«القاعدة في جزيرة العرب».. انكسارات عميقة

مقتل المنظّر إبراهيم الربيش ألقى حجرًا في بركة التنظيم المترهّل

«القاعدة في جزيرة العرب».. انكسارات عميقة
TT

«القاعدة في جزيرة العرب».. انكسارات عميقة

«القاعدة في جزيرة العرب».. انكسارات عميقة

ليس من قبيل المصادفة أن يُصاب «تنظيم القاعدة في جزيرة العرب» بانكسارات عميقة بعد تراجع سطوته في الداخل عقب قيام «أنصار الله» الحوثيين باجتياح مناطق جنوبية كانت تعبث بها «القاعدة»، وبعدما تخلّت الأطراف المنتفعة من بقاء التنظيم لصالح تقويض الدولة اليمنية.
إلا أن هذا الانهيار الوشيك لا يمكن تفسيره بعوامل خارجية فحسب، بل يمكن القول إن مزاحمة «داعش» لـ«القاعدة»، وانتصاراتها على الأرض وسحقها مقاتلي «القاعدة»، يرافقه الآن حملة تحوّلات هائلة لنقل «البيعة» من أيمن الظواهري إلى خليفة «داعش» المزعوم أبو بكر البغدادي.
في السياق ذاته تراجعت الحرب الأهلية بين الفريقين في مناطق التوتر على حدود العراق وسوريا بهزيمة ساحقة لتنظيم داعش. إلا أن الحرب الفكرية بدأت بين الدواعش وبقايا تنظيم القاعدة الذين فقدوا رموزهم الفكرية وانفرادهم بشرعية التنظيم السابقة، والتي ما عادت تغري الشبّان الجدد الطامحين إلى انتصارات - ولو معنوية - بعدما تحوّلت التنظيمات المسلحة من مرحلة «الحور العين» إلى «التمكين في الأرض» وبناء دولة الإسلام. ويمثل مقتل إبراهيم الربيش «المنظّر الشرعي» والقائد الميداني المقدّر عند المتعاطفين مع التنظيمات المسلحة، والقادم من خلفية شرعية أكاديمية حيث ذهب أول مرة في أفغانستان للعمل الإغاثي قبل أن ينتقل إلى فكر «القاعدة» بعد اعتقاله ونقله إلى غوانتانامو، مفصلاً مهمًا.
الربيش، ولد عام 1401هـ (أو 1399) / 1980 م (أو 1978 م)، في مدينة بريدة بالقصيم في المملكة العربية السعودية، وكان ملازمًا لبعض طلاب العلم. ولقد درس الشريعة في الجامعة قبل أن ينتقل إلى أفغانستان في مرحلة موجة «النصرة» الثانية التي جاءت عقب الضربات الأميركية لطالبان عقب أحداث 11 سبتمبر (أيلول) 2001. وهذه الموجة عادة أسست مجموعة من المرتكزات الفكرية والعسكرية والسياسية، كانت مختلفة عن إرث وثقافة «القاعديين» القدامى أبرزها الانفصال التام عن مرجعيات غير جهادية حتى على سبيل الفتوى والاستئناس، وهو ما يفسر ترقّي الربيش في التنظيم بناءً على ثقافته الشرعية.
مرحلة العودة من غوانتانامو مع 16 عائدا يوم 23 من ذي القعدة عام 1427 هـ (2006 م) كانت نقطة تحوّل عند الربيش، إذ خرج بعد إكمال «برنامج المناصحة» وقرّر إكمال الدراسات العليا في الشريعة. إلا أن ذلك الوضع لم يطل كثيرًا، إذ انتقل إلى اليمن في أبريل (نيسان) 2009م وانضم لصفوف ما يسمى بـ«تنظيم القاعدة في جزيرة العرب» في اليمن بقيادة المطلوب ناصر الوحيشي. ثم ظهر في تسجيل صوتي عبر شبكة الإنترنت يتحدث فيه عن جريمة محاولة الاغتيال الفاشلة التي تعرّض لها الأمير محمد بن نايف بن عبد العزيز، مساعد وزير الداخلية للشؤون الأمنية - حينذاك - يوم 27 أغسطس (آب) 2009 م.
