينا أن ننظر إلى الشهادات التي طرحها بنكان حكوميان بفائدة 18 في المائة ارتفاعاً من 11 في المائة وهو ما انعكس على السيولة».

سخرية وطمأنة
واقع الحال، أن الإجراءات التي أفضت إلى هبوط سعر صرف العملة الوطنية مقابل العملات الأجنبية وأخصها الدولار، أدخلت المصريين في موجة «قلق وسخرية» عبّر عنها مستخدمون لمواقع التواصل الاجتماعي ومعلقون محليون بصور شتى. وتواكب ذلك مع إجراءات حكومية لتخفيف آثار زيادة الأسعار، ودعم رواتب الفئات الأقل دخلا ومنها قطاع المعاشات.
وفي هذه الأثناء، سعت الحكومة إلى تبديد المخاوف الاجتماعية جراء التطورات، وأعلنت عن تخصيص 190.5 مليار جنيه للهيئة القومية للتأمين الاجتماعي لصرف زيادة المعاشات بنسبة 13 في المائة بحد أدنى 120 جنيهاً بدءاً من أول أبريل (نيسان)، فضلا عن تدبير 2.7 مليار جنيه لضم 450 ألف أسرة جديدة للمستفيدين من «تكافل وكرامة».
بيد أن إجراءات «الطمأنة» الحكومية لم تقنع - على ما يبدو - آخرين عبروا بصور مركبة ساخرة «كوميكس» عن صدمتهم من «تعويم عملتهم»، ومن بينها صورة مقتطعة من فيلم شهير لسيدة أجروا على لسانها سؤالاً استنكارياً: «أنا نايمه امبارح (بالأمس) طبقة متوسطة... ينفع أصحى النهارده (اليوم) ألاقيني تحت خط الفقر»، في محاكاة تتسم بالمبالغة الساخرة للإشارة لما فقده الجنيه أمام الدولار.
ويبدو أن نمو التعبير عن القلق من زيادة أسعار السلع أو السيناريوهات التي قدمها البعض من احتمال نضوب بعض المنتجات أثار انتباه المسؤولين على مستويات رسمية مختلفة، لكن أبرز تعليق جاء في ختام الأسبوع، على لسان الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي الذي دعا مواطنيه في احتفالية عامة إلى الاطمئنان. ومع إشارته إلى ضرورة ترشيد الاستهلاك خلال الموسم الرمضاني، فإنه استدرك وقال: «هذا لا يعني أن السلع غير متوفرة، اشتروا كما تريدون من الأسواق وكل شيء متوفر وبكثرة».
كذلك، دخل الجيش المصري على خط التطورات عبر توفير السلع، وأعلن «تجهيز وتعبئة أكثر من مليون ونصف المليون عبوة غذائية لطرحها في الأسواق بنسبة خصم تصل إلى 60 في المائة وطرحها في جميع المحافظات».

تعميق الصناعة والتكامل
لكن هل يمكن القول إن هناك إجراءات إضافية ينبغي على مصر تنفيذها لمواجهة تدهور العملة؟...
يجيب الخبير في الاقتصاد مدحت نافع على هذا السؤال بالقول إن «الاعتمادات المالية التي طرحتها الحكومة لتفعيل زيادة رواتب بعض الفئات الأقل دخلاً وأصحاب المعاشات، إجراء موفق وله آثار اجتماعية مهمة على المدى القصير، ولكن على الأجلين المتوسط والطويل يجب الاتجاه لضرورة تعميق الصناعة الوطنية لتجنب مسار الأزمات».
وأردف موضحاً «هناك اتجاه عالمي لتغيير فلسفة وإجراءات التحوط، وسنجد أن ألمانيا مثلاً كدولة رائدة في مجالات الطاقة المستدامة، قررت أن تؤجل إغلاق محطتين نوويتين على خلفية تعطل مشروع «نورد ستريم2» (الروسي لنقل الغاز)... فضلاً عن إجراءات تحوط في آسيا لبناء مخزون استراتيجي من السلع المهمة ومنها الأرز بشكل إقليمي وخلق اكتفاء ذاتي».
في الحقيقة، نافع يدعو إلى تسريع العمل على «تحقيق الاكتفاء الذاتي من المواد الغذائية ومدخلات الصناعة الرئيسية بشكل إقليمي لأن العمل الذاتي بات صعباً للغاية»، ويرى أن يجب «طرح مشروع إقليمي بين عدد من الدول للتكامل يقوم على المصالح المشتركة والربح في الاتجاهين Win - Win، ويعتمد على المشروع القاطرة فيكون لدينا مثلا مشروع الاكتفاء الذاتي من الحبوب كبداية تقود هذا النوع من التكامل».


