«قصر ثربان»... تاريخ 200 عام يلوّن 52 لوحة

الفنان حسن مداوي يشير للوحة «قصر ثربان» ويحكي قصتها
الفنان حسن مداوي يشير للوحة «قصر ثربان» ويحكي قصتها
TT

«قصر ثربان»... تاريخ 200 عام يلوّن 52 لوحة

الفنان حسن مداوي يشير للوحة «قصر ثربان» ويحكي قصتها
الفنان حسن مداوي يشير للوحة «قصر ثربان» ويحكي قصتها

بينما يعتز الألمان بقصر «نويشفانشتاين» الأثري ويتباهى البريطانيون بقلعة أدنبرة التاريخية، يفخر التشكيلي السعودي حسن مداوي بـ«قصر ثربان» الواقع في محافظة النماص (جنوب غربي السعودية)، الذي يقارب عمره الـ200 عام، ليوثق عراقة وأصالة هذا المبنى، في معرضه الذي حمل اسم «قصر ثربان»، ويضم 52 لوحة، يستضيفه حالياً مركز «تراث الصحراء»، في مدينة الخبر.
ولا يقلّ «قصر ثربان» بقيمته عن القصور والقلاع الأثرية العالمية، فهو من أهم المعالم التاريخية في المنطقة بشكل عام، وجنوب السعودية بشكل خاص. تغنّى به العديد من الشعراء لفرادته وأقدميته، إذ يعود تاريخ بنائه إلى نحو قرنين من الزمان، مما استلهم الفنان مداوي في مجموعة لوحات من روح هذا القصر العريق والمواقع المحيطة به.
يتحدث مداوي لـ«الشرق الأوسط» عن إعجابه بقصر ثربان الذي جعل لوحته هي الأساسية في المعرض، مع لوحات أخرى اتخذت تسمياتها من مواقع في محافظات النماص وتنومة وقرى مجاورة لها في جنوب السعودية، توثيقاً لجماليات الطراز المعماري الذي امتازت به هذه المنطقة. قائلاً: «أنا معجب بالنمط المعماري القديم المبني بالحجارة، لأنّها من مكونات الأرض، وأشعر بأنّها متناسقة جداً مع الطبيعة، وفي اعتقادي فإنّ الإنسان البدائي القديم الذي عاش في تلك المنطقة، استطاع أن يتعايش مع تضاريسها وطقسها بعفوية وانسجام، ليبني هذه المباني من حجارتها».
ويضيف مداوي: «لم يتدخل في تصميم الإنسان آنذاك أي حضارة أخرى، بل هي تصاميم خاصة للمنطقة وأهلها وتراثها، في تناسب مذهل مع الطبيعة، ومن دون أي أدوات هندسية، نجد البيوت حينها، كيف كانت تُبنى بعفوية وإتقان وقوة ومن عمق الأرض وأشجارها وصخورها».
ويوجز مداوي ذلك بقوله: «احتفظت الصخرة بحقها في المكان»، بمقارنته مع الإنسان المعاصر الذي استخدم الديناميت والجرافات لجرف الأرض والأشجار وكسر الصخور، ليبني القلاع والقصور والبيوت، بعكس الإنسان القديم الذي اعتبر الصخرة جزءاً من البيت وقاعدة له، وأبقى أشجار الرمان والتين تنمو بأمان بين أزقة البيوت، مما صنع هذا التكوين الجمالي الفريد.
مداوي المهتم بالأسلوب الواقعي التسجيلي، يأتي «قصر ثربان» ليكون معرضه الأول، رغم أنّ سيرته الفنية تتجاوز العشرين عاماً، ويوضح هنا، أنّ الأمر تتطلب منه الكثير من الوقت، إذ تستغرق اللوحة الواحدة منه نحو شهرين إلى ثلاثة. ويضيف: «أعددت قبل جائحة كورونا 30 لوحة، وكنت مستعداً حينها، لإقامة معرضي الأول، من ثمّ جاءت الجائحة وتوقفت الخطط والأنشطة مؤقتاً، وفي تلك الفترة وجدت الفرصة لأرسم، فزاد عدد اللوحات إلى 52 لوحة».
وبعض أعمال مداوي المعروضة يصل عمرها لنحو 15 عاماً، إلا أنّ غالبيتها حديثة، رسمها في السنوات الثلاث الأخيرة، وتُعرض لأول مرة في «قصر ثربان». وعن اختياره لهذا القصر تحديداً اسماً للمعرض يقول: إنّ «قصر ثربان هو رمز من رموز منطقة عسير، وهو مقر الحكم والإمارة لبني شهر، ويقع في قلب مدينة النماص». ويردف: «شارك في بناء القصر معظم القبائل، لأنّه كان يُعتبر المقر بالنسبة لهم، فكل قبيلة شاركت بما تستطيع في جلب الحجارة والأخشاب والمعاونة اليدوية في بنائه وتشييده، لأنّه يمثلها جميعها». ويفيد مداوي بأنّ قصر ثربان رُمم في الآونة الأخيرة، بنفس المواد القديمة، بحيث حافظ على طابعه القديم، وأصبح الآن مزاراً ورمزاً للمنطقة، وهو أشهر معلم فيها.
ويرى مداوي أنّ الفنان ابن بيئته وإن ابتعد عنها، قائلاً: «عشت طفولتي وشبابي إلى سن العشرين في النماص، كنت بين تلك البيوت والمدرجات الزراعية، أزرع مع أهلي وأرعى الغنم. عشت هذه الحياة بكل تفاصيلها، وهي تؤثر بالفنان. فالفنان بطبيعته متأمل جيد للطبيعة من حوله، وهو ما أسرني، حتى أني لم أستطع البحث عن أساليب جديدة في الفن التشكيلي، إذ أجد الفن الواقعي التسجيلي هو الأنسب لإظهار البيئة كما هي».
ومع كثافة المشهد الفني السعودي الحديث وكثرة الفنانين التشكيليين، يوضح مداوي أنّ بصمته الفنية تكمن في عدم تأثره بأحد، ويضيف: «أعتقد أنّ فرادتي تكمن في اعتماد الأسلوب الواقعي، وتركيزي على الدسامة في اللون، مع استخدام السكين في غالبية أعمالي، وليس الفرشاة، لأنّي أشعر أنّ السكين تعطي قوة للون ومتانة للوحة أيضاً».
ويشير مداوي إلى كونه من الفنانين القلائل في السعودية ممن يرسمون بالأسلوب الواقعي، مضيفاً: «نحن قلة... وأشعر أنّ تراثنا وموروثنا الشعبي، من عادات وتقاليد ومعمار وطبيعة بأمس الحاجة لهذا الأسلوب، لأنّه لم يُشبع بعد، في حين أنّ الأساليب الحديثة، خاصة التجريد والمدارس المفاهيمية وغيرها، لا تستطيع إظهار هذا الطابع الفريد».



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)