«الثمانيني» سيرجيو ماتاريلا يستأنف دوره كـ«إطفائي» إيطاليا

بعد إعادة انتخابه رئيساً للجمهورية وسط تخبط المشهد السياسي

«الثمانيني» سيرجيو ماتاريلا يستأنف دوره كـ«إطفائي» إيطاليا
TT

«الثمانيني» سيرجيو ماتاريلا يستأنف دوره كـ«إطفائي» إيطاليا

«الثمانيني» سيرجيو ماتاريلا يستأنف دوره كـ«إطفائي» إيطاليا

عند انتصاف النهار الأخير من الشهر الماضي كانت شاحنة ضخمة تحمل الأمتعة الخاصة لرئيس الجمهورية الإيطالية سيرجيو ماتاريلا متجهة من العاصمة روما إلى مسقط رأسه نابولي، حيث كان قرّر الانتقال بعد تسليم منصبه للرئيس الجديد الذي كان البرلمان ينتخبه منذ مطلع ذلك الأسبوع. ولكن في هذا الوقت بالذات، اتصل مدير المراسم في رئاسة الجمهورية بالسائق يطلب إليه العودة إلى العاصمة، لأن الرئيس قرّر البقاء سبع سنوات أخرى في منصبه.
حصل ذلك بعد دقائق من تجاوب ماتاريلا مع الطلب الملحّ الذي كان نقله إليه ذلك الصباح رؤساء الكتل النيابية لتجديد ولايته. وكان ماتاريلا قد أعلن مراراً وتكراراً رغبته عن تجديدها لأسباب خاصة ودستورية، إثر فشل البرلمان - ومعه السياسة الإيطالية برمتها - في انتخاب رئيس جديد، بعد ستة أيام. وجاء الفشل بعد سلسلة من الجلسات المتتالية التي كانت أشبه بمسرحية سوريالية تابعها الإيطاليون بين الدهشة واللامبالاة، والخيبة العميقة من الطبقة السياسية التي نادراً ما كانت في مستوى التحديات والاستحقاقات الكبرى.
وبانتخابه، أصبح ماتاريلا الرئيس الثالث عشر للجمهورية الإيطالية، والثاني الذي يجدد ولايته بعد سلفه جيورجيو نابوليتانو الذي وجد نفسه في وضع مماثل منذ تسع سنوات، عندما عجزت الأحزاب السياسية عن انتخاب خلف له، وطلبت منه تمديد الولاية لسنتين. وفي حين قوبل انتخاب ماتاريلا بارتياح واسع في الأوساط الشعبية، التي وجدت فيه مرة أخرى منقذاً من العقم السياسي الذي تتخبط فيه البلاد منذ عقود، تنفَّست العواصم الأوروبية الصعداء بعدما كانت تراقب بقلق عميق انحدار الشريك الإيطالي نحو هاوية جديدة في هذه المرحلة الحرجة.
وُلِد سيرجيو ماتاريلا، رئيس جمهورية إيطاليا، في صيف 1941، وترعرع في كنف أسرة ناشطة سياسياً ضمن صفوف حزب الديمقراطية المسيحية «الحزب الدولة» - أو «الحزب الديمقراطي المسيحي»، الذي هيمن على المشهد السياسي الإيطالي منذ نهاية الحرب العالمية الثانية حتى مطالع ثمانينات القرن الماضي.
كان والده برناردو قد تولّى حقائب وزارية خمس مرات متتالية، في أعقاب توليه عدة مناصب برلمانية وتنفيذية في جزيرة صقلية. وبعد تخرّج سيرجيو في كلية الحقوق بجامعة روما، اتجه إلى التخصص في القانون البرلماني والدستوري والتدريس في جامعة باليرمو (كبرى مدن صقلية) عندما وقعت حادثة اغتيال شقيقه بيرسانتي. بيرسانتي كان رئيساً لمنطقة صقلية، وقد اغتيل على أيدي المافيا، مطلع عام 1980. ويومذاك كان سيرجيو على بُعد أمتار منه، وحاول يائساً إنقاذه بعد إصابته بست رصاصات داخل سيارته.

