متحف تاريخ الحاسوب في «سيليكون فالي» يستعد لاستقبال زواره

أقدم مقتنياته تعود لبداية القرن الثامن عشر

TT

متحف تاريخ الحاسوب في «سيليكون فالي» يستعد لاستقبال زواره

يفخر متحف تاريخ الحاسوب في ماونتن فيو باقتناء أكبر مجموعة من التحف الحاسوبية في العالم، ويباهي بابتكارات مثل «إينياك»، أول حاسوب إلكتروني للأغراض العامة، وحاسوب «كراي - 1» فائق السرعة، والحاسوب المحمول والثقيل للغاية «أوزبورن»، والحاسوب الشخصي الأسطوري «أبل آي»، و«إنيغما»، آلة الحرب العالمية الثانية ذات الأهمية التاريخية التي استُخدمت في تشفير تحركات قوات المحور.
ولكن صدقونا عندما نقول إنه يجب عليك ألا تكون مهووساً بالحواسيب حتى تستمتع بهذا المتحف. فهناك عرض كامل على إبريق شاي (النموذج الأسطوري المنحني ثلاثي الأبعاد الذي أطلق العنان لعالم الصور المنشأة بالحاسوب). إلى جانب المزار المقدس للعبة الفيديو اليابانية «باك مان» من ثمانينات القرن العشرين.
لقد لمسنا الحماس اللامحدود للأمين الأول لمتحف الحاسوب، داغ سبايسر، مهندس الأجهزة الأسبق والكاتب التقني، المكتوب على لوحة سيارته عبارة «تورينغ 1» -إشارةً إلى عالم الرياضيات البريطاني البارع الذي كسر شفرات آلة «إنيغما» الألمانية- كإشارة إلى النقاط البارزة. عندما يُعاد افتتاح المتحف للجمهور الأسبوع القادم، سوف تكون مستعداً لزيارته.
فيما يلي نسخة معدّلة من حوارنا:
> ما أقدم مقتنيات المتحف؟
- أقدم عنصر في المقتنيات هي مجموعة من «نابير بونز»، قطعة فنية لما قبل الحوسبة تعود لنحو عام 1700. إنها مجموعة جميلة من القضبان الخشبية، مع جداول الضرب المحفورة بدقة. وباستخدام القضبان، يمكن اختزال الضرب إلى الجمع، والقسمة، والطرح.
> أيُّ معروضات المتحف تثير اندهاش عشاق التقنية للغاية؟ وما عنصر الإثارة المبهر لغير التقنيين؟
- هناك بعض التداخل في عامل الدهشة بين التقنيين وغير التقنيين. على سبيل المثال، «راماك» -أول محرك أقراص في العالم- يحتوي على نحو 3.75 ميغابايت من البيانات وهو بحجم الثلاجة المنزلية، الأمر الذي يراه الجميع تقريباً مفاجئاً للغاية.
بالنسبة إلى عشاق التقنيات، أعتقد أن رؤية حاسوب محمول أصليٍّ من تصميم «سايمور كراي» للكومبيوتر فائق السرعة طراز «كراي - 1» هو أمر مثير للاهتمام، تماماً كما هو الحال مع الحاسوب «كراي - 1» ذاته، والذي يقع إلى جانبه مباشرة. كان «كراي - 1» أسرع حاسوب في العالم لأكثر من خمس سنوات متتالية.
> ما الذي لا نعرفه عن آلة «إنيغما» الألمانية النازية وكاسري الشفرات؟
- استخدم المشغلون العسكريون لآلة «إنيغما» الألمانية الشفرات التي تتغير على فترات متفاوتة -مع استمرار مجريات الحرب العالمية الثانية، وكانت هناك تغييرات متعددة في الشفرات بصفة يومية. وقد انكسر أسلوب «إنيغما» إلى حد كبير بفضل ثلاثة من خبراء فك التشفير البولنديين في عشرينات القرن العشرين. وقد اعتمد البريطانيون على عملهم وأتمتته على نطاق واسع لإتاحة الفرصة المفيدة، والعاجلة، لكسر شفرة العدو على نطاق كبير.
لا تزال آلات «إنيغما» متداولة إلى حد كبير، وإن كانت مجرد عناصر لهواة الجمع والاقتناء. وبما أن الدوائر الكهربائية فيها بسيطة للغاية، فإن معظمها لا يزال يعمل أو يمكن تشغيله من جديد. وهي سهلة التشغيل، ويمكن الاعتماد عليها، ومتينة للغاية، كما هو متوقع من التكنولوجيا المخصصة للاستخدام العسكري.
حقيقة طريفة: في بعض الأحيان، تُعقد المسابقات لفك شفرة رسائل «إنيغما» الأصلية. إذ تُرسل رسالة قصيرة عبر الهواء بشفرة «مورس»، ومن يستطيع فك شفرتها يفوز أولاً!
> هل لديك حقاً قطعة مهمة من تاريخ الحاسوب جاءت من إحدى حانات «سانيفال» في كاليفورنيا من بين جميع الأماكن؟
- نعم! إنه النموذج الأوّلي للعبة الفيديو «بونغ» من عام 1972، والذي تم تثبيته لأول مرة في حانة «آندي كاب» في «سانيفال». وبعد أسبوعين من التثبيت، طُلب من آل ألكورن، مهندس لعبة «بونغ»، فحص الجهاز لأنه يبدو معطلاً. واتضح أن الجهاز ليس معطلاً، بل كان صندوق العملات المعدنية الخاص بلعبة «بونغ» ممتلئاً عن آخره، مما يعكس وجود سوق صحية ورائجة لألعاب الفيديو آنذاك. وكان من شأن شركة «أتاري» التي يعمل لديها المهندس ألكورن أن تتصدر ثورة ألعاب الفيديو فيما بعد.
> هل ورث المتحف أي شيء من شركة «فرايز إلكترونيكس» المتوقفة عن العمل الآن؟
- نحن نناقش الأمر معهم الآن. كانت الشركة جزءاً رئيسياً من تاريخ «سيليكون فالي». ونأمل أن نتمكن من الحفاظ على بعض موادهم حتى تتمكن الأجيال القادمة من فهم ماهية المؤسسة من زاويتها التجارية والثقافية وما كانت عليه من قبل.
> قد يعتقد المهوسون بالتقنية أن الورق من مقتنيات الماضي، ولديك مجموعة كبيرة من الوثائق. ما إحدى القطع الرائعة من المقتنيات المعرّضة للزوال؟
- من المقتنيات المفضلة لديّ «إكليل بطاقة الإجازات المثقوب» الذي صُنع في الستينات. كانت شركة «آي بي إم» قد حددت «آي بي إم كارد» في عام 1928 للمعدات المكتبية الميكانيكية. وكانت البطاقات تُصنع بالمليارات إلى أن أصبحت عتيقة بفضل استحداث أساليب الإدخال على الإنترنت في منتصف سبعينات القرن العشرين.
وبالحديث عن الورق، لدينا أيضاً أحد أكبر السجلات الورقية في تاريخ الحوسبة في العالم، مع ما يقارب الميل الخطي الواحد من الوثائق النادرة والفريدة من نوعها من المفكرين الرواد في عالم الحوسبة. خلال انتشار فيروس «كورونا»، شهدنا زيادة كبيرة في عدد طلبات البحث والأشخاص الذين يدخلون إلى أرشيفنا. لذا، فإن تاريخ الحاسوب يواصل الاستمرار على الرغم من التحديات.
- خدمات «تريبيون ميديا»



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)