مصر تودع سيد القمني في هدوء

اشتهر بكتاباته المناوئة لـ«الإسلام السياسي»

الراحل سيد القمني
الراحل سيد القمني
TT

مصر تودع سيد القمني في هدوء

الراحل سيد القمني
الراحل سيد القمني

غيب الموت، مساء أول من أمس، الكاتب المصري سيد القمني، عن عمر ناهز 75 عاماً، بعد سنوات طويلة من المشاركة فكرياً في معارك جدلية، وإثارته لأفكار مناوئة لـ«الإسلام السياسي». ونعى عدد من الكتاب والصحافيين والفنانين المصريين، الكاتب الراحل، أمس، عبر صفحاتهم الرسمية بمواقع التواصل الاجتماعي، وورى جثمانه الثرى أمس، بمقابر العائلة بمدينة بلبيس بمحافظة الشرقية (شمال شرقي القاهرة) في أجواء هادئة، خلت من التغطيات الإعلامية أو الحضور الرسمي.
وتخصص القمني، المولود في 13 مارس (آذار) عام 1947 بمدينة الواسطي في محافظة بني سويف (جنوب القاهرة)، لأب أزهري يعمل بالتجارة، في بحوث التاريخ الإسلامي، والجماعات الإسلامية، ومن أبرز مؤلفاته «أهل الدين والديمقراطية»، و«الجماعات الإسلامية رؤية من الداخل»، و«الأسطورة والتراث»، و«النبي إبراهيم والتاريخ المجهول»، و«قصة الخلق»، و«العرب قبل الإسلام»، وفاز بجائزة الدولة التقديرية في العلوم الاجتماعية لعام 2009.
ولطالما أثارت أفكار القمني الجدل، وخلفت معارك قضائية، من بينها الدعوى التي رفعها الداعية الإسلامي يوسف البدري، ضد وزير الثقافة المصرية آنذاك، الدكتور فاروق حسني، وأمين المجلس الأعلى للثقافة، علي أبو شادي، على خلفية فوز القمني بجائزة الدولة للعلوم الاجتماعية، التي كانت تبلغ قيمتها حينها 200 ألف جنيه مصري (الدولار الأميركي يعادل الآن 15.6 جنيه مصري تقريباً)، إذ اعتبر البدري منح الجائزة للقمني «إهداراً للمال العام»، حسب وصفه.
وفي عام 2016، حقق النائب العام المصري في بلاغ قدمه المحامي خالد المصري، ضد القمني، اتهمه فيه بـ«ازدراء الدين الإسلامي»، على خلفية ما قاله في ندوة أقامتها منظمة «أدهوك» في العاصمة البلجيكية بروكسل، حول الإسلام السياسي.
ومن بين أشهر معارك القمني، الذي درس الفلسفة، طرحه لكتاب «الحزب الهاشمي»، في منتصف تسعينات القرن الماضي، إذ انتقد الكاتب الراحل «المواطنين الذين يسهل عليهم الاحتيال باسم الدين، من قبل جماعات الإسلام السياسي»، وهو ما وصفه بعملية «تسليم العقول».
وفجر القمني موجة من الجدل مرة أخرى، في عام 1997، بعد طرحه كتاب «رب هذا الزمان» الذي صادره «مجمع البحوث الإسلامية»، التابع لمشيخة الأزهر، وتسبب الكتاب في استجواب القمني، بنيابة أمن الدولة العليا.
لكن لهجة القمني المناوئة للإسلام السياسي، تصاعدت عقب تفجيرات طابا في أكتوبر (تشرين الأول) من عام 2004، حيث هاجم قيادات في تيار الإسلام السياسي، بشكل علني، قبل أن يشير إلى تلقيه «العديد من رسائل التهديد بالقتل في حالة عدم تراجعه عن أفكاره».
وكشف القمني أن «الأمن المصري أحاطه بحراسة خاصة بعد اكتشاف رسوم تشير إلى موقع سكنه عند تلك التنظيمات»، حسب ما أعلنه آنذاك.
واعتبر القمني خلال هجومه على تيار الإسلام السياسي في العقد الأول من الألفية الجديدة أن «الخلاف بين الحركات الإسلامية ليس خلافا نوعياً»، مبدياً استغرابه من «تحريم بعض الإسلاميين للديمقراطية، في الوقت الذي يشاركون فيه بالعمل السياسي»، على حد تعبيره.
وجدد سيد القمني انتقاداته لتنظيم «الإخوان المسلمين» في عام 2013، وشن هجوماً واسعاً على يوسف القرضاوي، متهماً أعضاء الإخوان بـ«التلون حسب الظرف والحالة»، ولفت إلى وجود «تعارض بين ما يقوله الإخوان وما يفعلونه»، حسب وصفه، معتبراً شعار «الصحوة الإسلامية» الذي روجت له جماعات الإسلام السياسي «خديعة، واجتراراً لفوضى سياسية»، لافتاً إلى أن «طابع التنظيم يغلب على عناصر الإخوان، لتعودهم على الطاعة المطلقة».
وفي شهر مارس من العام الماضي، تعرض منزل القمني للسرقة، وتخريب كل ممتلكاته، إذ أعلن في مداخلة تلفزيونية وقتئذ أنه «تمت سرقة الذهب الموجود في منزله»، موضحاً «أن عملية السرقة ليست عادية، لأنها اشتملت على حالة من الكراهية»، على حد تعبيره، وأكد أنه «كان يهتم بالمقتنيات التاريخية وتمت سرقتها بأكملها، كالكثير من السيوف التاريخية».



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)