داليا أحمد وذهاب الأخلاق بين الأمم

الإعلامية السودانية الأصل تعرضت لحملة تنمّر وعنصرية

الإعلامية داليا أحمد
الإعلامية داليا أحمد
TT

داليا أحمد وذهاب الأخلاق بين الأمم

الإعلامية داليا أحمد
الإعلامية داليا أحمد

ليس الموضوع برنامج داليا أحمد السياسي النقدي في ذاته، وطريقة عرضه. ولا إصرارها على أسلوب تقديم ثقيل لا يحبذه كثيرون. في لبنان، يجد المرء نفسه «مرغماً» على اتخاذ موقف أخلاقي وسط انعدام الأخلاقيات. على قناة «الجديد»، برنامج يدعى «فشة خلق» تقدّمه الإعلامية السودانية الأصل، المقيمة في «بلاد الأرز» منذ الطفولة. طابعه سياسي اجتماعي، تدّعي مقدّمته أنّها «تفش خلق» الشعب الموجوع، لكن الأغلبية لم تتقبلها وفق آراء ناقدة تغزو مواقع التواصل مع كل حلقة. نصحها كثر، بتغريدات لائقة، بترك الخبز للخباز ولو أكل نصفه. فهذا الكار ليس كارها، وهذا القالب ليس قالبها. للنقد الساخر بشر كاريزماتيون، الزميلة ليست منهم. إلا أنّ ما حدث معها يفرض موقفاً من نوع آخر.
سبق أن هوجمت داليا أحمد ممن وجدوها عاجزة عن إقناعهم بروحها المرحة وحسّها الساخر. وذلك طبيعي، فإرضاء الجميع مستحيل، خصوصاً في عالم النقد، فكيف إن لم يتحلَّ الإعلامي بمقوماته ليبدو كأنه يُفرض فرضاً على الناس؟ ثم فلتت الأمور. في لبنان، عام 2022. لا يزال ثمة من يشتم البشر انطلاقاً من ألوان بشرتهم! كأنّ البشرة السمراء عار يعيب صاحبها! هذا ما أصاب الإعلامية المولودة في مصر من أم مصرية وأب سوداني، حملاها إلى لبنان ولم تبلغ عامها الأول. فيه تربّت وتزوجت، وأصبحت وجهاً من وجوه محطة لبنانية، تقرأ نشرات أخبارها، وتشطح في التفاعل مع مقدّماتها الطويلة حتى باتت مُنتظرة، عند البعض.
مخيفة مواقع التواصل ومن يقف وراءها، بأقنعة ومن دونها، حين تستنهض الجيوش الإلكترونية لتنقض على الخصم. هذا دارج في لبنان، جراء الانقسامات الحزبية والمذهبية المريعة، والكراهية بين المكونات. في إمكان المتلقي الموافقة على مضمون برنامج داليا أحمد أو الاعتراض عليه. تقبّله أو رفضه. تبنّي أفكارها أو دحضها بالبراهين والحجج. أما أن تستنفر جماهير حزبية يضيق صدرها يوماً بعد آخر، للتنمّر وكيل شتائم متعلقة بلون البشرة، فذلك الإفلاس الكبير. ألا يملك «المتضررون» من برنامج الإعلامية ورقة أخرى لرميها على الطاولة سوى «إهانتها» بسمرتها؟ أين الأرقام التي قد تُسقط «ادّعاءتها»؟ أين الحجج التي قد تُحجّم حججها؟ أين العقلاء؟