- مأساة جعلته سياسياً
تلك الحادثة المأساوية غيّرت مجرى حياة سيرجيو ماتاريلا، الذي قرّر على الأثر التخلي عن التدريس الجامعي والانصراف إلى السياسة. وبالفعل، ترشّح إلى الانتخابات البرلمانية للمرة الأولى في عام 1983، وظل عضواً في مجلس النواب حتى عام 2008. وإبان هذه المسيرة ترأس لجنتي الشؤون الدستورية والعلاقات الخارجية، كما تولّى وزارة العلاقات مع البرلمان، عام 1987، ثم شغل حقيبة وزارة التربية والتعليم عام 1989. وفي عام 1998، عُيّن نائباً لرئيس الوزراء، ثم وزيراً للدفاع حين أُلغيت على عهده الخدمة العسكرية الإلزامية.
كان ماتاريلا ينتمي إلى الجناح التقدمي في حزب «الديمقراطية المسيحية»، ذلك الجناح الذي كان المخرج السينمائي الشهير والناشط السياسي بيير باولو باسوليني - الذي اغتاله الفاشيون - يطلق عليه مسمى «اليسار الكاثوليكي». وبعد انفراط الحزب تحت وطأة فضائح الفساد التي كشفتها مجموعة قضاة «الأيادي النظيفة»، لعب ماتاريلا دوراً أساسياً في تشكيل حزب «الزيتون» الذي كان يضمّ التقدميين في «الديمقراطية المسيحية» إلى المعتدلين في الحزب الاشتراكي وبعض القوى اليسارية. وفي عام 2008، قرّر ألا يترشح للانتخابات، منهياً بذلك نشاطه السياسي، لينتخب بعد ذلك عضواً في المحكمة الدستورية عام 2011.
ولكن، في عام 2015، جاء انتخابه رئيساً للجمهورية مفاجأة لكثيرين. وتحقق هذا الأمر بعد الاتفاق الذي كان توصل إليه السياسي والملياردير اليميني سيلفيو برلوسكوني مع خصمه اليساري اللدود ماسّيمو داليما لانتخاب جوليانو داماتو (والثلاثة من رؤساء الحكومات السابقين). لكن رئيس الوزراء الشاب والنجم الصاعد في صفوف الحزب الديمقراطي ماتّيو رنزي فاجأ الجميع بترشيحه ماتاريلّا، الذي جرى انتخابه في الدورة الثالثة.
كانت ولاية ماتاريلا الأولى محفوفة بالمصاعب منذ بدايتها، إذ كانت تتعاقب على إيطاليا حكومات تتشكّل من تحالفات برلمانية هشّة، بعد مخاض طويل وعسير. وفي الوقت الذي كانت القوى اليمينية المتطرفة المناهضة للمشروع الأوروبي تصعد بسرعة في المشهد السياسي الإيطالي، كانت الأحزاب المعتدلة تواصل تشرذمها، وتتعمق الأزمة الاقتصادية الممتدة منذ سنوات. مع هذا، أظهر الرئيس المخضرم الآتي من عمق التجربة الديمقراطية المسيحية قدرة عالية على الاعتدال والحياد والدفاع عن المؤسسات الدستورية، وكان على مسافة متساوية من جميع القوى السياسية المتناحرة في بلد تهوى أحزابه العمليات الانتحارية في أعصب الأوقات.

