فيليب تيناري: «بينالي الدرعية» يعكس اللحظات التاريخية للتحوّل في السعودية

القيّم الفني للمعرض قال لـ «الشرق الأوسط» إن الروحانية كانت من أولى الأشياء التي أحس بها خلال زيارته الأولى للمملكة

بينالي الدرعية للفن المعاصر لا يزال يستقطب الزوار (الشرق الأوسط)
بينالي الدرعية للفن المعاصر لا يزال يستقطب الزوار (الشرق الأوسط)
TT

فيليب تيناري: «بينالي الدرعية» يعكس اللحظات التاريخية للتحوّل في السعودية

بينالي الدرعية للفن المعاصر لا يزال يستقطب الزوار (الشرق الأوسط)
بينالي الدرعية للفن المعاصر لا يزال يستقطب الزوار (الشرق الأوسط)

تنتهي في 11 من الشهر الحالي فعاليات أول بينالي للفن المعاصر في السعودية، وهو بينالي الدرعية، الذي شارك فيه نحو 64 فناناً من أنحاء العالم.
عبر أشهر، شهدت قاعات العرض في البينالي تدفق الزوار من داخل وخارج المملكة، وبدا لافتاً أن الإقبال لم يخفت بعد أشهر من افتتاحه، فمساحات العرض ما زالت تتلقى الزوار على مدار اليوم، وأيضاً قاعات ورش الأعمال والحوارات والمناقشات التي جذبت ولا تزال تجذب كثيرين على مدى الأسبوع.

فيليب تيناري...  القيّم الفني للبينالي

بشكل شخصي، كانت زيارة البينالي تجربة ممتعة بكل المقاييس. أطلقت رحلتي في فنون المملكة والعالم من القاعة الأولى، حيث تعرض لوحتان ضخمتان تستوليان على اهتمام الزائر للوهلة الأولى. البداية على اليمين مع اللوحة الضخمة للفنانة السعودية مها الملوح، وهي من سلسلة «غذاء للفكر»، وتُقدم عبر استخدام أشرطة الكاسيت القديمة وصواني الخبز الخشبية تعليقاً بصرياً على الوباء الذي اجتاح العالم وجمع بين دوله في إطار واحد، تماماً مثل ما فعلت الفنانة بأشرطتها. على الجانب الآخر من لوحة الملوح، نرى عملاً آخر، لا يقل حجماً أو إبداعاً، وهو للفنان ريتشارد لونغ، ويحمل عنوان «دائرة الأرض الحمراء». يمثل العملان مقدمة قوية ولافتة لبقية العرض الذي يجذبنا للتجول والتأمل والاستمتاع.

من أعمال لولوة الحمود

«تتبع الحجارة» وتتبع التحول الثقافي

يحمل البينالي عنوان «تتبع الحجارة» وهي جملة مقتبسة من القول الصيني «عبور النهر من خلال تتبع الحجارة»، التي اشتهرت في أوائل الثمانينات في الصين، وقد استخدمت العبارة تعبيراً عن النشاط الثقافي والتطور الاجتماعي في الصين، وبشكل من الأشكال تنتقل المقولة اليوم لتعبر عن النشاط الثقافي والتغييرات التي تشهدها المملكة هذه الأيام. وربما أدى هذا التشابه أيضاً إلى وجود عدد كبير من أعمال لفنانين صينيين في البينالي، وهو سؤال أطرحه على المنسق الفني للبينالي، فيليب تيناري، أثناء حوار خاص بـ«الشرق الأوسط» معه.

 «بين بحار الصحراء» لأيمن زيداني

أطلق حواري مع تيناري بالسؤال عن المقاربة بين الأعمال الفنية السعودية والصينية، والفكرة التي دفعته لطرح هذا المفهوم. يعود بنا في إجابته للمرة الأولى التي زار فيها السعودية، وكان ذلك عام 2019 قبل الجائحة: «راودني ذلك الشعور الطاغي بأن المملكة تخوض غمرة التغيير الاجتماعي الشامل.


