مقطع من رواية «مونداي مورنينغ» التي تؤرخ لمجلة لبنانية

تصدر مطلع العام وتحكي عن الفترة الانتقالية مع «اتفاق الطائف»

مقطع من رواية «مونداي مورنينغ» التي تؤرخ لمجلة لبنانية
TT

مقطع من رواية «مونداي مورنينغ» التي تؤرخ لمجلة لبنانية

مقطع من رواية «مونداي مورنينغ» التي تؤرخ لمجلة لبنانية

في روايته الجديدة التي تصدر عن «دار نلسن» مع بداية السنة المقبلة، بعنوان «مونداي مورنينغ»، يحاول زياد كاج سرد تجربته في مكاتب المجلة الناطقة باللغة الإنجليزية، التي تحمل الرواية اسمها، وكان يملكها نقيب المحررين آنذاك ملحم كرم، ثم توقفت عن الصدور. امتدت تجربة كاج في هذه المجلة من أواخر ثمانينات القرن الماضي حتى بداية التسعينات، أي في زمن الحرب، وتكوين السلطة بعد اتفاق الطائف. ومن خلال وجوده في أروقة المجلة رصد الكاتب بداية انهيار أساسيات المهنة، ومرارة الكثيرين من العاملين فيها، وهم يرون الأعمدة تتحطم، وبيروت منقسمة بين شرقية وغربية.
هي رواية يصفها ناشرها سليمان بختي بأنها «واقعية تؤرخ لمرحلة دقيقة من تاريخ البلد بأسلوب ساخر، جذاب، ولكنها ترثي لأحوال وآمال شخصيات قلقة، وحالمة بالجميل في مهنة جاحدة وبلد ممزق، وعلاقات مضطربة».
اللحظة الفاصلة في تجربة الكاتب مع «مونداي مورنينغ» كانت عندما قرر النقيب كرم بعد «اتفاق الطائف» وفتح المعابر، إغلاق مكتب الوردية القريب من المصرف المركزي والانتقال إلى الأشرفية، هناك يقول كاج: «اكتشفنا عالماً وناساً مختلفين. تلك النقلة جعلتني أقتنع أننا كشعوب وطوائف في هذا البلد الصغير لا نعرف بعضنا. وربما لا نريد».
مهنة الصحافة ليست المادة الوحيدة التي تتطرق إليها الرواية، فقد حاول كاج رسم شخصيات ومواقف وأحداث حصلت فعلاً، مستعيناً بذاكرة شخصيات عايشت تلك التجربة، ومستخدماً أسلوب الكوميديا السوداء، لإيمانه بالحاجة إلى الضحك الساخر. في الرواية الكثير من الواقعية والإيمان بالحياة والتنفيس عن الذات، وأسماء معروفة وقصص حدثت بالفعل، ما يجعلها أقرب إلى التوثيق منها إلى الخيال الروائي، وهو ما يستثير فضول القارئ، خاصة أن الكاتب أبقى على الأسماء الحقيقية، وهو يسرد أحداثه... هنا مقطع من هذه الرواية.
علّمتني الحقيقة أن أكرهها
بقي فريق «المونداي مورنينغ» يعمل في ذلك اليوم المشؤوم حتى منتصف الليل. نسوا خلافاتهم وتناقضاتهم تحت تأثير عامل الخوف على السلامة الشخصية هذه المرة. الشيخ ومعه نوال وربيع وعبد الكريم تحولوا إلى خلية نحل هدفها سحب الأعداد من الأسواق والاتصال بشركات الشحن للتأكد من عدم تحميل الأعداد وإرسالها إلى الخارج عبر المطار أو عبر البرّ لدولة مجاورة. استخدموا كل الوسائل المتاحة للتأكد من عدم توزيع العدد محلياً. لم يترك الشيخ، الأكثر خوفاً وقلقاً، سماعة الهاتف. بقيت في يده اليمنى وهو يعطي التوجيهات دون التأكد من وجود أحد في المكتب. من حسن حظه أن الخطوط الهاتفية كانت شغالة بسبب قلة الضغط عليها ليلاً. مالت أذنه للون الأحمر القاتم من كثر الشد عليها خلال اتصالاته المشحونة. كان صراخه مسموعاً في أرجاء المكتب وهو يتوسل معارفه. اتصل بضابط في مجلة «الأمن»، طالباً المساعدة العاجلة.
