«أسوان لأفلام المرأة» يعزز وجوده السينمائي محلياً وعربياً

انطلاق دورته السادسة بمشاركة «قوارير» السعودي

تكريم المخرجة المصرية إنعام محمد علي (إدارة مهرجان أسوان السينمائي)
تكريم المخرجة المصرية إنعام محمد علي (إدارة مهرجان أسوان السينمائي)
TT

«أسوان لأفلام المرأة» يعزز وجوده السينمائي محلياً وعربياً

تكريم المخرجة المصرية إنعام محمد علي (إدارة مهرجان أسوان السينمائي)
تكريم المخرجة المصرية إنعام محمد علي (إدارة مهرجان أسوان السينمائي)

تشهد الدورة السادسة لمهرجان أسوان السينمائي لأفلام المرأة، التي انطلقت مساء أول من أمس في مدينة أسوان (جنوب مصر)، وتستمر حتى 28 فبراير (شباط) الجاري، انطلاقة مهمة، يبدو فيها المهرجان قد حوّل أحلامه إلى حقيقة بعد مرور 6 سنوات على تأسيسه، حيث استحدث مسابقات وفعاليات جديدة، معتمداً على فريق جديد من البرمجة يضم 4 مبرمجات بإشراف الناقد أحمد شوقي، المستشار الفني للمهرجان.
وعلى هامش الدورة السادسة، ينظم المهرجان سمبوزيوم «المرأة والحياة» بمشاركة 20 فنانة تشكيلية من عدة دول عربية. كما يقدم منحة لإنتاج الفيلم القصير (روائي أو تسجيلي) بشرط أن يتناول قضية من قضايا المرأة، أو شخصية نسوية مؤثرة، أو يمثل إبداع النساء، وتجمع المنحة بين الدعم المالي واللوجستي للأفلام، كما أطلق «مدرسة الكادر» تتويجاً لمشروعه التدريبي الذي بدأه مع هيئة «بلان إنترناشيونال إيجيبت»، بهدف التوسع في تدريب الفتيات بمدن جنوب الوادي على إنجاز الأفلام، ويستهدف المشروع تدريب نحو 50 فتاة على إنتاج الفيلم القصير بأنواعه، كما استحدثت إدارة المهرجان مسابقة جديدة بعنوان «أفلام ذات أثر في المجتمع المدني» ضمن أقسام دورته السادسة بمشاركة ثمانية أفلام تنطلق من قاعدة اجتماعية.
واستقبلت مدينة أسوان، ضيوف المهرجان من نجوم وصناع السينما بجانب باحثات وناشطات في قضايا المرأة وفنانات تشكيليات وكتاب ونقاد يشاركون بالدورة الجديدة للمهرجان، التي تشهد مشاركة عدد من الدول، من بينها تونس والسعودية والولايات المتحدة الأميركية والمغرب وإسبانيا ورومانيا وروسيا ولبنان وكندا وفلسطين وجنوب أفريقيا.

- تكريمات
وشهد حفل الافتتاح تكريم 4 شخصيات نسائية، من بينهن النجمة الفرنسية مارلين كانتو تقديراً لمشوارها السينمائي الطويل الذي قدمت خلاله عدداً كبيراً من الأفلام، ونالت عن بعضها جوائز مهمة أبرزها جائزة «سيزار» لأفضل فيلم قصير عام 2007، وعبرت كانتو عن سعادتها بالوجود في مصر وحفاوة أهل أسوان.
من جانبها، أعربت النجمة المصرية سوسن بدر عن سعادتها بتكريمها، ومنحها جائزة «إيزيس» للإنجاز، وأهدت تكريمها، إلى روح الفنان الراحل نور الشريف، وإلى المخرجة إنعام محمد علي التي ساندتها في بدايتها الفنية ومنحتها أكثر من فرصة فنية.
فيما قالت إنعام محمد علي، التي كرّمها المهرجان أيضاً خلال حفل الافتتاح تقديراً لمشوارها الإبداعي: «قضيت أكثر من 50 سنة أعمل من أجل حقوق المرأة، لإيماني بأنّه لن يتقدم المجتمع إلا إذا تقدمت المرأة به، وأنّ صعودها هو صعود للمجتمع»، مشيدة بدور المهرجان في نشر ثقافة السينما. كما منح المهرجان جائزة «نوت» للإنجاز في مجال قضايا المرأة، للناشطة الصومالية هيباق عثمان، التي وصفها بـ«أنّها واحدة من أهم المدافعات عن حقوق المرأة في العالم».
بدوره، قال الناقد الفني، حسن أبو العلا، مدير مهرجان أسوان، في كلمته: «جئنا إلى هنا قبل ست سنوات، ونحن نحلم بدفع الحالة السينمائية في محافظة أسوان العريقة للأمام، وقد أدركنا منذ البداية أنّ للمهرجان دوراً اجتماعياً عليه أن يؤديه، وعلينا أن نسهم في منح جيل جديد من الموهوبين الفرصة للتعبير عن أنفسهم، واليوم أبشركم بأن الحلم قد تحقق بفضل جهود كبيرة».
فيما ذكر رئيس المهرجان محمد عبد الخالق أنّ «السينما المصرية بدأت بفضل بعض السيدات الرائدات، ولا يزال لصانعات الأفلام حضور مهم بالساحة»، مشيراً إلى أنّ «المهرجانات ليست حفلات كما يعتقد البعض، بل تهتم بقضايا السينما ودعمها».