«التنظير الشرعي لثقافة الاغتيال» كان الجسر الذي عبر به الربيش من ضفة «الكوادر المقاتلة» إلى مصاف «القيادات العليا» في التنظيم وبينهما فوارق كثيرة على مستوى القيمة والحماية والتأثير. ومن هنا لم يتردّد المتابعون لتحولات «تنظيم القاعدة في جزيرة العرب» في الجزم بأن الربيش هو «المنظّر» الجديد لـ«القاعدة» الجديدة على غرار فارس بن شويل، الذي يحاكيه من حيث الخطوط العريضة للتجربة، وإن كان الربيش أكثر التصاقًا بـ«القاعدة» بسبب المدة الزمنية التي مكثها في الميدان. وكانت الفكرة التي سوقها الربيش لنفسه في عهده الجديد كـ«منظّر» فكري لـ«القاعدة» هو تأسيس «ثقافة اغتيال أعداء الإسلام» بسبب تأثيراتها الدعائية البالغة، وارتدادها بفوائد كثيرة على التنظيم أهمها: خلخلة الأمن، واستهداف شخصيات ذات تأثير رسمي.
وعلى مستوى آخر أسهم الربيش في سابقة في نقد الإسلام السياسي في السعودية، بجناحيه «الإخوان» والسرورية، معتبرًا أن كل من ندّد بأحداث 11 سبتمبر من رموز «الصحوة» إنما هو جزء من «جريمة الحملة الصليبية على بلاد الإسلام». كذلك انتقد طوائف من القوميين والصحافيين ومحللي السياسة وصولاً إلى إيران. وحذر المجاهدين من «الوقوع في فخ الرافضة»، كما يقول في إشارة إلى الجدل الذي ولد في داخل أروقة التنظيم حول الاستفادة من ملاذات إيران الآمنة، التي كانت تقدمها سلطات طهران لـ«القاعديين» آنذاك.
الربيش، في الواقع، لم يختلف كثيرًا عن منظّري «القاعدة» من خلفيات شرعية وأبرزهم: عيسى بن سعد العوشان، الذي قتل على أيدي قوات الأمن السعودية في الرياض يوم 21 يوليو (تموز) 2004 م، وخلفه عبد الله الرشود «فقيه» تنظيم «القاعدة في بلاد العراق والشام» الذي كان يتمتع بصلات جيدة مع أبو مصعب الزرقاوي، إضافة إلى فارس بن شويل الزهراني، المكنَّى «أبو جندل الأزدي» المعتقل منذ أغسطس 2004.
«القاعدة» في اليمن الآن تعيش أزمة وجودية دفع بالكثير من خلاياها إلى الانتقال لمربع «داعش»، وهذا مع أن «تنظيم القاعدة في جزيرة العرب» كان أكثر نسخ «القاعدة» كفرًا بـ«داعش» وتشكيكًا في خليفتها المزعوم. وحتى عندما بدأ الخلاف بين البغدادي وأبو محمد الجولاني لم يصدر أي تعليق من «القاعدة» في اليمن، كما لم يصدر الوحيشي، «أمير» التنظيم، أمرًا للمقاتلين اليمنيين في سوريا بالانضمام إلى إحدى الجماعتين. لكن انهيار البناء الشرعي والتنظيمي لـ«القاعدة»، ورحيل أغلب الرموز المؤثرة، وتراجع سلطة الظواهري على التنظيم - التي كانت شكلية ودعائية لا أكثر - عوامل أسهمت في تخفيف حدة نقد «داعش»، وصولاً إلى انشقاقات بدأت منذ اندلاع الأوضاع في اليمن مع بداية 2014. عند هذه النقطة صدرت تسجيلات كثيرة لـ«قاعديين» محليين لنصرة دولة «داعش» كان من أبرزها تسجيل صوتي لمأمون حاتم، أحد قيادات «القاعدة» في بمحافظة أبين تحت عنوان «النصرة اليمانية للدولة الإسلامية». تضمنت دفاعا عن «دولة البغدادي» والهجوم على دول المنطقة، وبالأخص المملكة العربية السعودية. والملاحظ أن الهجوم على السعودية استحوذ على الجزء الأكبر من التسجيل في إشارة إلى إمكانية تمدّد «داعش» في الداخل اليمني عقب انهيار الأوضاع. وهذه الإمكانية وإن كانت مستبعدة تبقى واردة، خاصة إذا ما قرأنا خصوصية التجربة «القاعدية» في اليمن، واعتمادها على العناصر المحلية وبعض العناصر الخليجية، واستبعادها أي خلايا وافدة من الخارج حفاظًا على الطابع المحلي والقبلي الذي مكّن «القاعدة» من الاستمرار.
