«كئيب» هو الوصف الذي ذكره معظم التقارير الصحافية الواردة من مهرجان برلين الذي انتهت دورته الثانية والسبعين قبل يومين. كلمة تصوّر حال مهرجان كبير عندما يختار أن يواصل مسيرته كحدث يؤمّه الجمهور والضيوف والإعلاميون كما كان الحال في سنواته السبعين السابقة، فقط ليجد أنه مِثل مَن وجّه دعوة إلى حفلة ساهرة ولم يلبِّها أحد.
في عام 2020 قدّم المهرجان الألماني دورته الكبيرة الأخيرة. كان وباء «كوفيد» ما زال قابلاً للصرف بلا خوف كبير منه. في صالة مكتظة تتسع لأكثر من 1600 مشاهد التقطنا ثلاثة أشخاص فقط بكمامات. الكراسيّ كانت كلها مشغولة. لا خوف ولا قلق، والاهتمام باحتمال انتشار الداء كان لا يزال في مطلعه.
في عام 2021 أُصيب المهرجان الكبير نفسه بالداء: الحكومة الألمانية التي تؤمِّن القِسْم الأكبر من الميزانية رفضت السماح بأن تُقام الدورة على أرض الواقع لأن مخاطر الوباء باتت مشهودة. البديل كان واحداً من اثنين: إلغاء الدورة كليّاً، أو تحويلها إلى «النت» يشاهد أفلامها المشتركون. اختارت إدارة المهرجان الحل الثاني وحققت الدورة نجاحاً لا بأس به من حيث عدد المشتركين ونوعية الأفلام التي استجابت للوضع.
الدورة الأخيرة التي بدأت في العاشر من هذا الشهر وانتهت في السادس عشر منه، كان لا بد لها أن تعود إلى قواعد ومبادئ العروض الفعلية. لا تستطيع، والوباء ما زال الضيف الأول في حياتنا، أن تبقى خفيّة عن الأعين تعرض أفلامها على الهواء الافتراضي كما لو كانت نادياً سينمائياً صغيراً. مرّة واحدة، لا بأس. لكنْ مرّتان ستكونا بحكم القضاء على مستقبل المهرجان.. أو هكذا تم الاعتقاد.
خيارات محدودة
لكنّ المشكلة كانت أكبر من أن يحتويها فعل العودة إلى القواعد الأساسية. ما أراد المهرجان إثباته هو أنه لن يستسلم للداء المستجد، بل سيواجهه. المشكلة كانت في الأسلحة المتوفرة: تقليص الدورة من 10 أيام إلى 6 أيام فقط. الالتزام باستقبال الملقحين وحدهم (وتحبيذ أن يكون الداخل إلى الصالة أتمّ اللقاح الثاني)، وفرض التباعد بين الجالسين بحيث يتم ملء نصف الصالة أو أقل.
الذي حدث أن الكثيرين قرأوا التعليمات المذكورة (وهناك سواها) ووجدوا أن السفر إلى برلين لأسبوع واحد لا يقل فداحة عن تعذر الحضور. وازَنوا بين مشاقّ السفر، في هذه الأيام، والجهد البدني والتكلفة المادية واختاروا البقاء في ديارهم.
بذلك انقلبت المعادلة على من قام بها. بكلمات أخرى، إذ قرر المهرجان تقليص فترته إلى ستة أيام، منح الكثيرين عذراً لعدم الحضور. وفي الوقت ذاته، لم يبدد، عبر إصراره على كل هذه الإجراءات الاحترازية بخصوص الوباء، فإذا بالسحر ينقلب على الساحر.
هي مشكلة عويصة لم يكن لينقذها سوى الأفلام ذاتها. لكن بالنظر إلى ما تم عرضه في المسابقة وحدها (على الأقل) بات ثابتاً، بشهادة نقاد ومتابعين مستقلين، أن دورة هذا العام كانت متواضعة النجاح ومحدودة الاختيارات أيضاً.