- ترنح الحكومات...وصعود اليمين
وجرياً على عادتها منذ قيام «الجمهورية الأولى»، شهدت إيطاليا خمس حكومات خلال الولاية الأولى لماتاريلا، الذي أوشك في إحدى المرات على تجاوز البرلمان، والدفع لتشكيل حكومة تكنوقراط منعاً لوصول الشعبويين واليمين المتطرف إلى الحكم. وبعد فترة من التوتر الشديد ذهب حزب «النجوم الخمس» الشعبوي، الذي يملك أكبر كتلة في البرلمان، حد التهديد بعزله، فيما كان زعيم «الرابطة» اليميني المتطرف ماتّيو سالفيني يكرر أن سرجيو ماتاريلا ليس رئيسه. غير أن ماتاريلا استطاع أن يستقطب تأييداً شعبياً واسعاً راح ينعكس تدريجياً على التفاف الأحزاب السياسية حوله، والتوافق عليه بوصفه الوحيد القادر على إخراج البلاد من المستنقع السياسي الذي وصلت إليه.
ومع أن النظام السياسي الإيطالي ليس رئاسياً، بل يحصر السلطات التنفيذية بيد رئيس الحكومة، فإنه يعطي رئيس الجمهورية صلاحيات حساسة تكتسب أهمية كبيرة في الأزمات، مثل سلطات تعيين رئيس الحكومة وحل البرلمان والدعوة إلى إجراء الانتخابات العامة. وكان ماتاريلا قد لجأ إلى استخدام هذه الصلاحيات منذ بداية ولايته، عندما عيّن باولو جنتيلوني، وزير الخارجية الأسبق والمفوّض الأوروبي للشؤون الاقتصادية حالياً، لتشكيل حكومة وقطع الطريق أمام اليمين المتطرف الذي كان يدفع باتجاه الانتخابات المسبقة التي كانت الاستطلاعات ترجّح فوزه بها. وعندما توافق حزب «الرابطة» مع «النجوم الخمس» لتشكيل حكومة ائتلافية في ذروة هجوم القوى اليمينية المتطرفة على المشروع الأوروبي، رفض ماتاريلا إسناد وزارة الاقتصاد إلى بالو سافونا الذي كان ينادي بالخروج من نظام العملة الأوروبية الموحّدة.
في أول تصريح لماتاريلا بعد عودته عن قراره عدم التجديد، وتجاوبه مع طلب القوى البرلمانية قبول انتخابه لولاية جديدة، استخدم الرئيس الإيطالي «الثمانيني» عبارات قاسية مثل «الظروف العصيبة» التي تعيشها البلاد، بسبب الأزمتين الصحية والاقتصادية. وشدّد على «روح المسؤولية» لمواجهة «حالة الطوارئ» السياسية لتوصيف الحالة التي وصلت إليها إيطاليا.
وإذا كان انتخاب ماتاريلا لولاية ثانية مبعثاً للارتياح في الداخل والخارج، لما يمثّله من قدرة على الاعتدال والاستقرار، فهو أدى إلى المزيد من الانشقاقات داخل القوى الرئيسة في الائتلاف الحاكم وقياداتها المتنازعة. وكان أبرز الخاسرين في حصيلة المناورات على الجلسات البرلمانية الست لانتخاب الرئيس، زعيم حزب «الرابطة» ماتيو سالفيني الطامح لقيادة تحالف القوى اليمينية في الانتخابات المقبلة، الذي بدأ نجمه بالأفول بعدما تصدعت علاقته بحليفيه برلوسكوني وزعيمة حزب «إخوان إيطاليا» جورجيا ميلوني، التي تنافسه منذ أشهر على قيادة القوى اليمينية المتطرفة.
الخاسر الآخر كان جيوزيبي كونتي، رئيس الوزراء السابق والزعيم الجديد لحزب «النجوم الخمس»، الذي يتعرّض لخطر الانقسام الوشيك، بعد المواجهة الصدامية التي نشأت عن الانتخابات الرئاسية بين كونتي ووزير الخارجية وأحد رموز الحركة، لويجي دي مايو.

- خادم ومنقذ للديمقراطية
من ناحية أخرى، عندما قبل ماتاريلا بتجديد ولايته، وقال: «أنا مواطن في خدمة الجمهورية ولا أستطيع التنصّل من هذه المسؤولية»، كان يدرك أن قراره هذا قد يكون فرصة أخيرة لإعادة تشكيل النظام السياسي الإيطالي الذي يتهاوى منذ ثلاثة عقود. وهو النظام الذي جعل من إيطاليا الحلقة الأضعف بين الديمقراطيات الأوروبية، ومن حالة الطوارئ السياسية تعبيراً لازماً في قاموسها السياسي.
لكن السنوات السبع الأولى التي أمضاها ماتاريلا في رئاسة الجمهورية لم تقتصر على تجسيده المؤسسات الدستورية وحرصه الدؤوب على صونها والدفاع عنها في وجه المحاولات العديدة، والمستميتة أحياناً، لتجاوزها؛ فهو كان حريصاً أيضاً على إعادة الاعتبار للفئات الاجتماعية التي همّشتها السياسة في صراعاتها الطويلة والعقيمة من أجل البقاء والتوارث الذاتي. ومع مرور السنوات اكتسب الرئيس الهادئ تأييداً شعبياً كاسحاً كان يظهر بعفوية خلال تنقلاته، واحتراماً عميقاً في المحيط الأوروبي عبّرت عنه شهادات الدكتوراه الفخرية التي منحته إياها جامعات أوروبية مرموقة، والمدائح التي كانت تنهال عليه من نظرائه الأوروبيين.

