سائق سيارة إسعاف.. نقلت سيارته جثته في تعز

غدره الحوثيون بوابل من الرصاص عندما كان ينقل جرحى نحو المستشفى

عبد الحليم الأصبحي ومعاونه جمال القدسي (من أرشيف عائلته)
عبد الحليم الأصبحي ومعاونه جمال القدسي (من أرشيف عائلته)
TT

سائق سيارة إسعاف.. نقلت سيارته جثته في تعز

عبد الحليم الأصبحي ومعاونه جمال القدسي (من أرشيف عائلته)
عبد الحليم الأصبحي ومعاونه جمال القدسي (من أرشيف عائلته)

لم يدر في خلد المُسعف الطبي عبد الحليم الأصبحي أنه سيكون هو ذاته ضحية الشيء الذي ذهب لإنقاذ الآخرين منه، وأن سيارة الإسعاف التي يقودها منذ سنوات طويلة، وأنقذ بها حياة كثير من الأشخاص، هي السيارة ذاتها التي سوف تحمل جثته ذات يوم، وأن مستشفى الثورة الحكومي، أكبر مستشفيات مدينة تعز وسط اليمن، الذي يعمل فيه منذ سنوات طويلة، ويجتاز بوابته صباح كل يوم، سيدخله هذه المرة، لأول وآخر مرة، لا وهو يجلس خلف مقود سيارة الإسعاف، وإنما جثة هامدة وضحية أخرى في بلد لم يتعب بعد من حفر القبور وحمل الجثامين.
هكذا بدأت القصة؛ يوم الاثنين 20 أبريل (نيسان) الحالي تم الإبلاغ عن وجود أربعة جرحى، حالتهم حرجة، من جنود «اللواء 35 مدرع»؛ اللواء الذي أمطرته ميليشيات الحوثي والقوات الموالية للرئيس السابق بمئات القذائف، وفرضت عليه، طوال أسبوع كامل، حصارًا مشددًا على خلفية إعلان جنود اللواء الولاء للقيادة السياسية الشرعية للبلاد. استجاب عبد الحليم الأصبحي لضميره الإنساني والوازع الأخلاقي لمهنته وقرر، رغم معرفته بخطورة الوضع، الاستجابة لنداء الاستغاثة، فتوجه، بسيارة الإسعاف، إلى مقر «اللواء 35 مدرع»، قرب مطار تعز الدولي، برفقة معاونه الدائم جمال القدسي.
ويسرد أحد أقرباء الأصبحي لـ«الشرق الأوسط» تفاصيل الجريمة المروعة: «تمكن عبد الحليم بعد مفاوضات مرهقة، من إقناع مسلحي الحوثيين بالسماح له بالمرور والدخول إلى مقر اللواء لنقل الجنود الأربعة وإسعافهم إلى المستشفى وفق ما تقتضيه القوانين الدولية وأعراف الحروب وأخلاق اليمنيين. وبالفعل؛ نجح في اقتطاع هدنة مؤقتة وتمكن من الدخول إلى اللواء بغرض إسعاف الجرحى».
ويضيف المصدر العائلي: «لكن سيارة الإسعاف تعرضت أثناء خروجها، بشكل مفاجئ وغادر، لوابل من الرصاص الحي أطلقه القناصة المتمركزون على إحدى المناطق المطلة على اللواء وبوابته، فأصيب عبد الحليم (السائق) بثلاث رصاصات قاتلة، إحداها في الرأس، وأصيب معاونه هو الآخر إصابة خطرة. عندما وصلت سيارة الإسعاف إلى المستشفى بعد تدخل وجهاء ومسؤولين في السلطة المحلية، كان عبد الحليم قد فارق الحياة، في حين لا يزال معاونه جمال القدسي، حتى الآن، في غرفة العناية المركزة بمستشفى اليمن الدولي». إلى جانب أنه «مشرف خدمات وممرض في مستشفی الثورة العام بمدينة تعز»، كان عبد الحليم الأصبحي شخصًا ودودًا ومبادرًا على الصعيد الاجتماعي، فضلاً عن أنه أحد أوائل الشباب الذين خرجوا في الثورة على نظام الرئيس السابق علي عبد الله صالح في فبراير (شباط) 2011م. وذكرت الناشطة الحقوقية البارزة إشراق المقطري لـ«الشرق الأوسط» أن عبد الحليم الأصبحي هو أيضا «أحد مؤسسي مسيرة الحياة»، وهي مسيرة شبابية احتجاجية كبيرة، قطعت مسافة 400 كلم، من مدينة تعز إلى العاصمة صنعاء، سيرًا على الأقدام مطلع 2012م وقمعتها قوات الأمن بعنف، احتجاجًا على ما وُصف حينها بـ«خيانة الثورة الشبابية والتفريط بدماء الشهداء من خلال منح القتلة ورموز النظام السابق الحصانة».
وقالت المقطري في اتصال أجرته معها «الشرق الأوسط»: «صادفت اليوم عددًا من جرحی (اللواء 35) وجنوده، وقد تأثرت كثيرًا بما يكنونه له من مشاعر ومحبة، وكان أحدهم يترحّم عليه بحُرقة، ممتدحين أخلاقه وطريقة تعامله وتفانيه في مساعدة الآخرين».
عمار السوائي، مدير مؤسسة «تمدين» لحقوق الإنسان، قال لـ«الشرق الأوسط»: «معظم الناس في تعز يعرفون عبد الحليم ويحبونه جدًا لأخلاقه ونبله وتفانيه في خدمة الآخرين. وفي مدينة صغيرة واجتماعية مثل تعز، يعرف السكان المحليون بعضهم بعضًا جيدًا، خاصة أن عبد الحليم من ذلك النوع من الأشخاص الذين يتركون انطباعًا حميمًا لدى كل من عرفوه، أو تعاملوا معه».
وأضاف السوائي: «أنا أيضا أشعر باليتم لخسارة عبد الحليم الأصبحي»، محملاً «جماعة الحوثيين المسؤولية الجنائية والأخلاقية» عنه وعن جميع ضحايا القتال المسلح، وطالب في الوقت نفسه السلطات المحلية في مدينة تعز «بسرعة فتح تحقيق في الجريمة الشنيعة المنافية للأخلاق والأعراف العالمية، كأقل ما يستحقه الشهيد الذي أحب مدينته وضحى من أجلها». وقد اتصلت «الشرق الأوسط» بإدارة أمن محافظة تعز لاستفسارها عن الحادثة، إلا أنها اعتذرت عن التعليق.
يُقال إن الإنسان أثناء الموت يرى، في أجزاء من الثانية، ومضات من حياته وذكرياته على هيئة لقطات بصرية خاطفة. من المؤكد أن لقطةً من الشريط البصري الذي استعرضه عبد الحليم الأصبحي أثناء موته، كانت متعلقة بزوجة وحيدة صارت أرملة، وستة أطفال صاروا، منذ 20 أبريل 2015م أيتامًا، بلا أب يوصلهم إلى المدرسة كما كان يفعل عادةً، ولا مُعيل يتولى الإنفاق عليهم وإعاشتهم، بينما لا يزال القناص القاتل طليقًا يوجّه رصاصه إلى صدور ورؤوس اليمنيين!