 «ولادة مكان» لزهرة الغامدي

لقد عملت وعشت معظم حياتي في بكين، ولكوني من خارج الصين كان عليّ أن أدرس وأتعلم، وكان معظم النقاشات التي خضتها هناك يدور حول التحولات المجتمعية في فترة السبعينات والثمانينات من القرن الماضي وصولاً للتسعينات». يشير إلى أن النقاشات والتأملات كانت وراء إقامته لمعرض فني في متحف غوغنهايم حول الفن الصيني في عام 2017 وكان يركز على التحولات الثقافية هناك. وكان من الطبيعي أن تكون المقارنة مع فترة التغييرات الاجتماعية والثقافية في السعودية ماثلة في ذهن تيناري، لكنه يعترف أنها مقارنة غير «مكتملة»، فهناك فارق زمني (40 عاماً) واختلاف كبير جداً في المجتمع والثقافة بين البلدين، وإن كان يجد أن هناك تشاركاً في الحماسة والإثارة التي تصاحب لحظات الانفتاح والتحول، وهي مهمة جداً للفنانين، «فهي لها القدرة على دفع أجيال من الفنانين مثلما حدث في الصين أو في الولايات المتحدة الأميركية بعد الحرب العالمية الثانية». وبشكل مقرب، يرى مثالاً لتلك التحولات في معرض «ديزرت إكس بالعلا». ويضيف: «نستطيع رؤية تطور هذا الجيل من الفنانين السعوديين، واكتسابه الصلابة يوماً بعد يوم».

 «شد الرحال» لسلطان بن فهد

يشير إلى أن عدد الفنانين الصينيين في البينالي هو عدد صغير نسبياً (12 فناناً) مقارنة بالعدد الكامل للفنانين المشاركين، وهو 64، ويستطرد قائلاً: «أعتقد أن ذلك أمر طبيعي، فأنا على علم وألفة بالمشهد الفني والفنانين الذين عملت معهم عبر السنين، ولكن أيضاً هناك مقارنة غير مباشرة وغير كاملة، ولكني أعتقد أنها بناءة نوعاً ما».


 «تسع وتسعون» لعمر عبد الجواد

وفي إطار الفهم المشترك للمتغيرات التي أثّرت على أجيال الفنانين في الصين في القرن الماضي، والآن في السعودية، ما الذي يراه تيناري فيما يقدمه فنانو السعودية؟ يجيبني: «ما يجذبني للفن السعودي هو الكوزموبوليتانية، فكثير من الفنانين هنا عاشوا وعملوا لفترات خارج بلادهم، وأغلبهم يتفاعلون مع التيارات والنقاشات العالمية أثناء حدوثها. أعتقد أيضاً أنهم منخرطون في قضايا هامة، مثل المناخ والبيئة، وهو أمر نرى مثلاً له في عمل الفنان أيمن زيداني في البينالي، أو عمل الفنانة مروة المقيط، الذي يتعامل مع مسألة الجندرية. أرى أنها أعمال وقتية تعرض في نفس الوقت الذي يشهد تطورات تلك القضايا في العالم. في السعودية يجد الفنانون أنفسهم في مكان يمكنهم من الدخول في نقاشات ضخمة، ولكنهم يفعلون ذلك بطريقتهم الخاصة».


«لا مزيد من السلبية» لشادية عالم

البداية من العالم

يرى تيناري في عمل مها الملوح نقطة مناسبة للغاية لإطلاق الحوار الفني التي ينطلق أمامنا في صالات البينالي، ويعلق: «هنا أكثر من عامل، فهي أولاً تعتبر من الفنانين الرواد بالنسبة لهذا الجيل، بدت لي كعامل مؤثر لا بد من وجوده في العرض، وكان مناسباً جداً أن يأتي عملها في البداية، تعجبني فكرة العمل الذي يقدم رؤية للعالم، مستخدماً مواد محلية للغاية. هذا التعامل مع العولمة والفرص التي تقدمها، إضافة إلى مخاطرها، هو اتجاه، فكّر فيه الفنانون في العالم منذ التسعينات، منذ أن نفّذ الفنان ريتشارد لونغ العمل المجاور لعمل مها. بالنسبة لي أحسست أننا لا نزال نعيش في تلك المحادثة التي بدأت بعد نهاية الحرب الباردة وبداية العولمة».