- هل يكمل مدة رئاسته؟
ليس معروفاً بعد ما إذا كان ماتاريلا سيكمل السنوات السبع من ولايته الرئاسية الثانية، خصوصاً أنه تجاوز الثمانين من العمر، وكان صرّح مراراً بأنه راغب في الانكفاء عن النشاط السياسي. وليس من المستبعد أن يكتفي بسنتين فحسب من هذه الولاية حتى إجراء الانتخابات العامة المقبلة في ربيع عام 2023، وتشكيل الحكومة الجديدة، تمهيداً لوصول رئيس الوزراء الحالي ماريو دراغي إلى رئاسة الجمهورية. والمعروف على نطاق واسع أن دراغي يسعى للرئاسة ويتوافق الجميع على أنه المرشح الأمثل لتوليها، لكنه عزف عنها نزولاً عند الضغوط الأوروبية والدولية كي يبقى في رئاسة الحكومة حتـى إنجاز خطة الإنقاذ والإصلاحات الهيكلية التي فشلت إيطاليا في تحقيقها طوال العقود الثلاثة الماضية. وثمة اعتقاد بأن هذه المعادلة كانت في أساس الاتفاق بين ماتاريلا ودراغي عندما قبل هذا الأخير في العام الماضي تكليفه تشكيل الحكومة الحالية.
مقابل ذلك، من المحتمل أيضاً أن يكمل ماتاريلا ولايته حتى النهاية ليصبح الرئيس الذي أمضى أطول فترة في رئاسة الجمهورية الإيطالية، إذا ما قرر دراغي الترشح لمنصب رئيس المفوضية الأوروبية خلفاً لأورسولا فون در لاين، الرئيسة الألمانية الحالية للمفوضية، التي تتراجع حظوظها في تجديد ولايتها، خاصة بعدما فقدت دعم «عرّابتها» المستشارة الألمانية السابقة أنجيلا ميركل.
الذين يراهنون على بقاء ماتاريلا حتى نهاية ولايته يربطون ذلك ببعض الاستحقاقات الدستورية التي قد تنشأ عن البرلمان الذي ستتمخض عنه الانتخابات العامة المقبلة، ومنها تعديل الدستور لانتخاب رئيس الجمهورية مباشرة من الشعب بعد المهازل المتكررة التي تسبب بها انتخابه من مجلسي النواب والشيوخ والرؤساء الإقليميين، فضلاً عن احتمال تعديل قانون الانتخاب الذي يشكّل بنداً دائماً على برنامج الأحزاب السياسية الإيطالية. ولا يستبعد هؤلاء أن ماتاريلا، الضليع في القوانين البرلمانية والدستورية، له رغبه في مواكبة هذه الاستحقاقات وتوجيه دفتها.


مقالات ذات صلة

هيمنة اليمين الكاملة مأزق قد يُبكي الإسرائيليين لأجيال

حصاد الأسبوع دمار غزة (إ.ب.أ)

هيمنة اليمين الكاملة مأزق قد يُبكي الإسرائيليين لأجيال

عندما دخل حزب «المعسكر الرسمي» بقيادة بيني غانتس، إلى الائتلاف الحكومي الإسرائيلي يوم 11 أكتوبر (تشرين الأول) 2023، أي بعد 4 أيام من هجوم «حماس» على المواقع

نظير مجلي (القدس)
حصاد الأسبوع عارضت بشدة محاول عزل ترمب الأولى عام 2019 المتصلة بـ«فضيحة» أوكرانيا ودعمت محاولاته لإلغاء الانتخابات الرئاسية عام 2020

إليز ستيفانيك... هل تكون مرشحة ترمب لمنصب نائب الرئيس الأميركي إثر جنوحها لليمين المتشدد؟

مع اقتراب موعد المؤتمر الوطني للحزب الجمهوري الأميركي، منتصف الشهر المقبل، لتثبيت ترشيح دونالد ترمب لخوض الانتخابات الرئاسية، تزايدت التكهنات والترشيحات

إيلي يوسف (واشنطن)
حصاد الأسبوع كمالا هاريس (آ ب)

ستيفانيك الطموحة تراجعت عن مواقفها المعتدلة لأجل طموحاتها السياسية

مواقف النائبة الجمهورية إليز ستيفانيك من إسرائيل، ولا سيما بعد «هجوم 7 أكتوبر (تشرين الأول)» عزّزت تحوّلها إلى شخصية مفضّلة عند الرئيس السابق دونالد ترمب، غير

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
حصاد الأسبوع ميناء تشابهار الإيراني محور التلاقي الهندي - الإيراني (كيهان لندن)

أبعاد جيوسياسية لميناء تشابَهار والاتفاق الهندي ـ الإيراني

بمواجهة الخوف من التعرض لعقوبات أميركية، وبعد سنوات من المفاوضات والانتكاسات، وقّعت الهند، أخيراً، اتفاقية طويلة الأمد مع إيران بخصوص تشغيل وإدارة ميناء

براكريتي غوبتا (يودلهي)
حصاد الأسبوع مناصرو اليمين الألماني المتطرف ... يحتفلون (رويترز)