مقالات ذات صلة

«إكسون موبيل» تستعد لحفر بئر جديدة للتنقيب عن الغاز في مصر

الاقتصاد اجتماع وزير البترول  والثروة المعدنية المصري كريم بدوي بمسؤولي شركة «إكسون موبيل» (وزارة البترول والثروة المعدنية)

«إكسون موبيل» تستعد لحفر بئر جديدة للتنقيب عن الغاز في مصر

ستبدأ شركة «إكسون موبيل» المتخصصة في أعمال التنقيب عن البترول وصناعة البتروكيماويات يوم 15 ديسمبر (كانون الأول) المقبل بأنشطة الحفر البحري للتنقيب عن الغاز.

«الشرق الأوسط» (لندن )
العالم العربي مصريون يلجأون للمعارض لشراء احتياجاتهم مع ارتفاع الأسعار (الغرفة التجارية المصرية بالإسكندرية)

الغلاء يُخلخل الطبقة الوسطى في مصر... رغم «التنازلات»

دخلت الطبقة الوسطى في مصر مرحلة إعادة ترتيب الأولويات، بعدما لم يعد تقليص الرفاهيات كافياً لاستيعاب الزيادات المستمرة في الأسعار، فتبدلت معيشتها.

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
الاقتصاد رئيس الوزراء المصري مصطفى مدبولي خلال استقباله الشيخ محمد بن عبد الرحمن بن جاسم آل ثاني رئيس وزراء قطر في العاصمة الإدارية الجديدة (مجلس الوزراء المصري)

مصر وقطر ستتعاونان في مشروع عقاري «مهم للغاية» بالساحل الشمالي

قال مجلس الوزراء المصري، الأربعاء، إن مصر وقطر ستتعاونان خلال المرحلة المقبلة في مشروع استثماري عقاري «مهم للغاية» في منطقة الساحل الشمالي المصرية.

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
الاقتصاد أبراج وشركات وبنوك على نيل القاهرة (تصوير: عبد الفتاح فرج)

تقرير أممي يحذّر من تضخم الدين العام في المنطقة العربية

حذّر تقرير أممي من زيادة نسبة خدمة الدين الخارجي في البلدان العربية، بعد أن تضخّم الدين العام المستحق من عام 2010 إلى 2023، بمقدار 880 مليار دولار في المنطقة.

«الشرق الأوسط» (بيروت)
الاقتصاد مقر البنك المركزي المصري بالعاصمة الإدارية الجديدة (رويترز)

تحويلات المصريين بالخارج زادت بأكثر من 100 % في سبتمبر

أظهرت بيانات البنك المركزي المصري، اليوم الاثنين، أن تحويلات المصريين بالخارج ارتفعت لأكثر من مثليها على أساس سنوي في سبتمبر (أيلول) الماضي.

«الشرق الأوسط» (القاهرة)

الحدود العراقية ــ السورية... وذكريات صيف 2014

شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
TT

الحدود العراقية ــ السورية... وذكريات صيف 2014

شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)

شأن معظم دول المنطقة والإقليم، تسببت الأزمة السورية المتصاعدة في تراجع الاهتمام الرسمي والشعبي العراقي بالحرب التي تشنّها إسرائيل على غزة ولبنان، بعد أن كانت تحظى بأولوية قصوى، خصوصاً بعد التهديدات الإسرائيلية بتوجيه ضربات عسكرية ضد الفصائل المسلحة العراقية التي استهدفتها بأكثر من 200 هجمة صاروخية خلال الأشهر الماضية. وأظهر رئيس الوزراء محمد شيّاع السوداني، موقفاً داعماً للحكومة السورية في ظروفها الحالية منذ اليوم الأول للهجوم الذي شنَّته الفصائل السورية المسلحة وتمكّنت من السيطرة على محافظة حلب ومدن أخرى، إذ أجرى اتصالاً بالرئيس السوري بشار الأسد وكذلك الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان، وأكد دعمه لدمشق.