زائران أمام عمل للفنان مهدي الجريبي

وضع تيناري العملان على قدم المساواة من حيث الحجم والعرض، ويتحدث عن عمل الملوح قائلاً إن العنصر المحلي «خاطبني بشكل خاص، بالنسبة لي عمل الملوح يشبه أعمال الفنان الصيني آي وي وي الأولى، هي مهتمة بكيان الأشياء التي كانت يوماً ذائعة الانتشار وأصبحت الآن تذكارات للحظات مضت، ليس فقط من حيث مضمون الشرائط الكاسيت الذي تغير، بل أيضاً لكون الشرائط نفسها أصبحت غير مستخدمة».

تواصل أجيال

في القاعة الأولى من البينالي تلفتني أعمال من مقتنيات مؤسسة المنصورية، وتبدو كعرض خاص داخل البينالي، يضم العرض أعمالاً رائدة لفنانين، مثل منيرة موصلي، ومهدي الجريبي، وفيصل سمرة، وشادية عالم. بالنسبة لتيناري يمثل هذا الجانب من العرض فصلاً من تاريخ الفن السعودي لا يمكن تجاهله، ويرى فيها تصويراً لتطور الفن المعاصر.
أسأله إن كان العرض الذي يضم أعمالاً لفنانين رواد، أمثال محمد السليم، وفهد الحجيلان، وعبد الله حماس، ربما يمكن رؤيته كحلقة وصل مع الأجيال الأحدث، التي تعرض أعمالها هنا، يجيب: «نعم، رأيت مثل هذا القسم في عدد من البيناليات الدولية؛ حيث توجد وقفة فنية ذات طابع خاص، مثل العرض الصغير داخل عرض أكبر».


 «قصة مرجعية... جداول وجبال لا تنتهي» لزو بينغ

البيئة هاجس فني

من المواضيع القوية في أعمال البينالي كان موضوع البيئة والمناخ حيث تعاملت أعمال كثيرة مع القضايا التي تؤثر على الحياة على الأرض، وكان لها جانب آخر، وهو تأملات على هامش الوباء، تضافرت بشكل ما مع الموضوعات المناخية. يؤكد على ذلك ويقول ضارباً المثل: «هناك عمل للفنان تيمور سي كين عن فيروس كورونا المستجد يتحدث عن أن الوباء كان بمثابة لقاح للبشرية ضد نوازعها التدميرية». تتشارك الأعمال في هذا القسم في التركيز على «الهم المشترك للعالم والأمل في عالم آخذ في التشكل الآن». في عمل جون جيرارد «أوراق الشجر» نرى شخصاً ما يرتدي غطاء من أوراق الشجر ينوح على حال الكوكب، أما في عمل الفنان المبدع أيمن زيداني «بين بحار الصحراء» الذي يسمرنا في أماكننا، فنسمع أصوات الحيتان العربية المعرضة للخطر. يؤكد تيناري على أن هذه الأعمال ليست مقحمة، وإنما تحاول الإجابة على تساؤلات كثيرة، «هي تعبر عن رؤية للفنانين مع اقترابنا من الربع الأول من القرن الثاني والعشرين، مع تطور تلك القضايا لتصبح أسئلة ملحة ومن المستحيل تجاهلها».