تحدّيات جدّية لاستمرار «المشروع الأوروبي» بعد انتخابات 2024

لأول مرة منذ تأسيس المشروع الأوروبي أواخر خمسينات القرن الماضي يرى الناظر إلى الساحة الأوروبية أن كل شيء قد تبدّل، أو هو على أعتاب تغيير عميق. لم يحصل أبداً أن

شوقي الريّس (بروكسل)

هيمنة اليمين الكاملة مأزق قد يُبكي الإسرائيليين لأجيال

دمار غزة (إ.ب.أ)
دمار غزة (إ.ب.أ)
TT

هيمنة اليمين الكاملة مأزق قد يُبكي الإسرائيليين لأجيال

دمار غزة (إ.ب.أ)
دمار غزة (إ.ب.أ)

عندما دخل حزب «المعسكر الرسمي» بقيادة بيني غانتس، إلى الائتلاف الحكومي الإسرائيلي يوم 11 أكتوبر (تشرين الأول) 2023، أي بعد 4 أيام من هجوم «حماس» على المواقع العسكرية والبلدات الإسرائيلية في غلاف غزة، حظيت خطوته بتقدير كبير من الجمهور. وفي أول استطلاع رأي أجرته صحيفة «معاريف» خلال تلك الفترة، في أول ديسمبر (كانون الأول) منحه الناخبون 40 مقعداً، أي أكثر من ثلاثة أضعاف قوته الانتخابية، إذ كان له 12 مقعداً فقط. وحسب تلك النتائج، هبط حزب «الليكود» بقيادة بنيامين نتنياهو من 32 مقعداً، له اليوم، إلى 18 مقعداً. ودلَّت النتائج على أن معسكر نتنياهو يهبط من 64 إلى 43 مقعداً، فيما يرتفع نصيب المعسكر المناوئ له من 54 إلى 77 مقعداً. حصاد3 – مستقبل إسرائيل تحت هيمنة اليمين المطلقة

لقد نظر الشارع الإسرائيلي إلى بيني غانتس بنهاية العام الماضي على أنه قائد متواضع يتصرّف كجندي في الاحتياط، يمتثل للأوامر العسكرية، ويضع مصلحة الدولة فوق أي اعتبار. ورأى أن الرجل، «الملسوع» من تجربة سابقة مع بنيامين نتنياهو -والذي استقال أخيراً من حكومته- عضّ على جرحه وعاد للتحالف معه مجدداً في سبيل «الوحدة الوطنية». ويذكر أن الإعجاب بغانتس قد ازداد أكثر عندما أعلن قُبيل تعيينه أنه لا يطالب بوزارات له ولرفاقه، بل كل ما يطلبه هو الشراكة الفعلية في إدارة الحرب، وكان له ما أراد.

يومها، وفقاً لشهود عيان كثيرين، كان نتنياهو محطماً نفسياً من هول الضربة. إذ تمكّنت «حماس» من مباغتة الجيش الإسرائيلي والاستخبارات وإلحاق خسائر فادحة، قتلى وجرحى، واحتلت 11 موقعاً عسكرياً و22 بلدة، فيما بدت القيادة الإسرائيلية كأنها تغطّ في سُبات عميق.

أيضاً، نتنياهو، بصفته رئيس حكومة، يتحمّل مسؤولية أساسية عن هذا الإخفاق، ولذا طالبه 84 في المائة من الإسرائيليين بالاستقالة. أما الجيش فعمد إلى فعلٍ انتقامي هستيري، وشن حرب دمار شامل أحرق فيها غزة وأهلها -وليس «حماس»- وأخذ يُعدّ لتوجيه ضربة استباقية إلى لبنان، حتى قبل أن يعلن «حزب الله» حرب «الإسناد».

الكرامة وإنقاذ الهيبة

كان غانتس، ومعه «شريكه» رئيس الأركان السابق الآخر غادي آيزنكوت، قد جاءا إلى «مجلس قيادة الحرب» ليسهما في «إنقاذ هيبة وكرامة الجيش الإسرائيلي»، وحقاً صار الجمهور يرى في غانتس أفضل المرشحين لرئاسة الحكومة بدل نتنياهو. ولكن الآن بعد مضيّ أكثر من 8 أشهر، عاد الجمهور الإسرائيلي يفتش عن رئيس حكومة آخر، بعد فقدانه الأمل في نتنياهو يقنعه... وأيضاً في غانتس وكل مرشح من الشخصيات القيادية المطروحة.