أخيراً، ظهر الترياق الحاسم على شكل بيان اعتذار وتوضيح بُث عبر محطة «تيلي ليبان». كانت الوحيدة التي سُمح لها بالبث في الفضاء اللبناني كوسيلة إعلامية رسمية تابعة للدولة بعد اتفاق الطائف. النقيب كان وراء ذلك الإنجاز الذي أتى مفعوله كسطل ماء بارد دُلق على رجل جلس طويلاً على شاطئ رملي حار.
تنفس الشيخ الصعداء.
«الحمد الله عالسلامة يا جماعة»، قال مودعاً. «كان يوم طويل».
«فعلاً، الحمد الله عالسلامة»، قالت نوال وهي تهمّ بالمغادرة بعد حضور سائقها الخاص ومناداته لها من الشارع تحت.
«تصبحوا على خير»، قال عبد الكريم الذي عرض على ربيع إيصاله إلى منزله في بربور على دراجته النارية لندرة سيارة الأجرة في وقت متأخر من ليل بيروت.
ذهب الجميع إلى منازلهم بعد ليلة طويلة مرهقة للأعصاب. قاد الشيخ سيارته بحذر وخوف على الطرقات غير المضاءة كالعادة. فالسائق في مدينة خارجة حديثاً من الحرب كان عليه الاتكال على أضواء سيارته. وكم من حوادث ليلية كانت تقع بين سيارتين تسلكان اتجاهاً معاكساً بسبب تعطّل الضوء الأمامي لإحداهما، فيعتقد السائق في السيارة المقابلة أنها دراجة نارية. دخّن كثيراً. كاد أن ينسى أضواء سيارته مضاءة عندما وصل إلى منزله.
فتح الباب بيد ترتجف بعد جهد لانتقاء المفتاح المطلوب من بين عشرات المفاتيح جمعتها حلقة دائرية صدئة. استحم وحاول النوم. تقلب مراراً على فراشه قبل أن يسقط في نوم مليء بالكوابيس.
«علمتني الحقيقية أن أكرهها فما استطعت»... كانت هذه الجملة - الشعار بقلم كرم ملحم كرم والد النقيب ومؤسس «دار ألف ليلة وليلة» تظهر مطبوعة في أعلى الصفحة الأولى من كل المطبوعات التي تصدرها الدار: «الحوادث»، «البيرق»، «Monday Morning» و«La Revue Du Liban”. كان هذا الشعار يستفزني. لم أفقه مغزاه! لماذا تعلم الحقيقة الإنسان أن يكررها ويفشل؟ وهل فعلاً يحب الإنسان الحقيقة ويتقبلها، خاصة في عالم الصحافة اللبنانية؟ وأين؟ وكيف؟ وهل يحتمل الإنسان عموماً معرفة الحقيقة الكاملة والمجردة؟
يُحكى أن النقيب المخضرم عانى من تجاوزات وتعديات الميليشيات في المنطقة الشرقية في بداية الحرب الأهلية مما اضطره إلى ترك المنطقة والإقامة مع عائلته في فندق «الكارلتون» في منطقة الروشة. في المرة الأولى تعرّض وموظفوه لمضايقات بعد أن نشر مقابلة له مع الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات، مما وضعه في مواجهة مباشرة مع بشير الجميل، القائد العسكري لحزب الكتائب في أوائل السبعينات.
سمع الإهانات والسباب وجهاً لوجه، والسبب أن انفجاراً كان قد وقع في الأشرفية قبل فترة وتسبب بعدد من القتلى والجرحى (اتُهمت حركة فتح بأنها مسؤولة عن الانفجار). في المرة الثانية، هجمت مجموعة من «نمور الأحرار» واعتدت على صحافيي «البيرق» وموظفي المطبعة بسبب نشر أسماء قتلة السيدة ليندا جنبلاط، شقيقة الزعيم المعارض كمال جنبلاط، التي اغتيلت في شارع بدارو. أشهر قليلة وعاد النقيب كرم إلى مكتبه في الأشرفية، حيث زاره الرئيس كميل شمعون بعد اتصالات ومساعٍ جرت على أعلى المستويات السياسية والروحية المسيحية.
