مرّة أخرى تجد هوليوود لزاماً عليها إعادة تقديم شخصية مشهورة مستنبطة من صفحات الكوميكس. أفلام الكوميكس (أو «السوبر هيروز» كما يمكن تصنيفها) تنبع من تراث قديم لتقديم بطل خارق المواصفات يبطش بالأشرار ويساعد الأخيار والمجتمع ويعود في كل مرّة بحكاية يمارس فيها هذا الفعل. في كل مرّة هناك فيلم أفضل أو أسوأ من سابقه، يعتمد ذلك على قدرة المخرج لا على حسن التنفيذ فقط، بل على ثبات رؤيته وفرضها - ولو إلى حد - على الاستوديو.
في هذا النطاق، فإن أفلام شركة «ديزني» وشريكتها «مارڤل» في هذا المضمار، سادتها إرادة وتوجيهات الاستديو الذي كبّل معظم تلك الأفلام بتنميط متكرر وأسلوب سرد يعتقد أن التوقف عن اللهاث هو موت للفيلم.
«ذا باتمان»، كما ينجزه مات ريڤز يختلف. وجزء من اختلافه (جزء مهم فعلاً) هو أن شركة «وورنر» (التي تلتزم بإنتاج شركة DC التي كـ Marvel اشتغلت طويلاً على مجموعات أبطالها ورقياً قبل أن تبدأ الانتقال إلى الشاشة) منحت المخرج ما يكفي لبلورة رؤيته الخاصّة والتعامل مع شخصية باتمان في صورة جديدة تعنى بتحليلها والمجتمع الذي تعيش فيه.
لقطة من فيلم «باتمان»
- غوثام سيتي
إنها مدينة غوثام. هذه المدينة، في روايات DC خيالية، لكنها قد تكون أي مدينة أميركية ترتع فيها الجريمة وتحتاج إلى بطل يحررها. عادة ما تبدو رمزاً لمدينة نيويورك، لكنها قد تكون شيكاغو أو لوس أنجليس. مجرد استخدامها في سلسلة أفلام باتمان يحرر تلك الأفلام من الحاجة إلى ازدواجية المعايير فيما لو تم تحديدها. بكلمات أخرى، لو كانت نيويورك مثلاً لكان على نصف الفيلم أن يكون واقعياً ملتزماً بالأماكن والبيئة النيويوركية وكل ما تتألف منه، وفي ذلك تقليص لمدى قدرة الفيلم أن يكون خيالاً مطلقاً.
هناك، في الفيلم الجديد، قاتل مقنّع يرتكب جرائم متوالية، وأول جريمة يرتكبها هي قتل حاكم المدينة. في كل مرّة يترك لغزاً موجّهاً لباتمان (روبرت باتنسن) هو بمثابة تحدٍ لذكاء الرجل وقدراته. باتمان يحل كل لغز ليصطدم بالآخر وصولاً إلى معرفة القاتل (The Riddler) كما يؤديه بول دانو. على مسافة غير بعيدة منهما هناك مجرم آخر (قدمته أفلام باتمانية سابقة) هو «ذا بنغوين» (كولين فارل) ثم رئيس عصابة اسمه كارمن فالكوني (جون تورتورو). كل واحد من هؤلاء يحتل حيّزاً في مهام بطل الفيلم.
لكن الأمور، حسب سيناريو جيد في غالبه، ليست مجرد مناوشات وتحقيقات ومجابهات. بروس واين في حياته العادية (الذي يتحوّل إلى الرجل الوطواط لتنفيذ مهامه) يعاني من مسائل تتداعى من جديد. مسائل لها علاقة بحياته المزدوجة وبحقيقة أنه يكتشف أن ما يقوم به من بطولات لم يمنع، سابقاً، من انحدار المدينة إلى مرتع للجريمة. هذا يؤرقه لأنه مفتاح باب يطل منه على مسببات وجوده.
إلى ذلك، يذكّره مقتل الحاكم بمقتل والده. ومن ناحية ثالثة، يكتشف احتمال ألا يكون والده الشخص البريء من الفساد الذي يعم المدينة. هذا يقع عندما يكتشف واين/ باتمان وجود علاقة ما بين فالكوني وبين أبيه الراحل.