الاستطلاعات الأخيرة تشير إلى أن غانتس سيهبط إلى 27 مقعداً، ولكن إذا أُسس حزب يميني آخر سيوزّع الجمهور أصواته بين غانتس والحزب الجديد. وهذا ليس تصوراً وهمياً، بل واقعي جداً. إذ إن رئيس الوزراء الأسبق نفتالي بنيت، يسعى لتشكيل حزب يضم يوسي كوهين، رئيس «الموساد» السابق، وغدعون ساعر الوزير والحليف السابق لغانتس، وأفيغدور ليبرمان رئيس حزب «اليهود الروس»، وأشارت نتائج الاستطلاع إلى أن هذا الحزب سيحصد الأصوات من كل الأحزاب وسيصبح الحزب الأكبر، مما يعني أنه سيكلَّف بتشكيل الحكومة.

وهكذا، يخرج غانتس مرة أخرى «من المولد بلا حمص»، بعدما انفضّ الجمهور عنه. فلماذا يحصل له هذا وهو الذي يحمل على كتفه 33 سنة من الخدمة العسكرية ويتعامل مع محيطه بصدق وصراحة... ومعروف أنه لا ينتمي إلى شريحة السياسيين الفاسدين؟

نتنياهو حاضراً اجتماعاً حكومياً (رويترز)

طريقة اللعب... وتقبّل الفساد

غانتس بنفسه ليس بريئاً من هذه النتيجة، لكنَّ المسؤولية لا تنحصر به. فإسرائيل تعيش أزمة وطنية كبرى، سياسية ومجتمعية شاملة، والشارع يتجه نحو اليمين بشكل جارف، وكما في كل حرب... يتجه أكثر وأكثر إلى اليمين. بينما غانتس يُعد من الجناح الليبرالي، وكان قد أعرب عن تأييده لـ«حل الدولتين».

أيضاً، ليست «حماس» وحدها، بل أيضاً اليمين الحاكم نجح في تقويض هيبة ومكانة الجيش وغيره من أجهزة الأمن. ومع أن الجيش ما زال أكثر مؤسسة رسمية تحظى باحترام الناس وثقتهم، فقد انخفضت نسبة الثقة به من 87 في المائة إلى 63 في المائة. وقسم كبير من الشارع يسير وراء الشعارات العاطفية فارغة المضمون، وتفتش عن قائد «أزعر» و«فهلوي» و«يتقن اللعب والخداع» لا عن قائد «رمادي بارد».

وفي مكان ما، لم يعد الجمهور أيضاً ينفر من «القائد الفاسد»، خصوصاً في يمين الخريطة الحزبية. فوفق استطلاع أجراه «المعهد الإسرائيلي للديمقراطية»، ونُشر عام 2018، قال 47 في المائة من المستفتين إن القيادة السياسية في إسرائيل «فاسدة». وفي تحليل النتائج، تبين أن هذه النسبة تنخفض لدى ناخبي اليمين إلى 25 في المائة، أي إن غالبية 75 في المائة لا يرون أن القيادة السياسية فاسدة، مع أن رئيس الوزراء يحاكَم بتهمة الفساد، وهناك ثلاثة وزراء أُدينوا بالفساد. ثم إن الحكومة الإسرائيلية الحالية سعت لسن قوانين تجيز للوزارات تعيين مسؤولين عديدين على أساس القرب من الوزير وليس الكفاءة. وأقرت في موازنتها صرف أكثر من 1.5 مليار دولار للأحزاب تصرفها على مصالحها الذاتية من موازنة الدولة. والمستشارة القضائية للحكومة حذرت من أن إيتمار بن غفير، وزير الأمن الداخلي، يُحدث تغييراً جوهرياً في الشرطة بما يلائم سياسة حزبه المتطرف ويختار لرئاسة الدوائر والأذرع ضباطاً مقربين منه وليس وفق معيار المهنية. وبالتالي، مضى الزمن الذي كان فيه وزير ينتحر، عندما يكتشفون أنه ارتكب مخالفة فساد. فالفساد ببساطة لم يعد أمراً معيباً.

الخوف

ثمة محنة أخرى يعيشها المجتمع الإسرائيلي تدفعه إلى قرارات وسياسات متهوّرة بعيدة عن الحكمة. فالقيادة اليمينية بمجملها، وليس فقط نتنياهو، تتبنى عقيدة الخوف والتخويف، وتبني سياستها على الاعتقاد بأن عدواً ما يلاحق اليهود لإبادتهم في كل عصر. ووفق قناعات هؤلاء «اليهود شعب الله المختار» والعالم كله يغار منهم ويحسدهم، ويريد التخلص منهم.

بدأ ذلك بالعداء للسامية في الغرب -وأوروبا بشكل خاص– وتفاقم مع «المحرقة النازية»، والآن العرب والإسلام.