انخفاض شديد في مستويات دخل الأسر بمناطق الحوثيين

فتاة في مخيم مؤقت للنازحين اليمنيين جنوب الحُديدة في 4 يناير الحالي (أ.ف.ب)
فتاة في مخيم مؤقت للنازحين اليمنيين جنوب الحُديدة في 4 يناير الحالي (أ.ف.ب)
TT

انخفاض شديد في مستويات دخل الأسر بمناطق الحوثيين

فتاة في مخيم مؤقت للنازحين اليمنيين جنوب الحُديدة في 4 يناير الحالي (أ.ف.ب)
فتاة في مخيم مؤقت للنازحين اليمنيين جنوب الحُديدة في 4 يناير الحالي (أ.ف.ب)

بموازاة استمرار الجماعة الحوثية في تصعيد هجماتها على إسرائيل، واستهداف الملاحة في البحر الأحمر، وتراجع قدرات المواني؛ نتيجة الردِّ على تلك الهجمات، أظهرت بيانات حديثة وزَّعتها الأمم المتحدة تراجعَ مستوى الدخل الرئيسي لثُلثَي اليمنيين خلال الشهر الأخير من عام 2024 مقارنة بالشهر الذي سبقه، لكن هذا الانخفاض كان شديداً في مناطق سيطرة الجماعة المدعومة من إيران.

ووفق مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية، فقد واجهت العمالة المؤقتة خارج المزارع تحديات؛ بسبب طقس الشتاء البارد، ونتيجة لذلك، أفاد 65 في المائة من الأسر التي شملها الاستطلاع بانخفاض في دخلها الرئيسي مقارنة بشهر نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي والفترة نفسها من العام الماضي، وأكد أن هذا الانخفاض كان شديداً بشكل غير متناسب في مناطق الحوثيين.

وطبقاً لهذه البيانات، فإن انعدام الأمن الغذائي لم يتغيَّر في المناطق الخاضعة لسيطرة الحكومة اليمنية، بينما انخفض بشكل طفيف في المناطق الخاضعة لسيطرة الحوثيين؛ نتيجة استئناف توزيع المساعدات الغذائية هناك.