رغم عملي لفترة طويلة في مجلة تابعة له لم تكن قد تسنت لي فرصة اللقاء به بعد. كنت أسمع اسمه يتكرر في المكتب بنبرات عالية على لسان نوال والشيخ ومها. اسم «النقيب» كان له سحره الخاص وهيبة ممزوجة بمسحة من السخرية وعدم الرغبة بمقابلته. كان اسمه يتردد كوسيلة ضغط أو تهديد مبطن في أرجاء المكتب من وقت لآخر. أهل فوق عادة هم غير محبوبين من أهل تحت. وأنا كنت من أهل تحت.
أشاهده على التلفزيون خلال نشرات الأخبار المملة. بين مناسبة وأخرى، وبعد عودته من جولة خليجية، أراه واقفاً خلف الميكروفون في باحة القاعة الداخلية للقصر الجمهوري وخلفه وفد كبير من نقابة المحررين. يصرّح وهم يتبسمون أو يهزون رؤوسهم موافقين على كلامه الفصيح.
كلامه كان في العموميات؛ لا موقف حاد، لا أسماء محددة ولا شعارات ولا وضوح في التعبير. يتكلم بصوت «رمادي فاتح» فتشعر بأن البلد بألف خير. دائماً كان يقف قربه إلياس عون ونديم الهاشم. يقف النقيب مرتدياً بذلته الرسمية وربطة عنقه اللافتة وخصل شعره القليلة الممشطة والمتماسكة بفضل «جل» من جهة اليمين فوق أذنه إلى اليسار في محاولة بائسة لتغطية صلعته. كان يذكرني بمطرب القدود الحلبية صباح فخري. يصرح كالتالي: «قال الرئيس... قلت... سألت الرئيس... أجاب... تمنى الرئيس... تمنيت عليه...».
كان يلعب دور الوسيط ورجل علاقات سياسية عامة بين ما تبقى من الدولة المترهلة والمنهكة ودول الخليج، وصلة تواصل بين الأطراف الداخلية؛ حمّال رسائل من الخارج إلى الداخل وصاحب دور بين الأطراف الداخلية المتصارعة.
يُنقل عن رئيس الجمهورية الشهابي الهوى والانتماء، شارل حلو (1913 - 2001)، أنه خلال ترحيبه بوفد من كبار صحافيي البلد في القصر الجمهوري في بعبدا، خاطبهم بقوله: «أهلاً بكم في بلدكم الثاني لبنان!».
عاد مكتب الوردية إلى نشاطه السابق... وزّع الشيخ البقلاوة على الموظفين (قيل إن نوال دفعت ثمنها) وبدأ يحسّن معاملته مع فريقه بعد تخطي أزمة «غلاف الأسد - الهراوي». شعر أن من واجبه حفظ المعروف ورد الجميل، وهذا ما لاحظه الجميع وأثنوا عليه. هو الأكبر سناً في المكتب. نعرفه أكثر من النقيب. «يلي بتعرفو أحسن من يلي بتتعرف عليه».
صار يتدخل مصلحاً عندما تقع المشاكل بين الزملاء والزميلات تشبه مناوشات البلد لكن بطريقة كاريكاتيرية. إنها قطعة الجبنة اللعينة. يدخل الخصمان إلى مكتبه؛ يتحدث بلغة الأب الحنون والرجل المجرّب بلهجة تجعلك تصدق نواياه. أحياناً يستعين بنوال إذا كان الإشكال بين الجنس اللطيف. يحب أن يحافظ على مكانتها الخاصة في المكتب رغم التناقض الكبير في شخصيتهما: هي من عائلة بورغوازية متدينة متمسكة بقيم ومثاليات. وهو من عائلة متواضعة، كدح وتعب وسهر الليالي ولا يزال كي يؤمن عيشة معقولة لعائلته. يعرف المدينة الخطرة جيداً. «علكته الحياة وبصقته» كما يُقال. حافظ على بعض القيم والطيبة التي لازمته من قريته وتعلم الكثير في بيروت لكن بذور الوصولية واقتناص الفرص بقيت متخفية في ثنايا شخصيته.
أجواء مكتب الوردية والخبريات المتنقلة بين «الغربية» و«الشرقية» كانت توحي بأن أمراً ما يُحضر سيغير إدارة «المونداي مورنينغ» بالكامل. وبقي السؤال: هل سيكون إلى الأحسن؟ أم إلى الأسوأ؟.