طبعاً، هناك أساس لهذا الاعتقاد، فالنازية فعلاً عملت على «إبادة» اليهود. وتوجد جماعات عربية وإسلامية تطلق شعارات معادية لليهود، لكنَّ هؤلاء أقلية ضئيلة، لا تزيد نسبتها -مثلاً- على نسبة اليهود الإسرائيليين الذين يريدون إبادة الشعب الفلسطيني!

في المقابل، العرب يقدمون لإسرائيل عرضاً سخياً لإنهاء الصراع الإسرائيلي - العربي من جذوره، عبر مبادرة السلام السعودية، التي غدت مبادرة عربية تقبلها «منظمة التعاون الإسلامي» وجميع القيادة الشرعية للشعب الفلسطيني. وسيشمل العرض سلاماً شاملاً بين إسرائيل والعرب والدول الإسلامية يشمل إقامة دولة فلسطينية على مساحة 22 في المائة من فلسطين التاريخية.

قصة اللاسامية

مع هذا، يحاول قادة اليمين إقناع اليهود بأنه لا أحد معهم، وبأن اللاسامية تتحكم بمؤسسات الأمم المتحدة. واستمرت تهم اللاسامية عندما خرج ملايين الناس عبر العالم في مظاهرات غضب إثر مشاهدة صور أطفال غزة يتمزقون بحمم المتفجرات الإسرائيلية. وطالت التهم حتى محكمة الجنايات الدولية ومحكمة العدل الدولية في لاهاي، اللتين قررتا التحقيق في ممارسات إسرائيل في غزة بناءً على معطيات رهيبة وأدلة كثيرة، بينها تصريحات وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت، الذي أمر الجيش بالتعامل مع الفلسطينيين على أنهم «حيوانات»، ووزير آخر طلب إبادة غزة بقنبلة نووية، ووزير ثالث دعا إلى محو غزة. بل حتى الرئيس الأميركي جو بايدن، اتهمه بعض الوزراء بـ«التآمر مع حماس» عندما اختلف مع الحكومة الإسرائيلية.

تلاشي «حل الدولتين»

أخيراً، استطلاعات الرأي تشير إلى أن غالبية الشارع ما عاد متقبّلاً «حل الدولتين». بل حتى أجهزة الأمن الإسرائيلية، التي تبني مواقفها على أساس دراسات ومعطيات استخبارية، وترى أن المصلحة الوطنية العليا لإسرائيل تكمن في «حل الدولتين»، تقف عاجزة عن التصدّي لسياسات اليمين، وأبرزها مشاريع الاستيطان في الضفة الغربية الهادفة إلى إجهاض «حل الدولتين»، وحملات القمع الدموية، وحماية مخططات المستوطنين بما فيها طرد مزارعين فلسطينيين من أراضيهم وبيوتهم لكي يسيطروا هم عليها.

إسرائيل تعيش أزمة وطنية كبرى سياسية ومجتمعية شاملة

افتداء الأسرى الإسرائيليين... صار قضية كبيرة

عندما طلب رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، من عائلات الرهائن المحتجزين لدى «حماس»، أن يَحذروا من أن يؤدي «نضالهم الشرعي لتحرير أبنائهم» إلى تشجيع «حماس» على تشديد مطالبها في الصفقة، اختلفوا فيما بينهم؛ بعضهم وافقه وبعضهم اعترض بحجة أن نتنياهو «مخادع ويحاول منعنا من ممارسة الضغوط عليه».وفي لقائه الثاني معهم، اقترح عليهم ممارسة الضغط على «حماس» لا عليه، وعرض عليهم السفر على حساب الدولة إلى دول أوروبا وأميركا والتقاء القادة السياسيين لـ«تجنيدهم إلى جانب إسرائيل في المعركة ضد (حماس)». وبالفعل، وافق قسم كبير منهم، وسافروا، في عدة رحلات نظَّمتها وزارة الخارجية، والتقوا عدة زعماء ووزراء، ورفض آخرون هذه الرحلات مؤكدين أن نتنياهو يخدعهم.وبعدما صارت مظاهرات عائلات الرهائن يومية، صاروا يقرأون في الشبكات الاجتماعية منشورات تهاجمهم وتتهمهم بـ«طعن الدولة في ظهرها والمساس بمعنويات الجنود الإسرائيليين الذين يقاتلون العدو»، لكنهم لم يرتدعوا. وكان ردهم: «نحن دولة ديمقراطية، حرية التعبير فيها مكفولة، والاختلافات أمر صحي». ولكن، عندما بدأوا يتعرّضون لاعتداءات جسدية من نشطاء في اليمين المتطرف ينعتونهم بالخيانة، بدا الخوف يتسلل إليهم وبعضهم ارتدع عن المشاركة في المظاهرات.وعندما أطلق الوزير المتطرف إيتمار بن غفير، الرّسَن للشرطة كي تفرّقهم بالقوة وتعتدي على كثيرين منهم، لا فرق بين شابٍّ ومسنٍّ، أو بين رجل وامرأة، أُصيب متظاهر بكسور في جمجمته، فبدأت العائلات تدرك أن الحكومة اليمينية أدخلتهم إلى «الحرب الداخلية» لا «حرب غزة»، بعد اتهامهم بأنهم «أعداء». ولقد تساءلت باسمها وباسمهم، والدة أحد الجنود الأسرى: «هل يُعقَل أن