الصراع «القاعدي» – «الداعشي» في اليمن اشتد أواره في بدايات 2014 أيضا بعدما أصدر التنظيم بيانًا مكتوبًا وصوتيًا بعنوان «رسالة مفتوحة لمجاهدي الشام» قرّر فيها إحجام الجماعة عن الدخول على خط الخلاف بين الجماعات المقاتلة في سوريا، واستعداد «القاعدة» في اليمن للدخول كوسيط لكن بشروط كثيرة، أهمها:
> الحفاظ على بيعة «القاعدة» العامة، أي التنظيم الأم، الذي يقوده الظواهري، خلفًا لابن لادن.
> حماية كوادر التنظيم في الصراعات بين «النصرة» و«داعش»، وهو ما فسّر في ذلك الوقت بحرص «قاعدة اليمن» على الاستقلال والحفاظ على شرعية تاريخ «القاعدة» وإرثها، الذي لا يمكن تسليمه لجماعة مشبوهة في تأسيسها وأهدافها.
لم يكن أكثر حظًا هناك من إبراهيم الربيش وهو يؤسس المرحلة الجديدة لـ«قاعدة اليمن» عبر استقلالها عن بقية التنظيمات، حين أصدر فيديو معالج بشكل دعائي وفني عال بعنوان «مسؤولية الكلمة» حث فيه أتباع التنظيم على احترام العلماء وهيبة الشريعة، في إشارة إلى خلو قيادات «داعش» من أي رموز مقدرة علميًا. كما ركّز على أهمية حفظ فضل «القاعدة» وتاريخها أو ما سماه «أفضلية السبق»، في إشارة إلى رفض هجوم «داعش» على منظّرين ورموز «قاعديين» سابقين أبرزهم أيمن الظواهري وأبو محمد المقدسي، وأبو قتادة الفلسطيني، وآخرين من الجيل القديم الذي تحفّظ عن «داعش» في البداية وانفصل عنها لأسباب تتصل بانفراد «داعش» بالمشهد العنفي وليس للاختلاف في الآراء والمفاهيم.
الحفاظ على إرث «القاعدة» الذي قاده الربيش مكّن التنظيم من التقاط الأنفاس والعودة إلى العمل الميداني وتجنيد المزيد من الكوادر من خارج اليمن، وبالتالي، ضرورة تكثيف العمليات الإرهابية، واستهداف مواقع وأشخاص لهم تأثيرهم بهدف إعادة ترويج رمزية عنف «القاعدة» وتأثير ضرباتها ذات الطابع المعولم. وكان من آثار هذه العودة العملية الفاشلة لاقتحام نقطة «الوديعة» الحدودية السعودية والهجوم الإرهابي على مبنى المباحث في بلدة شرورة.
ومن طرائف تحولات «القاعدة» الجديدة، واضطرابها حول «داعش» وبقية الجماعات العنفية، أن أصدر واحدا من أهم منشدي «القاعدة» تسجيلاً إنشاديًا يمتدح فيه «دولة البغدادي» وخليفتها المزعوم وكانت قصيدة «دولتنا منصورة» لأبي هاجر الحضرمي واحدة من الأعمال الإنشادية الذائعة الصيت، قبل أن يتراجع أبو هاجر ويصدر نشيدًا آخر يمتدح فيه جبهة النصرة بعنوان «جبهتنا منصورة». وهو ما يعيد السؤال مجددًا: ما هي «القاعدة» حقًا نشأة وفكرًا وتحولاً ومآلا؟
سؤال كهذا لا يُطرح بغرض سفسطائي بقدر ما يلمح إلى أن ثمة الكثير من التحولات في سياق الإرهاب وعوالمه التحتية وبناه التنظيمية لا يمكن محوها بجرة قلم أو حتى بقنابل طائرات من دون طيار.