خطير ما يجري في لبنان ولا يخجل به البعض. تضع داليا أحمد صور زعمائه جميعاً على الشاشة أمامها وتُلقي عليهم وصفاً يردده المقهورون كل يوم: «التماسيح». فتقوم الدنيا عليها وعلى المحطة، ويا لطيف الطف! تشتعل حرب الأحقاد، ويا للمصادفة، هذه الأنواع من الحروب تتغذى ولا تشبع. ولبنان حقل خصب لليباس الفكري المُستعمل كوقود لتأجيج الحرائق. عذراً من الأصوات الواعية واللبنانيين الإنسانيين، وممن يزن الكلام قبل النطق به، فيخشى الخدش والتجريح. ومن يخاف على ما تبقى من ماء الوجه، فلا يتورط في مزيد من تهشيم الصورة اللبنانية. هؤلاء مطر عذب في جفاف هذه الأيام.
يصبح كل شيء تافهاً في عصر الانحدار والانهيار، إلا القيم الأخلاقية وما يبقينا بمرتبة إنسان. تبقى المرجع والدليل، ونحن نشهد على أصناف التردّي. نخجل من ذكر نماذج العنصرية المقيتة على الطريقة اللبنانية في حق إعلامية أمكن «محاسبتها» بطرق قانونية، بينها الاحتكام إلى القضاء أو محكمة المطبوعات. ومعيب أن نقرأ، والعالم يطوي تاريخاً مريراً من العنصرية والتمييز، تغريدة تشبّه داليا أحمد بالإثيوبيات، «وإن وقفت تحت جسر الدورة ليلاً، لصعُب تمييزها عنهن»، كأنّ الجنسية الإثيوبية شتيمة، وكأنّهم بذلك ينتصرون لزعيمهم ويُحببون الآخرين به.
المفارقة أنّ مَن هبّوا لشتمها بلون بشرتها، فاتهم أنّ الدين الذين يتغطّون به ينصّ على تقبّل البشر كما خلقهم الله. «ولا فرق بين عربي ولا أعجمي إلا بالتقوى»، يقول الرسول الذي كان مؤذّنه بلال أسمر البشرة، كما ذكّرت الإعلامية ديما صادق في تغريدة التضامن مع داليا أحمد؛ هي الأخرى التي تطالها شتائم معيبة تتعلق بصحة ابنتها، بسبب مواقفها.
تردّ «الجديد» بمقدّمة نشرة أخبار نارية على الحملة والـ«هاشتاغات» على هيئة متاريس. وفي معرض الردّ، تؤكد انتماء الإعلامية اللبناني، «هي اللبنانية بيننا في الوطن والهوية». يترك لبنانيون كثيرون الفعل ويلحقون ردّ الفعل. لا بأس بذلّ الطوابير طوال الصيف الماضي، وبالصقيع الشتوي بلا تدفئة. ولا من يحاسب على انقطاع الكهرباء لأيام عن المدينة الحزينة، وعلى غلاء يتلف الأعصاب. سريعاً، تُحاسب داليا أحمد ويكاد يُهدر دمها.
«إنما الأمم الأخلاق»، يقول أحمد شوقي. أي موقع للبنان بين الأمم؟ الإجابة مؤسفة. «إن همُ ذهبت أخلاقهم ذهبوا»، فكان ينقص «السوشيال ميديا» لذهاب الأخلاق وتأكيد الانحطاط. لبنانيون يحاربون أقدارهم فيتصدّرون في الفكر والعلوم والإنجاز والمكانة، ولبنانيون يتقاتلون على الهويات، بأدوات العصر البائد، ببشاعة الألفاظ والحقد الطائفي. داليا أحمد ليست بارعة في برنامجها، بريقها النقدي خافت. ما كان الموضوع ليحتمل أكبر من حجمه، لولا تمادي الجهلة، أخطر الكائنات على المجتمعات.



رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
TT

رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»

إنه «فضلو» في «بياع الخواتم»، و«أبو الأناشيد الوطنية» في مشواره الفني، وأحد عباقرة لبنان الموسيقيين، الذي رحل أول من أمس (الأربعاء) عن عمر ناهز 84 عاماً.
فبعد تعرضه لأزمة صحية نقل على إثرها إلى المستشفى، ودّع الموسيقي إيلي شويري الحياة. وفي حديث لـ«الشرق الأوسط» أكدت ابنته كارول أنها تفاجأت بانتشار الخبر عبر وسائل التواصل الاجتماعي قبل أن تعلم به عائلته. وتتابع: «كنت في المستشفى معه عندما وافاه الأجل. وتوجهت إلى منزلي في ساعة متأخرة لأبدأ بالتدابير اللازمة ومراسم وداعه. وكان الخبر قد ذاع قبل أن أصدر بياناً رسمياً أعلن فيه وفاته».
آخر تكريم رسمي حظي به شويري كان في عام 2017، حين قلده رئيس الجمهورية يومها ميشال عون وسام الأرز الوطني. وكانت له كلمة بالمناسبة أكد فيها أن حياته وعطاءاته ومواهبه الفنية بأجمعها هي كرمى لهذا الوطن.
ولد إيلي شويري عام 1939 في بيروت، وبالتحديد في أحد أحياء منطقة الأشرفية. والده نقولا كان يحضنه وهو يدندن أغنية لمحمد عبد الوهاب. ووالدته تلبسه ثياب المدرسة على صوت الفونوغراف الذي تنساب منه أغاني أم كلثوم مع بزوغ الفجر. أما أقرباؤه وأبناء الجيران والحي الذي يعيش فيه، فكانوا من متذوقي الفن الأصيل، ولذلك اكتمل المشوار، حتى قبل أن تطأ خطواته أول طريق الفن.
- عاشق لبنان
غرق إيلي شويري منذ نعومة أظافره في حبه لوطنه وترجم عشقه لأرضه بأناشيد وطنية نثرها على جبين لبنان، ونبتت في نفوس مواطنيه الذين رددوها في كل زمان ومكان، فصارت لسان حالهم في أيام الحرب والسلم. «بكتب اسمك يا بلادي»، و«صف العسكر» و«تعلا وتتعمر يا دار» و«يا أهل الأرض»... جميعها أغنيات شكلت علامة فارقة في مسيرة شويري الفنية، فميزته عن سواه من أبناء جيله، وذاع صيته في لبنان والعالم العربي وصار مرجعاً معتمداً في قاموس الأغاني الوطنية. اختاره ملك المغرب وأمير قطر ورئيس جمهورية تونس وغيرهم من مختلف أقطار العالم العربي ليضع لهم أجمل معاني الوطن في قالب ملحن لا مثيل له. فإيلي شويري الذي عُرف بـ«أبي الأناشيد الوطنية» كان الفن بالنسبة إليه منذ صغره هَوَساً يعيشه وإحساساً يتلمسه في شكل غير مباشر.
عمل شويري مع الرحابنة لفترة من الزمن حصد منها صداقة وطيدة مع الراحل منصور الرحباني. فكان يسميه «أستاذي» ويستشيره في أي عمل يرغب في القيام به كي يدله على الصح من الخطأ.
حبه للوطن استحوذ على مجمل كتاباته الشعرية حتى لو تناول فيها العشق، «حتى لو رغبت في الكتابة عن أعز الناس عندي، أنطلق من وطني لبنان»، هكذا كان يقول. وإلى هذا الحد كان إيلي شويري عاشقاً للبنان، وهو الذي اعتبر حسه الوطني «قدري وجبلة التراب التي امتزج بها دمي منذ ولادتي».
تعاون مع إيلي شويري أهم نجوم الفن في لبنان، بدءاً بفيروز وسميرة توفيق والراحلين وديع الصافي وصباح، وصولاً إلى ماجدة الرومي. فكان يعدّها من الفنانين اللبنانيين القلائل الملتزمين بالفن الحقيقي. فكتب ولحن لها 9 أغنيات، من بينها «مين إلنا غيرك» و«قوم تحدى» و«كل يغني على ليلاه» و«سقط القناع» و«أنت وأنا» وغيرها. كما غنى له كل من نجوى كرم وراغب علامة وداليدا رحمة.
مشواره مع الأخوين الرحباني بدأ في عام 1962 في مهرجانات بعلبك. وكانت أول أدواره معهم صامتة بحيث يجلس على الدرج ولا ينطق إلا بكلمة واحدة. بعدها انتسب إلى كورس «إذاعة الشرق الأدنى» و«الإذاعة اللبنانية» وتعرّف إلى إلياس الرحباني الذي كان يعمل في الإذاعة، فعرّفه على أخوَيه عاصي ومنصور.