- عروض حصرية
وتشهد الدورة السادسة للمهرجان مشاركة 12 فيلماً طويلاً، تنتمي لـ18 دولة، بجانب 24 فيلماً قصيراً تدور جميعها في فلك المرأة وقضاياها، ومن بين عروض مسابقة الأفلام الروائية الطويلة الفيلم السعودي «قوارير»، وهو من إخراج 5 مخرجات؛ هن «رغيد النهدي، ونورة المولد، وربي خفاجي، وفاطمة الحازمي، ونور الأمير»، ويتناول خمس قصص متنوعة، وفيلم «فرحة» وهو إنتاج سعودي – أردني – سويدي مشترك، من تأليف وإخراج دارين سلام، والفيلم الفرنسي «أم صالحة»، تأليف وإخراج حفصية حرزي، وفيلم «روابط مقدسة»، تأليف وإخراج محمد صالح هارون، وهو إنتاج مشترك لكل من تشاد وفرنسا وألمانيا وبلجيكا، وفيلم «ريحانة مريم نور»، تأليف وإخراج عبد الله محمد سعد، وإنتاج مشترك لبنغلاديش وسنغافورة، وضمن العروض العالمية الأولى بالمهرجان، يعرض فيلم «أرواح عابرة» وهو إنتاج عراقي سويسري مشترك، كما يقام على هامش الدورة الجديدة من المهرجان، عدد من الورش السينمائية، والندوات والمعارض التشكيلية.
فيما تضم قائمة مسابقة الأفلام المصرية أربعة أفلام؛ هي «أبو صدام»، للمخرجة نادين خان، و«قمر 14» لهادي الباجوري، و«العودة»، لسارة الشاذلي، و«وش القفص»، لدينا عبد السلام.
وحسب الناقدة ماجدة موريس، فإن «مهرجان أسوان قد نجح في مد جسور التواصل مع المجتمع الأسواني، بعد تنظيمه ورشاً تدريبية للشباب والأطفال على صناعة الأفلام القصيرة، والتدريب على أفلام الرسوم المتحركة، كما يحتضن منتدى (نوت) قضايا النساء والمجتمع المدني، وهو إنجاز كبير يحسب له».
وأشارت إلى أنّ عدداً من فتيات أسوان نجحن في صناعة أفلام قصيرة تشارك في مهرجانات عربية مهمة في تونس والمغرب، كما تشهد هذه الدورة توسعاً في المسابقات، واختياراً مميزاً للأفلام».


مقالات ذات صلة

«غولدن غلوب» 2025 يؤكد أن «القالب غالب»

لمسات الموضة أنجلينا جولي في حفل «غولدن غلوب» لعام 2025 (رويترز)

«غولدن غلوب» 2025 يؤكد أن «القالب غالب»

أكد حفل الغولدن غلوب لعام 2025 أنه لا يزال يشكِل مع الموضة ثنائياً يغذي كل الحواس. يترقبه المصممون ويحضّرون له وكأنه حملة ترويجية متحركة، بينما يترقبه عشاق…

«الشرق الأوسط» (لندن)
سينما صُناع فيلم «إيميليا بيريز» في حفل «غولدن غلوب» (رويترز)

«ذا بروتاليست» و«إيميليا بيريز» يهيمنان... القائمة الكاملة للفائزين بجوائز «غولدن غلوب»

فاز فيلم «ذا بروتاليست» للمخرج برادي كوربيت الذي يمتد لـ215 دقيقة بجائزة أفضل فيلم درامي في حفل توزيع جوائز «غولدن غلوب».

«الشرق الأوسط» (لوس أنجليس)
يوميات الشرق عصام عمر خلال العرض الخاص للفيلم (حسابه على فيسبوك)

عصام عمر: «السيد رامبو» يراهن على المتعة والمستوى الفني

قال الفنان المصري عصام عمر إن فيلم «البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو» يجمع بين المتعة والفن ويعبر عن الناس.

انتصار دردير (القاهرة )
يوميات الشرق الممثل الجزائري الفرنسي طاهر رحيم في شخصية المغنّي العالمي شارل أزنافور (باتيه فيلم)

«السيّد أزنافور»... تحيّة موفّقة إلى عملاق الأغنية الفرنسية بأيادٍ عربية

ينطلق عرض فيلم «السيّد أزنافور» خلال هذا الشهر في الصالات العربية. ويسرد العمل سيرة الفنان الأرمني الفرنسي شارل أزنافور، من عثرات البدايات إلى الأمجاد التي تلت.

كريستين حبيب (بيروت)
يوميات الشرق محمد سعد في العرض الخاص لفيلم «الدشاش» (الشركة المنتجة للفيلم)

هل استعاد محمد سعد «توازنه» بفضل «الدشاش»؟

حقق فيلم «الدشاش» للفنان المصري محمد سعد الإيرادات اليومية لشباك التذاكر المصري منذ طرحه بدور العرض.

داليا ماهر (القاهرة )

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)