ألمانيا... صعود {اليمين المتطرف}

انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
TT

ألمانيا... صعود {اليمين المتطرف}

انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)

عندما وصف رجل ألماني في شريط على «يوتيوب» سوسن شبلي، السياسية الألمانية الشابة من أصل فلسطيني، والتي تنتمي للحزب الاشتراكي الديمقراطي، بأنها: «دمية متحدثة باسم الإسلاميين»، ظنت أن محكمة ألمانية سترد لها حقها بعد «الإهانة» التي تعرضت لها، ولكنها فوجئت عندما حكمت المحكمة بأن هذه الصفة وغيرها من التي ألصقها بها الرجل، هي «ضمن حرية التعبير التي يصونها القانون الألماني»، وليست إهانة ولا تحريضاً على الكراهية.

في الواقع، لم تكن تلك المرة الأولى التي تتعرض لها شبلي لتوصيفات عنصرية كهذه. فهي وغيرها من السياسيين المسلمين القلائل في ألمانيا، والسياسي الأسود الوحيد كرامبا ديابي، معتادون على سماع كثير من الإهانات، بسبب ديانتهم ولونهم فقط؛ حتى أنهم يتلقون تهديدات عبر البريد الإلكتروني والاتصالات، تصل أحياناً لحد التهديد بالقتل.
ورغم أن هذه التهديدات التي يتعرض لها السياسيون المسلمون في ألمانيا تجلب لهم التضامن من بقية السياسيين الألمان، فإن أكثر من ذلك لا يُحدث الكثير.
في ألمانيا، تصنف السلطات ما يزيد على 12 ألف شخص على أنهم من اليمين المتطرف، ألف منهم عنيفون، وهناك خطر من أن ينفذوا اعتداءات داخل البلاد.
يشكل اليمينيون المتطرفون شبكات سرية، ويتواصلون عادة عبر الإنترنت، ويتبادلون الأحاديث داخل غرف الـ«تشات» الموجودة داخل الألعاب الإلكترونية، تفادياً للمراقبة.
وفي السنوات الماضية، ازداد عنف اليمين المتطرف في ألمانيا، وازداد معه عدد الجرائم التي يتهم أفراد متطرفون بارتكابها. وبحسب الاستخبارات الألمانية الداخلية، فإن اعتداءات اليمين المتطرف زادت خمسة أضعاف منذ عام 2012.
وفي دراسة لمعهد «البحث حول التطرف» في جامعة أوسلو، فإن ألمانيا على رأس لائحة الدول الأوروبية التي تشهد جرائم من اليمين المتطرف، وتتقدم على الدول الأخرى بفارق كبير جداً. فقد سجل المعهد حوالي 70 جريمة في هذا الإطار بين عامي 2016 و2018، بينما كانت اليونان الدولة الثانية بعدد جرائم يزيد بقليل عن العشرين في الفترة نفسها.
في الصيف الماضي، شكل اغتيال سياسي ألماني يدعى فالتر لوبكه، في حديقة منزله برصاصة أطلقت على رأسه من الخلف، صدمة في ألمانيا. كانت الصدمة مضاعفة عندما تبين أن القاتل هو يميني متطرف استهدف لوبكه بسبب سياسته المؤيدة للاجئين. وتحدث كثيرون حينها عن «صرخة يقظة» لأخذ خطر اليمين المتطرف بجدية. ودفن لوبكه ولم يحدث الكثير بعد ذلك.
فيما بعد اغتياله بأشهر، اعتقل رجل يميني متطرف في ولاية هسن، الولاية نفسها التي اغتيل فيها السياسي، بعد أن قتل شخصين وهو يحاول الدخول إلى معبد لليهود، أثناء وجود المصلين في الداخل بهدف ارتكاب مجزرة. أحدثت تلك المحاولة صرخة كبيرة من الجالية اليهودية، وعادت أصوات السياسيين لتعلو: «لن نسمح بحدوثها مطلقاً مرة أخرى»، في إشارة إلى ما تعرض له اليهود في ألمانيا أيام النازية. ولكن لم يحدث الكثير بعد ذلك.