أعلن رئيس الحكومة العراقي محمد شيّاع السوداني، يوم الثلاثاء الماضي، موقفاً أكثر وضوحاً بالنسبة لدعم نظام دمشق، وذلك خلال اتصال - مماثل لاتصاليه مع القيادتين السورية والإيرانية - أجراه مع الرئيس التركي رجب طيب إردوغان.

ومما قاله السوداني إن «العراق لن يقف متفرجاً على التداعيات الخطيرة الحاصلة في سوريا، خصوصاً عمليات التطهير العرقي للمكوّنات والمذاهب هناك»، طبقاً لبيان حكومي.

كذلك شدّد الزعيم العراقي على أنه سبق لبلاده أن «تضرّرت من الإرهاب ونتائج سيطرة التنظيمات المتطرّفة على مناطق في سوريا، ولن يُسمَح بتكرار ذلك»، مؤكداً «أهمية احترام وحدة سوريا وسيادتها، وأن العراق سيبذل كل الجهود من أجل الحفاظ على أمنه وأمن سوريا».

محمد شياع السوداني (آ ف ب)

السوداني كان قد انهمك بسلسلة اتصالات خلال الأيام القليلة الماضية مع عدد من قادة الدول، بخصوص الوضع في سوريا؛ من «أجل دعم الاستقرار في المنطقة، وعدم حصول أي تداعيات فيها، خصوصاً مع ما تشهده من حرب إجرامية صهيونية مستمرة منذ أكثر من عام» بحسب بيان حكومي.

وأظهرت قوى «الإطار التنسيقي» الشيعية موقفاً مماثلاً وداعماً لحكومة السوداني في مواقفها حيال سوريا، لكنها أعربت خلال اجتماع، الثلاثاء الماضي أيضاً، عن قلقها جراء الأوضاع في سوريا بعد «احتلال الإرهابيين مناطق مهمة» طبقاً لبيان صدر عن الاجتماع. وعدّت «أمن سوريا امتداداً للأمن القومي العراقي للجوار الجغرافي بين البلدين، والامتدادات المختلفة لذلك الجوار».

الحدود المشتركة مؤمّنة

للعلم، مع الشرارة الأولى لاندلاع الأزمة السورية، اتخذت السلطات العراقية على المستوى الأمني إجراءات عديدة «لتأمين» حدودها الممتدة لأكثر من 600 كيلومتر مع سوريا. وصدرت بيانات كثيرة حول جاهزية القوات العراقية وقدرتها على التصدّي لأي محاولة توغّل داخل الأراضي العراقية من قبل الفصائل المسلحة من الجانب السوري، مثلما حدث صيف عام 2014، حين تمكَّنت تلك الجماعات من كسر الحدود المشتركة والسيطرة على مساحات واسعة من العراق.

اللواء يحيى رسول، الناطق باسم القائد العام للقوات المسلحة العراقية، أوضح (الثلاثاء) أبرز الإجراءات المُتَّخذة لتحصين الحدود مع سوريا. وقال في تصريحات صحافية إن «الحدود مؤمَنة ومُحكمة بشكل كبير من تحكيمات وتحصينات، وهناك وجود لقوات الحدود على خط الصفر الذي يربطنا مع الجارة سوريا مدعومة بالأسلحة الساندة والجهد الفني، المتمثل بالكاميرات الحرارية وأبراج المراقبة المحصّنة». وأضاف رسول: «لا خوف على الحدود العراقية، فهي مؤمّنة ومحكمة ومحصّنة، وأبطالنا منتشرون على طولها»، مشيراً إلى أنه «تم تعزيز الحدود بقطاعات من الألوية المدرعة وهي موجودة أيضاً عند الحدود».

أيضاً، وصل وفد أمني برئاسة الفريق أول قوات خاصة الركن عبد الأمير رشيد يارالله، رئيس أركان الجيش، يوم الأربعاء، إلى الشريط الحدودي العراقي - السوري. وذكر بيان عسكري أن «هدف الزيارة جاء لمتابعة انتشار القطعات الأمنية وانفتاح خطوط الصد».