لُقى «سمهرم» في محافظة ظُفار

لُقى «سمهرم» في محافظة ظُفار
TT

لُقى «سمهرم» في محافظة ظُفار

لُقى «سمهرم» في محافظة ظُفار

تحوي سلطنة عمان سلسلة من المواقع الأثرية تتوزع على قطاعات متفرقة من أراضيها الواسعة. بدأ استكشاف هذه المواقع بشكل علمي في مطلع الخمسينات من القرن الماضي، إذ أنجزت بعثة أميركية أول حفرية في خور من أخوار ساحل محافظة ظفار، يُعرف محلياً باسم «خور روري». كشفت هذه الحفرية عن قلعة مستطيلة مدعّمة بأبراج، شُيّدت بالحجارة على جبل منخفض يطل على هذا الخور، وحملت اسم «سمهرم» باللغة العربية الجنوبية القديمة، وتبيّن أن هذه القلعة كانت من أهم المواني في جنوب شرقي شبه الجزيرة العربية التي لعبت دوراً كبيراً في تجارة اللبان الدولية. استمرّت أعمال التنقيب في هذا الموقع خلال العقود التالية، وكشفت عن مجموعة من اللقى تشهد لتعدّدية ثقافية تعكس الوجه الدولي الذي عُرقت به سمهرم في الماضي.

تقع سلطنة عُمان في الربع الجنوبي الشرقي من شبه الجزيرة العربية، يحدّها خليج عُمان من الشمال والشرق، وتطوّقها الكثبان الرملية من الجنوب، ممّا يجعلها أشبه بجزيرة بين الصحراء والبحر. تضمّ هذه الجزيرة الشاسعة إحدى عشرة محافظة، منها محافظة ظفار التي تقع في أقصى الجنوب، وعاصمتها مدينة صلالة التي تبعد عن مسقط بنحو 1000 كيلومتر. تبدو ظفار في الظاهر معزولة عن شمال عُمان بأرض قاحلة، غير أنها تشاركه في الكثير من أوجه الشبه، كما يشهد تاريخها الموغل في القدم، حيث عُرفت بأرض اللبان، واشتهرت بتصدير هذا المورد النباتي في العالم القديم، وشكّلت بوابة عُمان الضخمة المفتوحة على المحيط الهندي حلقة الوصل بينها وبين ساحل شرق أفريقيا. برزت تجارة اللبان بشكل خاص منذ منتصف الألف الأول قبل الميلاد، كما تشهد مؤلفات كبار الجغرافيين اليونانيين، وتؤكد هذه المؤلفات أن اللبان كان يُنتج داخل هذه البلاد، ويُجمع في ميناءين يقعان على ساحل يُعرف باسم «موشكا ليمن»، ومن هناك كان يُشحن بالسفن شرقاً إلى الهند والخليج العربي، وغرباً نحو ميناء قنا على ساحل بحر العرب.

زار الرحالة البريطاني جيمس ثيودور بنيت ساحل ظفار في نهاية القرن التاسع عشر، وقضى بداء الملاريا في 1897، وبعد رحيله، نشرت زوجته ومرافقته في رحلاته كتاب «جنوب الجزيرة العربية» في 1900، الذي حوى وصفاً لموقع «خور روري» في ساحل ظفار، ويُعد هذا الوصف أول تقرير ميداني خاص بهذا الموقع. استند الرحالة البريطاني في بحثه الميداني إلى دليل ملاحة يعود على الأرجح إلى منتصف القرن الأول، يُعرف باسم «الطواف حول البحر الإريتري». و«البحر الإريتري» هي التسمية التي عُرف بها خليج عدن، وشملت البحر الأحمر الحالي والخليجين العربي والهندي. ذكر صاحب هذا الدليل ميناء «موشكا ليمن»، ونسبه إلى ملك من جنوب الجزيرة العربية يُدعى إليازوس، ورأى جيمس ثيودور بنيت أن هذا الميناء يقع في «خور روري»، وأثارت هذه القراءة الميدانية البحّاثة العاملين في هذا الحقل.