وقبل بضعة أيام، وقعت مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة في مدينة هاناو في الولاية نفسها، استهدفا من قبل يميني متطرف لأن من يرتادهما من المسلمين. أراد الرجل أن يقتل مسلمين بحسب رسالة وشريط فيديو خلَّفه وراءه بعد أن قتل 9 أشخاص، ثم توجه إلى منزله ليقتل والدته، ثم نفسه. أسوأ من ذلك، تبين أن الرجل كان يحمل سلاحاً مرخصاً، وينتمي لنادي الرماية المحلي.
بات واضحاً بعد استهداف هاناو، أن السلطات الألمانية لم تولِ اليمين المتطرف اهتماماً كافياً، وأنها لا تقدر حقيقة خطره على المجتمع، رغم أنها كشفت قبل أيام من جريمة هاناو عن شبكة يمينية متطرفة، كانت تعد لاعتداءات على مساجد في أنحاء البلاد، أسوة بما حصل في كرايستشيرش في نيوزيلندا.
وجاء الرد على اعتداء هاناو بتشديد منح رخص السلاح، وبات ضرورياً البحث في خلفية من يطلب ترخيصاً، على أن يرفض طلبه في حال ثبت أنه ينتمي لأي مجموعة متطرفة، ويمكن سحب الترخيص لاحقاً في حال ظهرت معلومات جديدة لم تكن متوفرة عند منحه. كما يبحث وزراء داخلية الولايات الألمانية تأمين حماية للمساجد وللتجمعات الدينية للمسلمين واليهود.
ولكن كل هذه الإجراءات يعتقد البعض أنها لا تعالج المشكلة الأساسية التي تدفع باليمين المتطرف لارتكاب أعمال عنف. وفي كل مرة تشهد ألمانيا اعتداءات، يوجه سياسيون من اليسار الاتهامات لحزب «البديل لألمانيا» اليميني المتطرف، بالمسؤولية عنها بشكل غير مباشر. ويواجه الحزب الذي دخل البرلمان الفيدرالي (البوندستاغ) للمرة الأولى عام 2018، وبات أكبر كتلة معارضة، اتهامات بأنه «يطبِّع سياسة الكراهية»، وبأنه يحرض على العنف ضد اللاجئين والمهاجرين، من خلال ترويجه لخطاب الكراهية. وحتى أن البعض ذهب أبعد من ذلك بالدعوة إلى حظر الحزب للتصدي للعنف المتزايد لليمين المتطرف.
والواقع أن مشكلة اليمين المتطرف تزداد منذ أن دخل «البديل لألمانيا» إلى «البوندستاغ». فهو - كما حملته الانتخابية - يركز خطابه على مواجهة سياسة اللاجئين التي اعتمدتها حكومة المستشارة أنجيلا ميركل. وكثير من الأسئلة التي يتقدم بها نوابه في البرلمان تهدف لإثبات خطأ هذه السياسة، وعدم قدرة اللاجئين على الاندماج. ورغم أن نوابه في البرلمان يحرصون على عدم تخطي القانون في خطاباتهم، فإن كثيراً من السياسيين المنتمين لهذا الحزب؛ خصوصاً في الولايات الشرقية، لا يترددون في الحديث بلغة لا يمكن تمييزها عن لغة النازيين. أبرز هؤلاء السياسيين بيورغ هوكيه الذي لم يستطع أعضاء في حزبه تمييز ما إذا كانت جمل قرأها صحافي لهم، هي مقتطفات من كتاب «كفاحي» لهتلر، أم أنها أقوال لهوكيه.