قيادة الدولة اليهودية تفقد أهم قيمة في اليهودية، افتداء الأسرى وأبدلت بها إهدار دم الأسرى بشكل متعمَّد؟».

من مظاهرات مناوئي الحكومة الإسرائيلية في تل أبيب (إ.ب.أ)

ولكن، قبل نحو أسبوعين، أزال الوزراء في حكومة نتنياهو الستار عن عورة موقفهم عندما حضروا إلى الكنيست (البرلمان) ليخاطبوا قادتهم.كانت الأنباء تتحدث عن «قبول إسرائيل المقترح الإسرائيلي للصفقة»، حسب الرئيس الأميركي جو بايدن، ووزير خارجيته أنتوني بلينكن، ومستشار الأمن القومي في البيت الأبيض جاك سوليفان. لكنَّ وزير المالية بتسلئيل سموتريتش، حضر إلى المداولات في لجنة المالية، وقال إنه لن يؤيد الصفقة الجاري العمل عليها مع «حماس». وأضاف: «ما يطلبه (يحيى) السنوار الآن هو تحرير مئات القتلة مع دم على الأيدي كي يحرّر مخطوفين. هذا الأمر من شأنه أن يؤدي إلى قتل الكثير جداً من اليهود... نحن سنقلب كل حجر كي نعيد كل المخطوفين، لكننا لن ننتحر بشكل جماعي».وفي نقاش آخر اصطدم النائب إسحاق فيندروس من «يهدوت هتوراة» لليهود المتديّنين، مع إستر بوخشتاف، أُم المخطوف ياغف بوخشتاف، بعدما طلبت الأم حق الكلام أمام اللجنة التي يترأسها فيندروف. إذ سألها: «أتريدون ممارسة نشاط سياسي حزبي؟». فصُدمت الأم وصرخت في وجهه: «أنت تتهمني بالسياسة وأنا أحاول أن أبثّ ألمي على ولدي؟ ألا تخجل من نفسك؟ أنت رجل دين وتعرف أن التوراة تعد افتداء الأسرى عملاً مقدّساً... فهل هكذا تفهم أحكام الدين؟ مَن منّا يُغلِّب السياسة الحزبية؟ مَن منّا تنازل عن القِيَم؟».في الواقع، الكلام عن القِيَم يكثر هذه الأيام في إسرائيل وسط أجواء التوتر الشديد والحرب متعددة الجبهات. فعلى هامش هذه الحرب ثمة تراجع صارخ وغير مسبوق عن قِيَم كثيرة. وهناك مَن يشعر بأن مصير القِيَم صار أخطر بكثير من السؤال عمّن يحكم إسرائيل في المرحلة التالية، بعد استقالة بيني غانتس وغادي آيزنكوت من الحكومة. وكثرة يقولون إن هناك ما يهدّد مستقبل إسرائيل برمّتها، لأنها بُنيت على أساس تلك القِيَم... وأهمها: افتداء الأسرى.وإلى جانب أحكام الدين في الموضوع، توجد مسألة استراتيجية تتعلق بها. فامتناع الحكومة عن الذهاب إلى صفقة لتحرير الأسرى، البالغ عددهم اليوم 120 أسيراً، يثير شكوكاً لدى كل جندي يحارب في الميدان حول مصيره. فيتساءل: «هل إذا وقعتُ في الأسر، سيصيبني ما يصيب هؤلاء الأسرى؟ سأتعفّن في نفق تحت الأرض ولا يسأل عني أحد؟ أهذه هي إسرائيل التي أنتمي إليها وأحارب لأجلها وأفتديها بروحي وحياتي؟».وعليه، فالقضية هي: هل يستطيع أن يحارب بإقدام وشجاعة مَن يسكنه هاجس كهذا؟