البوليس، كما يمثّله المحقق جيفري رايت لا يستطيع مجاراة باتمان لا في قوّته ولا في ذكائه. الحليف الوحيد هو كاتوومان (زاو كراڤيتز) التي تشترط ألا يتولّى باتمان قيادتها ولا سؤالها عن أساليب عملها.
في شخصيّتيه، كبروس واين وكباتمان، فإن هذا الرجل الممعن هنا في ذاته (أكثر من المعتاد في أفلام باتمان السابقة)، يعيش وضعاً من الكآبة. لجانب أنه يطرح على نفسه أسئلة شبه وجودية بات لا يثق بحلوله ولا بنجاح معاركه ضد الجريمة. نعم عليه أن يستمر، ليس هناك من طريق أخرى، لكنه ليس سوبرمان ولا سبايدر - مان ولا فلاش غوردون أو سواهم. كل واحد من هؤلاء يقفز فوق متاعبه الذاتية (إن وُجدت) مصرّاً على قهر العالم. باتمان بقدراته التي لا جدال فيها، يخضع أكثر منهم لمساءلة نفسه.
ليس فقط أن المخرج يضع له قوانينه هذه (شارك المخرج كتابة السيناريو مع بيتر كرايغ)، بل يمنحه البيئة البصرية والأجواء الفعلية التي تصاحبه. الدكانة جزء لا يتجزأ من شخصية البطل والمدينة والفيلم. هو، إلى حد بعيد، فيلم نوار بقدر ما هو فيلم سوبر هيرو.
مشهد من فيلم «غوثام سيتي»
- جذور
الأفلام الأخرى المماثلة لا تتمتع بهذا المنظور ولا بهذه المعالجة. هي بيضاء بقدر ما هذا الفيلم أسود. مشعّة بقدر ما هذا الفيلم مظلم، واستعراضية للقوّة بقدر ما القوّة هنا ليست الطرح الأول.
حتى بعض أفلام باتمان السابقة لا تتمتع بهذه الخصية التي يشارك بها هذا الفيلم ما قام به كريستوفر نولان عندما أخرج الأجزاء الثلاثة من «باتمانه» من دون أن يبلغ درجة فن نولان ومعالجته البديعة للحكايات التي أوردها.
بعد قيام بوب كاين وبل فينغر بنشر الحلقة الأولى من باتمان سنة 1939 في مجلة DC المنتمية، كسواها، لثقافة البالب فيكشن إنما المرسومة فيما عُرف ولا يزال يُعرف بمجلات الكوميكس. قامت هوليوود بنقل الشخصية إلى الشاشة العريضة لأول مرّة سنة 1943 في مسلسل فيلمي (حلقات من نحو 10 - 12 دقيقة كانت تعرض الواحدة منها قبل عرض الفيلم الأساسي كل أسبوع) بعنوان «باتمان» الذي أنتجته كولمبيا من إخراج لامبرت هيليَر. تبعه مسلسل آخر بعد ست سنوات بعنوان «باتمان وروبن» (حققه سبنسر غوردون بَنت).
أول فيلم من عرض واحد ورد سنة 1966 في «باتمان الفيلم» للسلي ماتنسون. هذا المخرج لم يكن بشهرة وقدرة كل من هيليَر وبَنت والفيلم لم يترك أثراً يُذكر. باتمان غاب عن السينما لخمسٍ وعشرين سنة قبل عودته في فيلم جيد (اكتفى باسم «باتمان») من إخراج تيم بورتن وبطولة مايكل كيتُن، والاثنان أنجزا الفيلم التالي، «باتمان يعود» سنة 1992.
تسلم المخرج جووَل شوماكر المهمّة في «باتمان للأبد» (بطولة ڤال كيلمر) و«باتمان وروبن» (بطولة جورج كلوني) ما بين 1995 و1997، والفيلمان كانا من أسوأ ما تم تحقيقه تحت غطاء هذه الشخصية. وبل أدى إلى انحسار الشخصية مجدداً حتى رفعها من جديد كريستوفر نولان في ثلاثيته «باتمان يبدأ» (2005) و«الفارس المعتم» (2008) و«الفارس المعتم يرتفع» (2017).