غموض في الموقف

إلا أنه حتى مع المواقف الحكومية الداعمة لدمشق في أزمتها الراهنة، يبدو جلياً «الالتباس» بالنسبة لكثرة من المراقبين، وبالأخص لجهة شكل ذلك الدعم وطبيعته، وما إذا كانت السلطات الحكومية العراقية ستنخرط بقوة لمساعدة نظام الأسد عسكرياً، أم أنها ستبقى عند منطقة الدعم السياسي والدبلوماسي، تاركة أمر الانخراط والمساعدة الميدانية للفصائل المسلحة.

وهنا يلاحظ إياد العنبر، أستاذ العلوم السياسية في جامعة بغداد، وجود «التباس واضح حيال الموقف من الحدث السوري، وهذا الالتباس نختبره منذ سنوات، وليس هناك تمييز واضح بين العراق الرسمي وغير الرسمي». وتابع العنبر لـ«الشرق الأوسط» أن «مستويات تفعيل المساهمة العراقية في الحرب غير واضحة، وإذا ما قررت الحكومة البقاء على المستوى الدبلوماسي بالنسبة لقضة دعم سوريا، أم أن هناك مشاركة عسكرية».

غير أن إحسان الشمري، أستاذ الدراسات الاستراتيجية والدولية في جامعة بغداد، يعتقد بأن «العراق الرسمي عبَر عتبة التردّد، وبات منخرطاً في الأزمة السورية». وفي لقاء مع «الشرق الأوسط» بنى الشمري فرضيته على مجمل المواقف الرسمية التي صدرت عن رئيس الوزراء، والناطق الرسمي، وزعماء «الإطار التنسيقي»، وشرح قائلاً إن «هذه المواقف بمجملها كسرت مبدأ الحياد وعدم التدخل في شؤون الدول الأخرى الذي يتمسّك به العراق، إلى جانب كونها انخراطاً رسمياً عراقياً بالأزمة السورية».

نتنياهو غير مضمون

ولكن، بعيداً عن الانشغال الراهن بالأزمة السورية، ما زالت التهديدات الإسرائيلية بين أهم القضايا التي تشغل الرأي العام ببعدَيه السياسي والشعبي. وحتى مع الترحيب العراقي بقرار وقف إطلاق النار بين إسرائيل و«حزب الله»، ما زالت مخاوف البلاد من ضربة إسرائيلية محتملة قائمةً.

ولقد قال الناطق باسم الحكومة باسم العوادي، الأربعاء قبل الماضي، في تصريحات صحافية، إنه «مع عملية وقف إطلاق النار في لبنان، نحن أنهينا الجزء الأسهل، فالمعركة انتهت والحرب لم تنتهِ، فالأصعب أنك ستدخل بالمخططات غير المعلومة. ونحن (العراق) واقعون في المنطقة الحرام، لكن السياسة العقلانية المتوازنة استطاعت أن تجنبنا الضرر».

وأجاب، من ثم، عن طبيعة الرد العراقي إذا ما هاجمت إسرائيل أراضيه، بالقول: «إلى حد أيام قليلة كانت تأتي نتائج جيدة من المعادلات التي اشتغل عليها رئيس الوزراء، لكن رغم ذلك فلا أحد يضمن ما الذي يدور في بال حكومة نتنياهو، وما هو القادم مع الإدارة الأميركية الجديدة، وكيف سيتصرف نتنياهو».

وتابع العوادي، أن «الإسرائيليين عملوا على تفكيك الساحات، وتوجيه ضربات إلى اليمن وسوريا، لكن الطرف العراقي هو الوحيد الذي لم يستطيعوا الوصول إليه بفضل المعادلة... وقد يكونون وضعونا للحظات الأخيرة أو الأيام الأخيرة بنوع ما، وهذا وارد جداً، وتتعامل الحكومة العراقية مع ذلك».