مع أفراد عائلته عند تقلده وسام الأرز الوطني عام 2017

ويروي عن هذه المرحلة: «الدخول على عاصي ومنصور الرحباني يختلف عن كلّ الاختبارات التي يمكن أن تعيشها في حياتك. أذكر أن منصور جلس خلف البيانو وسألني ماذا تحفظ. فغنيت موالاً بيزنطياً. قال لي عاصي حينها؛ من اليوم ممنوع عليك الخروج من هنا. وهكذا كان».
أسندا إليه دور «فضلو» في مسرحية «بياع الخواتم» عام 1964. وفي الشريط السينمائي الذي وقّعه يوسف شاهين في العام التالي. وكرّت السبحة، فعمل في كلّ المسرحيات التي وقعها الرحابنة، من «دواليب الهوا» إلى «أيام فخر الدين»، و«هالة والملك»، و«الشخص»، وصولاً إلى «ميس الريم».
أغنية «بكتب اسمك يا بلادي» التي ألفها ولحنها تعد أنشودة الأناشيد الوطنية. ويقول شويري إنه كتب هذه الأغنية عندما كان في رحلة سفر مع الراحل نصري شمس الدين. «كانت الساعة تقارب الخامسة والنصف بعد الظهر فلفتني منظر الشمس التي بقيت ساطعة في عز وقت الغروب. وعرفت أن الشمس لا تغيب في السماء ولكننا نعتقد ذلك نحن الذين نراها على الأرض. فولدت كلمات الأغنية (بكتب اسمك يا بلادي عالشمس الما بتغيب)».
- مع جوزيف عازار
غنى «بكتب اسمك يا بلادي» المطرب المخضرم جوزيف عازار. ويخبر «الشرق الأوسط» عنها: «ولدت هذه الأغنية في عام 1974 وعند انتهائنا من تسجيلها توجهت وإيلي إلى وزارة الدفاع، وسلمناها كأمانة لمكتب التوجيه والتعاون»، وتابع: «وفوراً اتصلوا بنا من قناة 11 في تلفزيون لبنان، وتولى هذا الاتصال الراحل رياض شرارة، وسلمناه شريط الأغنية فحضروا لها كليباً مصوراً عن الجيش ومعداته، وعرضت في مناسبة عيد الاستقلال من العام نفسه».
يؤكد عازار أنه لا يستطيع اختصار سيرة حياة إيلي شويري ومشواره الفني معه بكلمات قليلة. ويتابع لـ«الشرق الأوسط»: «لقد خسر لبنان برحيله مبدعاً من بلادي كان رفيق درب وعمر بالنسبة لي. أتذكره بشوشاً وطريفاً ومحباً للناس وشفافاً، صادقاً إلى أبعد حدود. آخر مرة التقيته كان في حفل تكريم عبد الحليم كركلا في الجامعة العربية، بعدها انقطعنا عن الاتصال، إذ تدهورت صحته، وأجرى عملية قلب مفتوح. كما فقد نعمة البصر في إحدى عينيه من جراء ضربة تلقاها بالغلط من أحد أحفاده. فضعف نظره وتراجعت صحته، وما عاد يمارس عمله بالشكل الديناميكي المعروف به».
ويتذكر عازار الشهرة الواسعة التي حققتها أغنية «بكتب اسمك يا بلادي»: «كنت أقفل معها أي حفل أنظّمه في لبنان وخارجه. ذاع صيت هذه الأغنية، في بقاع الأرض، وترجمها البرازيليون إلى البرتغالية تحت عنوان (أومينا تيرا)، وأحتفظ بنصّها هذا عندي في المنزل».
- مع غسان صليبا
مع الفنان غسان صليبا أبدع شويري مرة جديدة على الساحة الفنية العربية. وكانت «يا أهل الأرض» واحدة من الأغاني الوطنية التي لا تزال تردد حتى الساعة. ويروي صليبا لـ«الشرق الأوسط»: «كان يعد هذه الأغنية لتصبح شارة لمسلسل فأصررت عليه أن آخذها. وهكذا صار، وحققت نجاحاً منقطع النظير. تعاونت معه في أكثر من عمل. من بينها (كل شيء تغير) و(من يوم ما حبيتك)». ويختم صليبا: «العمالقة كإيلي شويري يغادرونا فقط بالجسد. ولكن بصمتهم الفنية تبقى أبداً ودائماً. لقد كانت تجتمع عنده مواهب مختلفة كملحن وكاتب ومغنٍ وممثل. نادراً ما نشاهدها تحضر عند شخص واحد. مع رحيله خسر لبنان واحداً من عمالقة الفن ومبدعيه. إننا نخسرهم على التوالي، ولكننا واثقون من وجودهم بيننا بأعمالهم الفذة».
لكل أغنية كتبها ولحنها إيلي شويري قصة، إذ كان يستمد موضوعاتها من مواقف ومشاهد حقيقية يعيشها كما كان يردد. لاقت أعماله الانتقادية التي برزت في مسرحية «قاووش الأفراح» و«سهرة شرعية» وغيرهما نجاحاً كبيراً. وفي المقابل، كان يعدها من الأعمال التي ينفذها بقلق. «كنت أخاف أن تخدش الذوق العام بشكل أو بآخر. فكنت ألجأ إلى أستاذي ومعلمي منصور الرحباني كي يرشدني إلى الصح والخطأ فيها».
أما حلم شويري فكان تمنيه أن تحمل له السنوات الباقية من عمره الفرح. فهو كما كان يقول أمضى القسم الأول منها مليئة بالأحزان والدموع. «وبالقليل الذي تبقى لي من سنوات عمري أتمنى أن تحمل لي الابتسامة».