تولّت بعثة أميركية مهمة التنقيب في هذا الموقع بشكل متواصل خلال عام 1950، وعاودت العمل لفترة قصيرة خلال عام 1962، وتبيّن أن الموقع يضمّ قلعة حملت اسم سمهرم، شيّدها ملك من ملوك حضرموت في تاريخ غير محدد، كما يؤكّد نقش كتابي كُشف عنه في هذا الموقع. تبنّت البعثة الأميركية قراءة جيمس ثيودور بنيت، ورأت أن سمهرم هي «موشكا ليمن»، وحُددت هوية الملك «إليازوس» على ضوء هذه القراءة، وهو ملك يَرِد ذكره بشكل مشابه في نقوش تعود إلى أكسوم في الحبشة. قيل إن ميناء سمهرم واصل نشاطه من القرن الأول إلى القرن الثالث للميلاد، كما توحي الكتابات المنقوشة واللُّقى التي عُثر عليها في الموقع، غير أن الأبحاث اللاحقة أثبتت أن هذه القراءة تحتاج إلى المراجعة. تولّت بعثة تابعة لجامعة بيزا مهمة مواصلة البحث في هذا الموقع منذ عام 1997، ونشرت تباعاً تقارير رصدت اكتشافاتها، وأظهرت الدراسات التي رافقت هذه التقارير أن ميناء سمهرم شُيّد في نهاية القرن الثالث قبل الميلاد، بالتزامن مع نشوء التجارة البحرية وتطوّرها في المحيط الهندي، وقبل وصول الرومان إلى مصر بزمن طويل، ولم يُهجر قبل القرن الخامس للميلاد، حين تراجع نشاطه تدريجياً مع اندحار مملكة حضرموت، وخضوعها لملوك حمير بعد سلسلة من الحروب في القرن الرابع للميلاد.

منذ نشوئه، تميّز ميناء سمهرم بطابع «كوسموبوليتي»، كما تشهد القطع الفخارية المتعدّدة المصادر التي عُثر عليها بين أطلاله. خلال تاريخه الذي دام عدة قرون، نسج هذا الميناء كما يبدو علاقات متينة مع سائر أنحاء العالم القديم، من حضرموت إلى قتبان في جنوب جزيرة العرب، إلى أكسوم في الحبشة، ومن الخليج العربي إلى آسيا ومصر وسواحل البحر الأبيض المتوسط. في هذا الموقع، عثرت البعثة الأميركية على تمثال هندي صغير من البرونز، يبلغ طوله 8 سنتيمترات، وهو من محفوظات متحف فنون آسيا التابع لمؤسسة «سميثسونيان» في واشنطن. يُمثل هذا التمثال الذي فقد رأسه وذراعه اليسرى امرأة تلوي خصرها، وتثني ساقها اليسرى خلف ساقها اليمنى. تُميل هذه الراقصة وركيها وتحني كتفيها إلى الجهة اليمنى، ويتميّز لباسها المحلّي بحلله المتعددة، ومنها حزام عريض يحوي أربعة صفوف من الدرر، وقطعة قماش تنسدل من طرف هذا الحزام على الفخذ الأيمن، وثلاث قلائد من الدرر تلتف حول الرقبة. صيغ هذا التمثال وفقاً لناموس الجمالية الهندية ويُجسّد كما يبدو سيدة الشجر في العالم الهندي. كذلك عثرت البعثة الإيطالية على قطعة مما تُعرف بـ«عملة كوشان» تحمل اسم كانيشكا، ملك كابل وكشمير وشمال غربي الهند. ونقع على مجموعة من الكسور واللُّقى الصغرى تعكس هذا الأثر الهندي الذي برز بشكل خاص في سمهرم.

في المقابل، يظهر أثر حضرموت في مجموعات أخرى من اللُّقى، منها المسكوكات، والأواني المتعددة، والأنصاب الحجرية المزينة بالنقوش الحجرية. من هذه الأنصاب يبرز حجر مستطيل يحمل نقشاً يصوّر ثوراً في وضعية جانبية، مع كتابة تسمّيه، بقي جزء منها فحسب. تُماثل هذه القطعة في تأليفها الكثير من القطع التي خرجت من نواحٍ متعددة من جنوب الجزيرة العربية، وهي على الأغلب من القطع التي تحمل في العادة طابعاً دينياً. في هذا الميدان، تحضر مجموعة من المجامر الحجرية تتميز بنقوشها التزيينية الجميلة. تحمل هذا المجموعة طابعاً جامعاً، كما أنها تحمل في بعض الأحيان طابعاً محلياً خاصاً، وتحتاج إلى دراسة مستقلّة خاصة بها.