شبح هجوم إسرائيلي

وحقاً، لا يزال شبح هجوم إسرائيلي واسع يخيم على بغداد، إذ تناقلت أوساط حزبية تحذيرات جدية من شنِّ ضربات جوية على العراق. وفي وقت سابق، قال مصدر مقرّب من قوى «الإطار التنسيقي» الشيعية، لـ«الشرق الأوسط»، إنَّ «مخاوف الأحزاب الشيعية من جدية التهديد دفعتها إلى مطالبة رئيس الحكومة للقيام بما يلزم لمنع الهجمات». وأكَّد المصدر أنَّ «فصائل عراقية مسلّحة لجأت أخيراً إلى التحرك في أجواء من التكتم والسرية، وقد جرى بشكل مؤكد إبدال معظم المواقع العسكرية التابعة لها».

وفي سياق متصل، تتحدَّث مصادر صحافية عمَّا وصفتها بـ«التقديرات الحكومية» التي تشير إلى إمكانية تعرّض البلاد لـ«300 هجوم إسرائيلي». وفي مطلع الأسبوع الماضي، شدَّدت وزارة الخارجية العراقية، في رسالة إلى مجلس الأمن، على أهمية «تدخل المجتمع الدولي لوقف هذه السلوكيات العدوانية لإسرائيل».

كما أنَّه حيال التهديدات الجدية والخشية الحقيقية من عمل عسكري إسرائيل ضد البلاد، اهتدت بعض الشخصيات والأجواء المقرّبة من الحكومة والفصائل إلى «رمي الكرة» في الملعب الأميركي، مستندين بذلك إلى اتفاقية «الإطار الاستراتيجي» المُوقَّعة منذ عام 2011، بين بغداد وواشنطن، وهو العام الذي خرجت فيه القوات الأميركية من العراق.

التهديدات الإسرائيلية من أهم القضايا التي تشغل الرأي العام العراقي

هادي العامري (رووداو)

العامري يلوم واشنطن

أيضاً، وجد هادي العامري، زعيم منظمة «بدر»، بنهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، الفرصة ليحمّل واشنطن مسؤولية حماية الأجواء العراقية، بعدما شنَّت إسرائيل هجوماً عسكرياً ضد إيران، مستخدمةً الأجواء العراقية في هجماتها. ويومذاك، حمّل العامري الجانب الأميركي «المسؤولية الكاملة» على انتهاك إسرائيل سيادة الأجواء العراقية في طريقها لضرب إيران. وقال، إن «الجانب الأميركي أثبت مجدّداً إصراره على الهيمنة على الأجواء العراقية، وعمله بالضد من مصالح العراق وشعبه وسيادته، بل سعيه لخدمة الكيان الصهيوني وإمداده بكل ما يحتاج إليه لممارسة أساليبه العدوانية، وتهديده للسلام والاستقرار في المنطقة».

وأضاف العامري: «لهذا باتت الحاجة ماسة أكثر من أي وقت مضى لإنهاء الوجود العسكري الأميركي في العراق بأشكاله كافة». وللعلم، فإن منظمة «بدر» - التي يقودها العامري - وردت ضمن لائحة المنظمات التي اتهمتها إسرائيل بشنِّ هجمات ضدها خلال الشكوى التي قدمتها إلى مجلس الأمن في 18 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي.

وبناءً على تصريحات العامري السالفة، وتصريحات أخرى لشخصيات مقرّبة من الفصائل المسلحة وقوى «الإطار التنسيقي» الشيعية، تبلورت خلال الأسبوع الأخير، قناعة داخل أوساط هذه القوى مفادها، بأن واشنطن «ملزمة وبشكل مباشر بحماية الأجواء العراقية» من أي هجوم محتمل من إسرائيل أو غيرها، أخذاً في الاعتبار الاتفاقية الاستراتيجية الموقعة و«سيطرتها على الأجواء العراقية».

وبالتوازي، سبق أن حمّل فادي الشمري، المستشار السياسي لرئيس الوزراء، الولايات المتحدة، أيضاً وفقاً لـ«اتفاقية الإطار الاستراتيجي والاتفاقية الأمنية»، مسؤولية «الردع، والرد على أي هجمات خارجية تمسّ الأمن الداخلي العراقي».