الأعمال الملحمية

الملاحظ في البينالي هو أن عدداً كبيراً من الأعمال تتميز بالحجم «الملحمي» الضخم جداً، مثل عمل الفنانة دانة عورتاني «الوقوف على أطلال حلب» وعمل الفنان الصيني زو بينغ «قصة مرجعية... جداول وجبال لا تنتهي»، وأيضاً عمل الفنانة زهرة الغامدي «ولادة مكان». تتميز الأعمال خاصة عمل عورتاني وزو بينغ بالعمل اليدوي الذي يجمع عناصر مختلفة سوياً لتكوين صورة ضخمة متعددة المعاني، في حالة عمل عورتاني نجد قطع الأرضية المتميزة بالتشكيلات الهندسية الإسلامية، التي تكسر بعضها عمداً لنقل صورة من المسجد الأموي والتدمير الذي طاله على يد متشددين. أما عمل زو بينغ فله جانبان، أحدهما منمق، يصور الجبال والأشجار ومياه النهر المنسابة، أما من الخلف فنجد كل التفاصيل الدقيقة لعمل الفنان من قطع القطن إلى شريط لاصق يثبت به العناصر المختلفة في عمله. يبدو الجانبان مكمل بعضهما بعضاً، هنا نرى الظاهر والباطن، المادية والروحانية. في عمومه العمل ممتع جداً بكل تفاصيله ما ظهر منه وما لم يظهر. «ولادة مكان» لزهرة الغامدي لا يقل ضخامة أو اتساعاً عن عمل عورتاني، يعبر عن «رحلة الاضمحلال والعودة للحياة، وتحديداً جهود المملكة لإحياء الفنون المعمارية»، بحسب ما تصف الفنانة عملها في تغريدة على موقع «تويتر».
بالنسبة لتيناري الأحجام الضخمة للأعمال المعروضة جاءت مناسبة للمساحات الشاسعة المتوافرة، «قمنا بتنسيق المعروضات بدون معرفة ما ستكون عليه مساحة المستودعات الضخمة في حي جاكس (التي تم تحويلها لتصبح قاعات عرض البينالي)» ولكنه وجد أن المساحات الشاسعة «أظهرت للجمهور الأشكال المختلفة التي يمكن للفن أن يأخذها، فهو أكثر من مجرد لوحات مرسومة أو منحوتات، فالأعمال يمكن أن تكون (غامرة) أيضاً».

الجانب الروحي للعرض

«فيما يخص الروح» هو عنوان أحد أقسام العرض، هنا تتجلى الروحانية والتجليات، وبحسب دليل العرض، فذلك أمر طبيعي في «أمة عامرة بالأماكن المقدسة» حيث تتجلى العلاقة بين الفن والأسئلة المرتبطة بالوجود الإنساني بطرق جديدة وقوية؛ حيث يستلهم بعض الفنانين من الموروثات الدينية. في هذا القسم تعرض مجموعة من أجمل ما أبدع الفنانون السعوديون، مثل عمل الفنان سلطان بن فهد «شد الرحال» الذي يتمتع بجماليات بصرية عالية جداً، وبدفقة روحانية تنبع من الأماكن المقدسة المصورة هنا، ومن الضوء الغامر الذي يلف مساحة العرض بعد ممر خافت الضوء. هناك أيضاً عمل لا يمكن وصفه سوى بالبديع جداً للفنانة المتميزة دائماً لولوة الحمود، المعنون «لغة الوجود»، وهو أيضاً عرض ضوئي باللون الأزرق في الغالب يجسد الأشكال الهندسية من أعمال الحمود، ويحولها لكائن حي متغير عبر الصوت والضوء، أيضاً العمل هنا غامر وروحاني يغري الزائر بالجلوس أمامه لفترات طويلة. ولا بد هنا من ذكر عمل الفنان عمر عبد الجواد المعنون «تسع وتسعون» الذي يعبر عبر مسار واحد مصنوع من صفائح الأكريليك المضيئة على وحدة المصير، على الرغم من تنوع الخلفيات ووجهات النظر.
يقول تيناري إن الروحانية المستقرة في كيان الأشياء كانت من أولى الأشياء التي أحس بها خلال زياراته الأولى للمملكة: «كنت متأثراً بالجانب الكبير الذي تمثله الروحانية في حياة الناس هنا، وتتجلى بشكل طبيعي وعميق، كان جانباً لا بد من تناوله في العرض، عبر التأكيد على هذا العنصر وتوضيحه وجدت أن هذا القسم هو أفضل مكان لختام العرض، ربما يمكننا رؤية ذلك بشكل ما على أنه نقطة وصل أو جسر يصل بنا لبينالي الفن الإسلامي الذي سيقام في نهاية العام بمدينة جدة».

تأملات نهائية

ما هو إحساس تيناري بالتجربة بعد الوصول للنهاية؟ يقول: «أشعر أنه كان أمراً إيجابياً للغاية بالنسبة لي ولأناس كثيرين غيري، سواء أكانوا من الزوار أم من الفنانين المشاركين من الداخل والخارج، أن نكون جزءاً من نقطة حاسمة بشكل من الأشكال».



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)