بدايةً، كانت هناك بصمة الوباء منتشرة على بعض الأفلام المشتركة. نذكر في العام الماضي أن الفيلم الذي انتزع ذهبية المهرجان حينها (الفيلم الروماني Bad Luck Banging) حوى مشاهد لأشخاص يستخدمون الكمامات. حسب ذلك الفيلم (ذي القيمة المتوسّطة) تسير بطلة الفيلم طويلاً في شوارع بوخارست مرتدية كمامة. مَن تمر بهم من ناس في الشوارع يرتدونها كذلك. لكن هذا كان انعكاساً للواقع، إذ تم تصوير الفيلم في بداية فورة «كورونا» في أوروبا.
المسألة هذا العام تختلف. ليس على صعيد ازدياد عدد الأفلام التي تُظهر أشخاصاً بكمامات، بل على صعيد أن عدداً لا بأس به من الأفلام الجديدة، سواء من بين ما عرضه مهرجان برلين أو تلك التي لم تشهد عروضها بعد في أي مهرجان آخر، اضطرت إلى تقليص أحجامها تبعاً للداء. أفلام مثل «جانبا النصل» لكلير دَني، و«المنظمة» لغراهام مور، و«بيتر فون كانت» لفرنسوا أوزون (وكلها من عروض المسابقة)، لم تتمتع بكل ما كان سيتاح لها من إمكانيات وذلك بسبب إملاءات الوقاية. ويتبدّى ذلك حتى من خلال اختيار ممثلين غير معروفين، إذ آثر عدد كبير من ذوي الشهرة والنجومية حماية أنفسهم من الداء المنتشر بتقليل ظهورهم عموماً وقبول الأدوار خصوصاً.
يقول المخرج أوزون إن الكثير من المخرجين الفرنسيين خلال الأزمة الصحية وفي مواجهة القرارات الصارمة التي اتخذتها الحكومة وجدوا أنفسهم غير قادرين على العمل أو اضطروا لاختزال ساعاته والكثير من مشاهده رضوخاً للوضع. بالتالي، فرض الوباء اختيارات البعض للأفلام التي بصدد تحقيقها.
فيلمه «بيتر فون كانت»، على سبيل المثال، جاء نتيجة تفضيل فرنسوا أوزون العمل ضمن الوضع عوض الانكفاء في البيت. النتيجة أنه اختار تحقيق مسرحية كان المخرج الألماني راينر فرنر فاسبيندر قد حققها سنة 1972 بعنوان «الدموع المرّة لبترا فون كانت».
أوزون يفتتح ولا ينال
في حالات أخرى أدّت إصابة بعض الممثلين والعاملين إلى تأخير الأفلام، ما هدد برفع ميزانياتها. أحد هذه الأفلام «جانبا النصل» لكلير دَني، الذي تعذّر عليه الانتهاء من التصوير في الموعد المحدد. تقول المخرجة الفرنسية دَني إنها كانت قد فكّرت بالممثل الأميركي روبرت باتنسن لبطولة فيلمها المقبل «نجوم النهار»، لكنها اضطرت لاستبعاده بعدما أُصيب باتنسن بالوباء خلال تصوير فيلمه الجديد «The Batman» في بريطانيا، ما أوقف تصوير هذا الفيلم المكلف لحين شفائه. باتنسن في كامل عافيته الآن، لكن ما حدث له ولفيلم ريدلي سكوت «المبارزة الأخيرة» عندما توقّف التصوير بسبب المخاوف من انتشار الوباء بين العاملين فيه، كافٍ لتذكيرنا بالزمن الذي كانت فيه ميزانية أي فيلم محددة بآلياته وأماكن تصويره وضرورياته اللوجيستية والفنية والتقنية. الآن تمّت إضافة بند جديد يأخذ في الحسبان احتمال توقف التصوير بسبب إصابة هذا الممثل أو ذاك أو أي أحد من عناصر الفيلم الأساسيين.
«بيتر فون كانت» (Peter von Kant) كان فيلم الافتتاح، وقد استُقبل بترحاب شديد وإن لم يمنع ذلك من تجاهُل لجنة التحكيم، بقيادة المخرج الأميركي م. نايت شيامالان، الذي منحه واحدة من الجوائز الأولى. على ذلك، هو اختيار مناسب لمهرجان ألماني، كونه يستلهم من فيلم المخرج الراحل فاسبيندر مادته. يستلهم الفيلم نصّاً مسرحياً ألمانياً من ناحية، ولو أن التقارير ذكرت، حتى من قبل عرضه في برلين، أن أوزون عدّل وغيّر في ذلك النص حتى بات أقرب لأن يكون من كتابته أساساً. الفيلم الجديد يضع إيزابل أدجياني في دور البطولة وهي التي لم تستطع الحضور لكي تستلم شهادة تقدير لأعمالها بسبب إصابتها بـ«كورونا».