الوضع الإنساني في مناطق الحوثيين لا يزال مزرياً (الأمم المتحدة)

وأظهرت مؤشرات نتائج انعدام الأمن الغذائي هناك انخفاضاً طفيفاً في صنعاء مقارنة بالشهر السابق، وعلى وجه التحديد، انخفض الاستهلاك غير الكافي للغذاء من 46.9 في المائة في نوفمبر إلى 43 في المائة في ديسمبر (كانون الأول) الماضي.

وضع متدهور

على النقيض من ذلك، ظلَّ انعدام الأمن الغذائي في المناطق الخاضعة لسيطرة الحكومة اليمنية دون تغيير إلى حد كبير، حيث ظلَّ الاستهلاك غير الكافي للغذاء عند مستوى مرتفع بلغ 52 في المائة، مما يشير إلى أن نحو أسرة واحدة من كل أسرتين في تلك المناطق تعاني من انعدام الأمن الغذائي.

ونبّه المكتب الأممي إلى أنه وعلى الرغم من التحسُّن الطفيف في المناطق الخاضعة لسيطرة الحوثيين، فإن الوضع لا يزال مزرياً، على غرار المناطق الخاضعة لسيطرة الحكومة، حيث يعاني نحو نصف الأسر من انعدام الأمن الغذائي (20 في المائية من السكان) مع حرمان شديد من الغذاء، كما يتضح من درجة استهلاك الغذاء.

نصف الأسر اليمنية يعاني من انعدام الأمن الغذائي في مختلف المحافظات (إعلام محلي)

وبحسب هذه البيانات، لم يتمكَّن دخل الأسر من مواكبة ارتفاع تكاليف سلال الغذاء الدنيا، مما أدى إلى تآكل القدرة الشرائية، حيث أفاد نحو ربع الأسر التي شملها الاستطلاع في مناطق الحكومة بارتفاع أسعار المواد الغذائية كصدمة كبرى، مما يؤكد ارتفاع أسعار المواد الغذائية الاسمية بشكل مستمر في هذه المناطق.

وذكر المكتب الأممي أنه وبعد ذروة الدخول الزراعية خلال موسم الحصاد في أكتوبر (تشرين الأول) ونوفمبر، الماضيين، شهد شهر ديسمبر أنشطةً زراعيةً محدودةً، مما قلل من فرص العمل في المزارع.

ولا يتوقع المكتب المسؤول عن تنسيق العمليات الإنسانية في اليمن حدوث تحسُّن كبير في ملف انعدام الأمن الغذائي خلال الشهرين المقبلين، بل رجّح أن يزداد الوضع سوءاً مع التقدم في الموسم.

وقال إن هذا التوقع يستمر ما لم يتم توسيع نطاق المساعدات الإنسانية المستهدفة في المناطق الأكثر عرضة لانعدام الأمن الغذائي الشديد.

تحديات هائلة

بدوره، أكد المكتب الإنمائي للأمم المتحدة أن اليمن استمرَّ في مواجهة تحديات إنسانية هائلة خلال عام 2024؛ نتيجة للصراع المسلح والكوارث الطبيعية الناجمة عن تغير المناخ.

وذكر أن التقديرات تشير إلى نزوح 531 ألف شخص منذ بداية عام 2024، منهم 93 في المائة (492877 فرداً) نزحوا بسبب الأزمات المرتبطة بالمناخ، بينما نزح 7 في المائة (38129 فرداً) بسبب الصراع المسلح.

نحو مليون يمني تضرروا جراء الفيضانات منتصف العام الماضي (الأمم المتحدة)

ولعبت آلية الاستجابة السريعة متعددة القطاعات التابعة للأمم المتحدة، بقيادة صندوق الأمم المتحدة للسكان، وبالشراكة مع برنامج الأغذية العالمي و«اليونيسيف» وشركاء إنسانيين آخرين، دوراً محورياً في معالجة الاحتياجات الإنسانية العاجلة الناتجة عن هذه الأزمات، وتوفير المساعدة الفورية المنقذة للحياة للأشخاص المتضررين.

وطوال عام 2024، وصلت آلية الاستجابة السريعة إلى 463204 أفراد، يمثلون 87 في المائة من المسجلين للحصول على المساعدة في 21 محافظة يمنية، بمَن في ذلك الفئات الأكثر ضعفاً، الذين كان 22 في المائة منهم من الأسر التي تعولها نساء، و21 في المائة من كبار السن، و10 في المائة من ذوي الإعاقة.

وبالإضافة إلى ذلك، تقول البيانات الأممية إن آلية الاستجابة السريعة في اليمن تسهم في تعزيز التنسيق وكفاءة تقديم المساعدات من خلال المشاركة النشطة للبيانات التي تم جمعها من خلال عملية الآلية وتقييم الاحتياجات.