خلال الفترة حاولت وورنر توسيع رقعة هذه الشخصية بإدخال عناصر أخرى في ستة أفلام، أولها «باتمان ضد سوبرمان: فجر العدالة» (زاك سنايدر، 2016) وآخرها «جوكر» (تود فيليبس، 2019).
إذ لا يتساوى «باتمان» الجديد مع ثلاثية نولان، على صعيد فني بحت، إلا أنه أفضل من معظم ما تم تحقيقه في هذه السلسلة.
المشكلة الرئيسية هنا هي أن الدكانة التي يلعب «باتمان» الجديد عليها تأخذنا، حيث لا نريد دوماً أن نذهب. تأخذنا إلى حيث توفر لوناً قاتماً جدّاً على العين والأنفاس. إنه كما لو أن شرور المدينة وأشرارها ووضع الحياة البائس عليه أن يستخدم كل مشهد لتأكيده. نعم، هو فيلم نوار مناسب لشخصية بطله «النوارية» أيضاً، لكن الكثير منه يؤدي إلى تقليل أثره من حين إلى آخر.
من حسن الحظ أن هذه المشكلة تبقى محصورة في خانة واحدة لا تمنع من استشفاف حسنات الفيلم الأخرى. فإلى جانب إدخال الصورة كعنصر ربط بين الشخصية وعالمها وبين المدينة وما آلت إليه، هناك حقيقة أن هذه المدينة تعبّر، في الفيلم، عن أميركا المضطربة. يستعير الفيلم، على سبيل المثال، ما قام به مؤخراً بضعة رجال بيض من اعتداء على آسيوي بعدما تناهى لهم أن الصين هي التي أصدرت وباء كورونا. هنا مشهد موازٍ يذكّر بالحادثة كدليل على وضع فعلي حاصل.
بتصوير الفيلم مدينة غوثام على هذه الحالة من العنف والفساد (الذي يبلغ في الفيلم مستويات عليا في النظام) فإن المٌشاهد يدرك تماماً بأن مات ريڤز إنما يقصد هذا التماثل لذاته. هو يدفع بباتمان الجديد صوب المنهج ذاته الذي أقدم عليه نولان في ثلاثيته: المتعة لم تكن أنك أمام فيلم خيالي جانح عن بطولة معصومة عن الخطأ، بل هي في توجيه العمل وبطله وجمهوره، إلى طريق مسدودة لا يسمح بتمرير الترفيه المجاني بل يقرنه بالرسالة المتوخاة في طيّاته.
- مهارات
280 مليون دولار في أقل من أسبوع على شكل إيرادات عالمية تُفيد بأن الجمهور موافق على المضمون والمنهج. وما يجعله كذلك، هذا الإحساس بعالم مضطرب يبحث عن طوق نجاة.
في طيّات هذا النجاح هناك روبرت باتنسن في دور باتمان لأول مرّة، وما قاله لهذا الناقد قبل أسابيع قليلة واصفاً شخصيته بالجديدة والمفكّرة في متاعبها نراه واضحاً هنا كل الوضوح. يمنح الممثل الشخصية ما تحتاج إليه من الألم الدفين.
هذا بطل في مأزق يداويه بالمضي فيه. لا يضحك. ليس لديه شعور بالمتعة. لا ترفيه. لا غراميات (هناك هنّات جنسية بينه وبين كاتوومان) لا راحة. لكن المهارة هي كيف جعل باتنسن هذا المأزق فرصة للخروج من المتوقع والمعتاد. ومهارة الفيلم هي في كيف جعل باتمان مختلفاً عن ذويه أو أعاد إليه، بالأحرى، ذلك الاختلاف بعد هرائيات زاك سنايدر وجويل شوماكر وبعض الآخرين.
تلك فشلت تجارياً أو فنياً (أو تجارياً وفنياً معاً) لأنها أرادت تشجيع المشاهدين على قبول باتمان يشبه سوبرمان أو آيرون مان. فعل يخون الشخصية الأصلية بقدر ما تعود إليها وتجسدها جيدا أفلام نولان وهذا الفيلم الجديد.