كل هذا خلق أجواء سلبية ضد المسلمين في ألمانيا، وحوَّل كثيرين من الذين ولدوا لأبوين مهاجرين إلى غرباء في بلدهم. في هاناو، يقول كثيرون من الذين فقدوا أصدقاءهم في المجزرة، بأنهم لم يعودوا يشعرون بالأمان، ولا بأنهم جزء مقبول من المجتمع. وبعضهم يرى أنه ما دام حزب «البديل لألمانيا» مقبولاً بين الأحزاب الأخرى، فإن خطاب الكراهية سيستمر، والجرائم كالتي حصلت في هاناو ستتكرر.
ما يزيد من هذه المخاوف ومن الشبهات، أن السلطات الألمانية لم تأخذ خطر اليمين المتطرف على محمل الجد طوال السنوات الماضية. وهناك فضائح متتالية داخل المؤسسات الأمنية تظهر أنها مليئة بمؤيدين أو متعاطفين مع اليمين المتطرف؛ خصوصاً داخل الشرطة والجيش. ويواجه رئيس المخابرات الداخلية السابق هانس يورغ ماسن اتهامات بأنه متعاطف مع اليمين المتطرف، وهو ما دفع جهازه لغض النظر عن تحركاتهم طوال السنوات الماضية، والتركيز عوضاً عن ذلك على خطر الإسلام المتطرف. ومنذ مغادرته المنصب، أصدرت المخابرات الداخلية تقييماً تقول فيه بأن خطر اليمين المتطرف بات أكبر من خطر الإسلام المتطرف في ألمانيا.
وطُرد ماسن الذي ينتمي للجناح المتطرف في حزب ميركل (الاتحاد المسيحي الديمقراطي) من منصبه، بعد اعتداءات كيمنتس في صيف عام 2018، بسبب رد فعله على التطورات هناك. وعارض ماسن ميركل في قولها بأن شريط فيديو من هناك أظهر ملاحقة نازيين جدد للاجئين، شتماً وضرباً. وخرج ماسن ليقول بأنه لم يتم التثبت من الشريط بعد، ويشكك في وجود نازيين جدد هناك. وكانت تظاهرات كبيرة قد خرجت ضد لاجئين في كيمنتس، بعد جريمة قتل ارتكبها لاجئان (عراقي وسوري) بحق أحد سكان البلدة.
وتعرض كذلك لانتقادات بعد جريمة هاناو لقوله بأن الرجل يعاني من اضطرابات عقلية، وهو الخط نفسه الذي اتخذه حزب «البديل لألمانيا» عندما رفض طبع المجرم بأنه يميني متطرف؛ خصوصاً أن الأخير تحدث في شريط الفيديو عن «التخلص» من جنسيات معينة من دول عربية ومسلمة.
ويعيد ماسن صعود عنف اليمين المتطرف لموجة اللجوء منذ عام 2015، إلا أن ألمانيا شهدت عمليات قتل وملاحقات عنصرية قبل موجة اللجوء تلك. ففي عام 2011 كشف عن شبكة من النازيين الجدد عملت بالسر طوال أكثر من 12 عاماً، من دون أن يكشف أمرها، ما سبب صدمة كبيرة في البلاد. ونجح أفراد هذه الشبكة في قتل تسعة مهاجرين لأسباب عنصرية بين عامي 2000 و2007، إضافة إلى تنفيذهم 43 محاولة قتل، و3 عمليات تفجير، و15 عملية سرقة.
وقبل اكتشاف الخلية، كانت الشرطة تستبعد أن تكون عمليات القتل ومحاولات القتل تلك تتم بدوافع عنصرية، رغم أن جميع المستهدفين هم من أصول مهاجرة. وعوضاً عن ذلك، كانت التخمينات بأن الاستهدافات تلك لها علاقة بالجريمة المنظمة والمافيات التركية.
ورغم أن الكشف عن ارتباط هذه الجرائم باليمين المتطرف زاد الوعي الألماني لخطر هذه الجماعات، وأطلق نقاشات في الصحافة والمجتمع والطبقة السياسية، فإن التعاطي مع الجرائم التي لحقت، والتي اشتبه بأن اليمين المتطرف وراءها، لم يكن تعاطياً يحمل كثيراً من الجدية.