زادت القوات الروسية من اعتمادها على تكتيك القصف قبل الهجمات، بعد أن استعصى عليها كسر المقاومة الأوكرانية في الأيام الأولى من الحرب.
ومع استمرارها قصف المناطق السكنية، التي تقول إنها تضم مقاتلين أو مخازن أسلحة، حاولت التقدم على عدة جبهات، أهمها جبهة ازيوم شرق خاركيف، وسومي في غربها، وهي بذلك تحاول تطويق المنطقة شمال شرقي البلاد وقطع خطوط الإمداد عن المدينتين، وبالتالي إسقاطها بأقل تكلفة ممكنة.
وتكبدت القوات الروسية خسائر عالية حتى الآن، بحسب تقارير وزارة الدفاع الأوكرانية. وتقول التقارير الغربية، وخاصة البريطانية، إن القوات الروسية لم تنجح حتى الآن في إحراز أي تقدم فعلي في هذه المناطق، وإن السيطرة على بعض المدن بما في ذلك العاصمة كييف قد تستغرق أسابيع، كما أن القوات الروسية لا تزال تحاول إعادة التجمع وتحسين خطوط الإمداد.
ولكن على الأرض، وكما كل ليلة، فإن خاركيف، وخاصة مناطقها الشرقية والشمالية منها، تنام وتصحو على صوت الانفجارات والصواريخ، وتبادل إطلاق النار بين الجيشين الروسي والأوكراني. يعيش في المدينة حوالي نصف مليون شخص، والمساعدات الطبية والغذائية الحكومية باتت غير كافية لهذا العدد من الناس. في مستشفى الأطفال في شارع فليكا بنسيلفسكا قرب وسط المدينة تقول سفيتلانا، مديرة العيادة، إن كل شيء مؤمن، وإن العيادة توفر الخدمات كافة للأطفال في منطقتها، ويمكن مشاهدة أكداس من الصناديق والأكياس التي تحوي مساعدات لم يتم فرزها بعد. ولكن مناطق أخرى فإن المساعدات غير كافية، فشرق ناحية موسكوفسكي، قرب شارع أموسوفا يتجمع المئات أمام المحال التجارية والصيدليات بانتظار دورهم للحصول على الطعام أو الأدوية. «هؤلاء هم من يتمكن من دفع ثمن الطعام»، يقول كيريل الذي يعمل في تأمين مساعدات عينية أيضاً. وغير بعيد عن المكان يقف مئات آخرين بانتظار الحصول على المساعدات الحكومية. «أحياناً ينتظر الناس لثلاث ساعات وحين يصل دورهم يكون المخزون قد نفد».
في نواحٍ أخرى من هذا الحي وقرب الطريق السريع تقف شاحنة بيضاء ويفتح شابان أبوابها ويخرجان أقفاصاً مملوءة بالخبز الطازج. يمر السكان ويأخذ كل منهم قدر ما يريد، رغيفان، ثلاثة أرغفة، ويتابعون سيرهم، هذه الشاحنات تخرج من المصنع مباشرة إلى الأحياء السكنية، وتواصل التوزيع طالما أن المناطق آمنة.
الأمن نسبي هنا، وعلى بعد كيلومتر واحد عن المكان، ضربت المدفعية الروسية وخلال عملية توزيع الخبز، مدرسة، لكن لم تسفر الضربة عن إصابات، بحسب المعلومات الأولية، ولكن الكثير من سكان الحي يتابعون حياتهم كالعادة منذ أول أيام الحرب: العمل على تأمين الطعام والشراب، والحصول على الأدوية، واستكشاف الخسائر في المنطقة المحيطة نتيجة القصف الليلي.
تجلس تاتيانا (86 عاماً) في الشمس على مقعد خشبي غير عابئة بأصوات القصف، تقرأ من كتابها، وتبتسم حين تحادثها، هي ممن يطلق عليهم هنا أبناء الحرب (العالمية الثانية). وفي المجمع السكني 624 يعزف فيتالي على الناي، وعلى الرغم أن أغلب السكان هجروا المباني الآن فإن فيتالي يعتقد أنه يرفع من معنويات السكان الباقين بعزفه، ويقول: «أعزف للباقين هنا وللراحلين لكي يعودوا».
في ملجأ أحد المباني تحاول نتاشا (35 عاماً) ترتيب أثاث مكان نومها الجديد، فراش بسيط وطاولة صغيرة. باتت تنام هنا مع طفليها وشقيقها أندريا بعد أن تحول الليل بالنسبة لها إلى كابوس، وهي تخاف على طفليها.
ناتاشا تقول إن ليس لديها الماء الكافي للشرب، مياه الخدمة متوفرة، ولكنها لا تصلح للشرب، ومن أجل الحصول على مياه الشرب عليك أن تمشي لساعات، الطعام شبه مؤمن، ولكن هناك دائماً صعوبة في تأمين طعام الأطفال.
حال ناتاشا يتكرر في المجمع السكني الضخم، أطفال يلعبون في الساحات، ثم يعودون في المساء للنوم في الملاجئ عندما يبدأ القصف الروسي ومنع التجول عند السادسة مساء. وإن كانت الكهرباء مؤمنة حالياً فإنها انقطعت عدة مرات بفعل القصف الروسي، وفي المرة الأولى بعد أيام من بداية الحرب، استمر الانقطاع لمدة أسبوع، بينما في مناطق أبعد قليلاً إلى الشرق فإن الكهرباء منقطعة باستمرار نظراً لقربها من دائرة الاشتباك، ولا يخاطر عمال الصيانة بالذهاب إليها لإصلاحها، لقربها من مناطق تحت سيطرة القوات الروسية.
انقطاع الكهرباء أبعد العديد من السكان عن منازلهم في البنايات العالية، التي يصل طولها إلى 16 طابقاً ويصعب الصعود إليها، خاصة أن الجزء الأكبر من السكان الباقين هم من كبار السن، ولكن زانادا (89 عاماً) هجرت كلياً منزلها، وباتت تعيش في مدخل المبنى، في غرفة كانت مخصصة لعامل استقبال، حولها ابنها فوسولدوف إلى غرفة سكن لها استقرت بها منذ ثلاثة أسابيع إلى اليوم.
يقول فوسولدوف إن والدته لم تعد تتمكن من الصعود إلى المنزل والنزول منه، وإن السكن في الطابق 14 من المبنى ليس آمناً، وهو يؤمن لها كل ما تحتاجه هنا ويمضي يومه قربها إلى أن تنام. وحين تسأل لماذا لم يتركا المدينة نحو منطقة أخرى آمنة، يقول: «ولكن إلى أين نهرب؟ نحن ليس لدينا أقارب، ولا نملك المال لنرحل، ثم إن هذه مدينتنا ولم نحتل مدينة أناس آخرين حتى نترك ونرحل».
لم يستثن القصف الروسي المجمع السكني، فقد أصابه بعدة قذائف أطاح بجزء منه، وفي هذا المكان على عكس العديد من الأماكن الأخرى، فهذه الأحياء سكنية وللمدنيين فقط، وخالية من أي نشاط عسكري، ولهذا يبقى الهدف هو بث الرعب وتهجير السكان المدنيين وليس ضرب أهداف عسكرية.