طرقان يستعيد ذكريات الطفولة في ختام «دندرة الموسيقي» بمصر

الفنان طارق طرقان خلال حفل ختام «مهرجان دندرة الموسيقي»
الفنان طارق طرقان خلال حفل ختام «مهرجان دندرة الموسيقي»
TT

طرقان يستعيد ذكريات الطفولة في ختام «دندرة الموسيقي» بمصر

الفنان طارق طرقان خلال حفل ختام «مهرجان دندرة الموسيقي»
الفنان طارق طرقان خلال حفل ختام «مهرجان دندرة الموسيقي»

أعاد الفنان طارق العربي طرقان، وأبناؤه، ذكريات الطفولة إلى جمهور صعيد مصر، خلال حفل ختام الدورة الثانية لمهرجان دندرة للموسيقى والغناء، الذي أحياه مساء أول من أمس، وسط حضور جماهيري لافت بمحافظة قنا (جنوب مصر).
وقدم طرقان مجموعة من المؤلفات الخاصة بتترات أعمال الرسوم المتحركة الشهيرة، التي لا تزال باقية في أذهان الكبار، على غرار «سيمبا، مدينة النخيل، سلاحف النينجا، سابق ولاحق، بات مان، ريمي، صقور الأرض، هزيم الرعد، كونان، وباص المدرسة»، وغيرها.
وتستحوذ تلك الأعمال على شهرة واسعة في كافة أنحاء العالم العربي، لا سيما أن الكثير منها عرض في العقدين الأخيرين من القرن الماضي، على القنوات الأرضية، التي كانت قليلة العدد نسبياً، قبل التوسع في الاعتماد على القنوات الفضائية في مطلع الألفية الجديدة.
مهرجان دندرة، الذي استمر على مدار 3 ليالٍ، حضره 20 ألف مشاهد، حسب وزيرة الثقافة المصرية الدكتورة إيناس عبد الدايم، التي أضافت خلال كلمتها بحفل الختام «إن الفعاليات أثبتت قدرة الفنون الجادة على اجتذاب الجمهور، وإعادة تشكيل الوعي والارتقاء بالوجدان».
وأشارت إلى «أهمية خروج العملية الإبداعية إلى أماكن مفتوحة، مما يساهم في وصول المنتج الفني والثقافي إلى أبناء الوطن»، مؤكدة استمرار التعاون بين مؤسسات الدولة لتنظيم المزيد من الفعاليات والأنشطة بالمواقع السياحية والتاريخية.


 جانب من حضور الحفل (وزارة الثقافة المصرية)

وشهدت الدورة الثانية من مهرجان دندرة للموسيقى والغناء، تقديم 3 حفلات، الأولى أحياها هاني شاكر، والثانية قدمتها ريهام عبد الحكيم ونجما الأوبرا ياسر سليمان وإيمان عبد الغني، فيما أسدل الفنان طارق العربي وأبناؤه الستار على الدورة الثانية.
المهرجان الذي تم تأجيله العام الماضي بسبب وباء «كورونا»، يهدف إلى نقل مختلف أشكال الفنون التي تقدم في القاهرة، إلى جمهور الصعيد، في إطار توجه وزارة الثقافة المصرية خلال السنوات الأخيرة، إلى تحقيق العدالة الثقافية في ربوع مصر.
وشهد المهرجان في دورته الثانية معدل الإقبال الجماهيري بدورته الأولى، فقد شهد حضور نحو 20 ألف مشاهد، على مدار 3 ليالٍ فقط، بينما حضره 40 ألف مشاهد في دورته الأولى، وتابعوا 10 حفلات تم تنظيمها في معبد دندرة وجامعة الوادي الجديد وقصر ثقافة قنا، خلال 6 ليال حافلة، وهو ما اعتبرته وزيرة الثقافة المصرية وقتئذ «أمراً فاق كل التوقعات».
وشارك في الدورة الأولى من المهرجان مطربون بارزون وفرق غنائية مصرية شهيرة، على غرار «فريق بلاك تيما»، والفنان مدحت صالح بمصاحبة عازف البيانو عمرو سليم، وفريق «وسط البلد»، وعلي الحجار، وعازفة الماريمبا نسمة عبد العزيز، ودينا الوديدي، وهشام عباس، وفريق «مسار إجباري»، و«فرقة الأقصر للفنون الشعبية»، واختتمته المطربة مي فاروق.
وفي شهر نوفمبر (تشرين الثاني) من العام الماضي، استضاف موسم الرياض، الفنان طرقان، الذي لطالما ارتبطت أعماله بمرحلة الطفولة والشباب، ضمن ملتقى جمع سبعة أجيال، بداية من ستينات القرن الماضي، وحتى الحاضر.
وطرقان مُلحن ومغنٍ ومؤلف لأغاني الأطفال، جزائري الجنسية، سوري المولد عام 1959 حصل على شهادة في الفنون الجميلة في قسم النحت، متزوج، وله من بنتان وولد (ديما، تالا، محمد) ورثوا عنه صوته المميز، ومن أبرز أعماله «صقور الأرض، فرسان الفضاء، الماسة الزرقاء، موكا موكا، سونك، يا طيبة، سلاحف النينجا، أمي تلون عمري، ساندوكان، وديلي سلامي، ماشي بنور الله، في جعبتي حكاية، الله يا مولانا، أغاني فله، الآن سنبدأ، لا تبالي، كونان، سنوبي، المحترفون، هزيم الرعد، أناشيد دينية، أصحابي مسرورون، في كل حركة بسم الله، نور في الأجواء تألق، السباق الكبير، باص المدرسة العجيب، الحديقة السرية، بينكي وبرين، مغامرات حنين، أكاديمية الشرطة، الرمية الملتهبة، الضربة الصاعقة، زورو، دراغون بوستر، بيدا بول، باتمان، ثابت، الكابتن ماجد، أبطال الديجيتال، الصياد الصغير، الماسة الزرقاء، أنا وأخي».



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)