في المسابقة أيضاً فيلم مختلف جداً عن عالم المسرح أو النص المقتبس أو مرامي المخرج أوزون. إنه «رداء الجواهر» للمكسيكية نتاليا لوبيز غالاردو. محوره هو جرائم الاختطاف والقتل الشائعة في المكسيك اليوم والتي تداعت أخبارها عبر الوكالات أكثر مما شوهدت في مواضيع سينمائية.
هناك حكايتان في هذا الفيلم، واحدة حول امرأة أرستقراطية تنتقل للعيش في فيلا ورثتها عن والدتها ومعها ابنتها الشابة، والأخرى عن خادمتها. كلتا الحكايتين لديها أحداث خاصة بها بحيث يسير الفيلم على خطّين شبه متوازيين لا يلتقيان إلا عبر نهاية لا تُزيل الغموض المحيط بما يقع. في وسط كل هذا يقدّم لنا الفيلم انتشار الجريمة وعصاباتها المنظّمة جنباً إلى جنب فساد البوليس (المتمثّل بشخصية شرطية هي أُمّ لأحد شبان العصابة).
حصل «رداء الجواهر» على الجائزة الثالثة في حفل الختام في السابع عشر من الشهر. اللافت أن الجائزة الذهبية نالها فيلم «الكاراس» الذي هو من إخراج نسائي وكذلك «رداء من الجواهر». إلى جانبهما هناك فوز نسائي آخر تَمثّل بجائزة أفضل سيناريو (نالتها ليلى شتيللر عن فيلم بعنوان «ربيعة تقاضي جورج بوش الابن»). كما أن جائزة أفضل تمثيل ذهبت إلى ملتم قبطان عن دورها في الفيلم ذاته. كما فازت المخرجة كلير دَني بجائزة الإخراج عن فيلم «جانبا النصل».
الأرض
«ألكاراس» للإسبانية كارلا سيمون، يدور حول عائلة كبيرة بشخصيات متعددة والرغبات المختلفة لعدد من هذه الشخصيات. بعض أفرادها من الشبّان يريدون استغلال جزء منها لزرع القنّب. البعض الآخر يريد استخدام نظم علمية حديثة وأب العائلة متمسّك بالحفاظ عليها كما هي. تبعاً لكل هذا فإن الخلاف يهدد معيشة الجميع فوق تلك الأرض، لكنّ الخطر الأكبر هو أن الجد الراحل كان قد اشترى تلك الأرض في الأربعينات من دون أن يوقّع على أوراق تؤكد ملكيّته لها. كان هذا عندما كان العرف السائد، لدى أبناء القرى، الاكتفاء بالمصافحة كما لو أنها عقد مبرم. لكن اليوم يختلف عن الأمس وخطر خسارة الأرض جاثم.
أما الفيلم الفائز بالجائزة الثانية والذي نجا من تبعات سياسة تعزيز الوجود النسائي في المهرجان وجوائزه، فهو «المؤلّفة» للمخرج الكوري الجنوبي هونغ سانغسو: دراما حول مؤلفة روائية تواجه حالة فقدان الإلهام. عقلها ما عاد يفكّر في ابتداع رواية جديدة. تتأمل وضعها وتقرر أنها سوف تصبح مخرجة. ليس لديها الموضوع بعد لكنها ستحاول وضع العربة قبل الجياد على أي حال فهي لديها مدير التصوير ولديها الممثلة التي ستقوم ببطولة الفيلم المجهول.
سوق مهرجان برلين وحده ربما كانت أكثر نشاطاً من الأفلام التي عُرضت في جوانبه. فحسب مجلات صدرت لمتابعة أحوال تلك السوق (التي وفّرت أفلامها افتراضياً لمن رغب) شهدت السوق التجارية عمليات بيع وشراء ومنافسة على بعض الأفلام المعروضة وذلك على عكس ما شهدته أفلام المسابقة من ركود.