الرد الأميركي قاطع

في المقابل، تخلي واشنطن مسؤوليتها حيال هذا الأمر. ورداً على المزاعم العراقية المتعلقة بـ«الحماية الأميركية»، قالت ألينا رومانوسكي، السفيرة الأميركية في بغداد، صراحةً إن بلادها غير معنية بذلك. وأردفت رومانوسكي، خلال مقابلة تلفزيونية سابقة، أن التحالف الدولي دُعي إلى العراق لـ«محاربة (داعش) قبل 10 سنوات، وقد حققنا إنجازات على مستوى هزيمة هذا التنظيم، لكنه ما زال يمثل بعض التهديد، ودعوة الحكومة العراقية لنا تتعلق بهذا الجانب حصراً. أما اتفاقية الإطار الاستراتيجي فتلزمنا ببناء القدرات العسكرية العراقية، لكنها لا تتطرق لمسألة حماية الأجواء والدفاع بالنيابة». ونفت السفيرة أن تكون بلادها قد «فرضت سيطرتها على سماء العراق».

والاثنين قبل الماضي، قالت رومانوسكي، خلال لقاء «طاولة مستديرة» لعدد من وسائل الإعلام: «أود أن أكون واضحة جداً، ومنذ البداية، بأن الإسرائيليين وجّهوا تحذيرات ردع للميليشيات المدعومة إيرانياً والموجودة هنا في العراق، التي تعتدي على إسرائيل». وأضافت: «هذه الميليشيات هي التي بدأت الاعتداء على إسرائيل. ولأكون واضحة جداً في هذه النقطة، فإن الإسرائيليين حذّروا حكومة العراق بأن يوقف هذه الميليشيات عن اعتداءاتها المتكررة والمستمرة على إسرائيل... إن رسالتنا إلى حكومة العراق هي أن تسيطر على هذه الميليشيات المنفلتة، والتي لا تعتد بأوامر الحكومة وأوامر القائد العام للقوات المسلحة رئيس الوزراء. إن إسرائيل دولة لها سيادتها، وهي سترد على أي اعتداء من أي مكان ضدها».

جدعون ساعر (آ ف ب)

 

حقائق

قلق عراقي جدّي من التهديدات الإسرائيلية مع مطالبة واشنطن بالتدخّل

خلال الأسبوع قبل الماضي، بعث وزير الخارجية الإسرائيلي جدعون ساعر رسالةً إلى مجلس الأمن تكلّم فيها عمّا أسماه بـ«حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها»، وحمّل فيها الحكومة العراقية المسؤولية عن الهجمات التي تشنها الفصائل العراقية عليها، داعياً مجلس الأمن للتحرك والتأكد من أن الحكومة العراقية تفي بالتزاماتها. ساعر اتّهم بالتحديد «عصائب أهل الحق» و«كتائب حزب الله» و«ألوية بدر» وحركة «النُّجباء» و«أنصار الله الأوفياء» و«كتائب سيد الشهداء»، بمهاجمة إسرائيل، ومعظم هذه الفصائل مشاركة في الحكومة العراقية الحالية ولها نفوذ كبير داخلها. هنا، تجدر الإشارة إلى أنه سبق لرئاسة الوزراء العراقية توجيه وزارة الخارجية لمتابعة ملف التهديدات الإسرائيلية في المحافل الأممية والدولية وأمام هيئات منظمة الأمم المتحدة، واتخاذ كل الخطوات اللازمة، وفق مبادئ القانون الدولي، لحفظ حقوق العراق وردع تهديدات إسرائيل العدوانية. كذلك طالبت رئاسة الوزراء بـ«دعوة جامعة الدول العربية إلى اتخاذ موقف حازم وموحّد ضد تهديدات سلطات الكيان المحتل، يتضمن إجراءات عملية تستند إلى وحدة المصير والدفاع المشترك». وهذا بجانب «مطالبة مجلس الأمن الدولي بالنظر في الشكاوى المقدمة من جمهورية العراق ضد سلطات الكيان المحتل، واتخاذ إجراءات رادعة تكفل تحقيق الاستقرار والسِّلم الإقليمي والدولي»، وباتخاذ الولايات المتحدة مع العراق، من خلال الحوارات الأمنية والعسكرية ضمن إطار القسم الثالث من «اتفاقية الإطار الاستراتيجي»، خطوات فعالة «لردع سلطات الكيان المحتل» مع دعوة «التحالف الدولي والدول الأعضاء فيه إلى كبح هذه التهديدات والحدّ من اتساع رقعة الحرب».