بدأت امرأة عجوز يومها في إحدى ساحات مدينة خاركيف بإلقاء فتات الخبز للطيور البرية التي تجمعت حولها، وذلك عند الساعة الثامنة من صباح أمس، أي مع دخول الحرب الأوكرانية شهرها الثاني، وكان بقربها رجل وطفلته يفعلان الشيء نفسه.
الصورة المأساوية التي تنقلها وسائل الإعلام عن أوضاع مناطق القتال أو المحاذية لها حقيقية، ولكنها جزئية، إذ لا تزال الحياة في أوكرانيا ممكنة حتى في المدن التي تشهد احتكاكات عسكرية، ومقارنةً بحروب أخرى فإن ما يجري هنا هو بداية حرب لم تتحول إلى حرب كاملة بعد. إنها بداية حرب ضلت طريقها وتركت الكثير من أسباب الحياة متاحة خلفها، بعد أن عمدت القوات الروسية إلى قصف هذه المدن، مما حدا بالحكومة الأوكرانية إلى استباق الأسوأ وتشجيع السكان على الإجلاء عن مناطق الخطر.
حاولت القوات الروسية دخول خاركيف في الأيام الأولى للمعارك، لكنها تعرضت لمقاومة أجبرتها على التراجع، ثم عادت وحاولت تطويق المدينة التي كانت عاصمة أوكرانيا في زمن الاتحاد السوفياتي. وتحاول كل بضعة أيام تطويق المدينة، وعزل الجزء الشرقي عن باقي البلاد.
وضعُ مدينة خاركيف مشابهٌ للعاصمة كييف وباقي المدن الرئيسية، التي وصلت القوات الروسية على مقربة منها في بداية حملتها ولكنها لم تتمكن من كسر دفاعاتها أو دخولها أو الإحاطة الكاملة بها. وبعد شهر أصبح يمكن رسم مشهد للحرب بنقاط القوة التي لا يزال يملكها الأوكرانيون في مقاومة الهجوم الروسي. وهي أسباب ستجعل القتال طويلاً والحل بعيداً.
يشعر الأوكرانيون بقدر كبير من الكراهية ليس فقط للرئيس الروسي فلاديمير بوتين، ولا للجيش الروسي المتقدم في بلادهم، بل أصبحت هذه الكراهية تشمل كل ما هو روسي، حتى في المناطق الشرقية، حيث يتحدث أغلب المواطنين اللغة الروسية. بعض النواب باتوا ينشرون الكراهية هذه على حساباتهم في منصات التواصل الاجتماعي. ويقول أحدهم: «الحرب ليست حرب بوتين، إنها حرب الروس ضدنا»، وينشرون مقاطع مصورة منقولة عن التلفزيونات الروسية أو وسائل الدعاية الروسية تشير إلى تضامن الروس مع العمليات العسكرية وجنود بلادهم في أوكرانيا. بعضهم لا يتفق مع التوجه العام، ويقولون إن شحن الشبان والسكان بهذه المعتقدات سيؤدي إلى كوارث إضافية.
حسابات معروفة لناشطين وصحافيين واختصاصيين، أغلبهم غادر أوكرانيا إلى الحدود البولندية والرومانية، ومن هناك باتوا يتحدثون عن الصمود والقتال، هؤلاء إضافة إلى آخرين موجودون فعلاً في مناطق المعارك، وجنود وجهاز دعاية رسمي وأقنية تلفزة وإذاعات وصحف إلكترونية، يبثون الدعاية الأوكرانية حول الحرب وأحقيتها. الناس في المنازل سواء في المدن المنكوبة أو في المناطق الخلفية على حد سواء يصدقون إلى حد بعيد الدعاية التي يتلقونها، فإضافةً إلى أنه لا سبيل للتحقق من المعلومات التي تصل إليهم، وأن عائق اللغة يمنع الأغلبية هنا من متابعة أقنية غربية مختلفة، فإن ثمة ثقة بأوكرانيا وبالقدرات الأوكرانية على الصمود والقتال والانتصار لا تدفعهم للشك بما يصل إليهم من معلومات. ولا تبدو الدعاية السياسية هنا بعيدة عن الواقع كثيراً، الأرقام التي تعلنها وزارة الدفاع قريبة إلى حد ما من تلك التي تؤكدها مصادر غربية خصوصاً بريطانية، ولم تقع أجهزة الدعاية والإعلام حتى الآن في فخ الفضائح الفتاكة، فهي لم تعلن معلومات كاذبة بالكامل، أو معاكسة للواقع، مما جعلها تستحق ثقة جمهورها حتى اللحظة.
الثقة بوسائل الدعاية السياسية الرسمية، على شدتها، لا تقارَن بثقة الناس بجيشهم وقواتهم المسلحة، سواء أكانت من الجيش النظامي، أو المتطوعين في الجيش حديثاً، أو المتطوعين في الشرطة، أو القوات التابعة لوزارة الداخلية، أو حتى من المقاتلين ضمن الأحزاب شبه العسكرية. ويرى الناس أن الجيش ليس عبئاً عليهم، بل على العكس، يتعاطف المواطنون معه ومع خدمات الطوارئ، كون العاملين يؤدون خدمة عامة برواتب قليلة، وكونهم لا يحظون بأي امتيازات تُذكر. الكثير من الشبان تطوعوا للقتال إلى جانب الجيش مؤخراً، مما جعل التعاطف أكبر وشخصياً.
هذه الثقة تسمعها أين تذهب، ويعتقد الناس أن الجيش سيحرر كل المناطق بغضّ النظر عن المفاوضات السياسية، وهم يرون أن الجملة التي يرددها الجيش عن «المناطق المحتلة مؤقتاً» تعبيراً دقيقاً عن واقع الحال. وإن كان الجيش الأوكراني صغيراً نسبياً، إلا أن قيام بعض قطاعاته في مناطق قريبة من العاصمة بعمليات هجومية يزيد من ثقة الناس به وبقدراته.
ولا يخشى السكان من توزيع السلاح على المجموعات المتطوعة، أو على الأحزاب شبه العسكرية من اليمين المتطرف، هم يعتقدون أن الجيش قادر على الإمساك بكل هذه الأطراف وضبطها، وإلى حد بعيد يمكن القول إن هذه الثقة في مكانها لحد اللحظة، فكل الحواجز على الطرق وكل نقاط الانتشار لهذه المجموعات تلتزم تماماً بتعليمات الجيش. وفي نقاط التفتيش عمدت الشرطة بعد أيام من بدء الحرب إلى نشر عنصرين على كل نقطة لمراقبة العناصر المتطوعة وتوجيهها، ويضع العناصر الأكثر احترافاً في أماكن القتال دون السماح بانتشار الفوضى في نقاط وجوده أو وجود قوات مسلحة.