«طعم الكلمات»... ورشة عمل تستكشف العلاقة بين الطعام والفنون والأنثروبولوجيا

جانب من تأملات الطعام في الورشة (الشرق الأوسط)
جانب من تأملات الطعام في الورشة (الشرق الأوسط)
TT

«طعم الكلمات»... ورشة عمل تستكشف العلاقة بين الطعام والفنون والأنثروبولوجيا

جانب من تأملات الطعام في الورشة (الشرق الأوسط)
جانب من تأملات الطعام في الورشة (الشرق الأوسط)

هل يساعدنا الطعام على التعرف أكثر على ذواتنا؟ وهل يمكن أن تُثير رائحة الخبز ذكرى سعيدة؟ أو أن تبعث رائحة حساء ساخن ذكرى ممتلئة بالشجن؟ عادة لا نتوقف أمام تلك التساؤلات، رغم حضور الطعام في يومياتنا وقراراتنا اليومية التي تبدو بسيطة كسؤال: «ماذا سنأكل؟»، فيما تجد الكاتبة المصرية رانيا هلال في الطعام مادة غنية مُحرضة على التأمل، قادتها على مدار عامين للاقتراب من تاريخ الطعام، وموروثاته، وعلاقته الأصيلة بعلم بالأنثروبولوجيا بكل ما يرتبط باقتراب من فهم للإنسان.
وكان نتاج تلك الرحلة مع الطعام ورشة كتابة نظمتها تحت عنوان «طعم الكلام» هدفها استكشاف العلاقة بين الطعام والفنون والأنثروبولوجيا، ومنها تمهيد المشاركين لتدوين علاقتهم الشخصية بالطعام عبر صور فنية وإبداعية مختلفة.
«ألهمني الاقتراب من دراسة علاقة الطعام بالأنثروبولوجيا وتعمقه في حياتنا، أنه ليس فقط نتيجة أو وصفة نهائية، لكنه مرداف لتلك الأعماق التي تسكن داخلنا مرتبطة بذكرياتنا حوله، كما تقول رانيا هلال في حديثها لـ«الشرق الأوسط».
درست رانيا هلال التاريخ في كلية الآداب، وهي كاتبة قصة قصيرة، انتبهت من خلال مشوراها مع الكتابة أن «أنسنة الأشياء» كانت ثيمة تحمل لديها خصوصية ما، وربما دفعها للتوقف أمام الطعام وموروثاته الثقافية، في محاولة للاقتراب من عالمه وطيد الصلة بالإنسان، وعن ذلك تقول: «فوجئت بنُدرة المصادر العربية حول علاقتنا بالطعام، ثم وجدتني أبحث عن مصادر أجنبية لمحاولة استكشاف هذا العالم، حتى قمت بتطوير فكرة ورشة إبداعية حول علاقتنا بالطعام والتعبير عنها عبر الفن، كنت مهتمة بأن أستكشف مع المشاركين في الورشة حضور الطعام في ذواتنا، ومن ثم في القصة والشعر والرواية، مروراً بتجليات فن الطبخ في الفن التشكيلي والحكي والدراما».
امتدت الورشة على مدار شهر ونصف، وحسب صاحبة الورشة فإنها ابتعدت عن المحاضرات المباشرة حول علاقة الطعام بالأنثروبولوجيا رغم أنها كانت قاعدة راسخة لموضوع الورشة «اعتمادنا الأكبر كان على الحديث الحر، الأسئلة التي كانت تقوم بتوليد أفكار وذكريات حول الطعام، كأن نسأل عن أكثر نوع طعام لا نحبه، ثم يتقمص أحدنا هذا الطعام وكأنه يتحدث ويدافع عن نفسه، وهي أشكال إبداعية تقترب من مشاعرنا بشكل مباشر، وبسبب تلك التدفقات التأملية، اكتشف عدد من المشاركين أن كثيراً من مشاعرهم المضطربة حيال أنواع معينة من الطعام كان سببها المباشر ذكريات سلبية قديمة، فصار التعبير عنها نوع من الاستشفاء بالكتابة».
تروي رانيا هلال كيف أن الطعام ليس ممارسة سطحية: «في وطننا العربي الطبخ كفعل مرتبط دائماً بالأفراح والأحزان، والمناسبات العاطفية، وكذلك التعبير عن الحب منذ القدم، حتى أن المصريين القدماء صنعوا نحو 300 نوع من الخبز، متعددة الأسماء والمناسبات».
خلال الورشة اختار المشاركون صنفاً من الطعام، وطهوه، وتشاركوا مع زملائهم تناوله، ولعل هذا الطقس كان أحد المداخل الحميمية للاقتراب من الطعام ومشاركة قصته مع المحيطين «من بين الأنشطة كذلك كان طلب قراءة أو مشاهدة أعمال فنية وأدبية تحاكي الطعام بأي صورة، وكذلك أنشطة تعتمد على الاقتراب من الطعام ووصفه بشكل حسيّ، كشم نوع معين من البهارات، أو القيام بالعجن، ووصف ماذا كانت تمثل تلك التجربة لكل مشارك على حدة». حسب رانيا هلال.
حسب صانعة الأفلام والمشاركة في الورشة مي زيادي، فإن نشاط الطبخ كان من أكثر الأنشطة الحميمية في الورشة «كان يقوم كل اثنين من المشاركين في الورشة، بالاتفاق على صنف والقيام بطهيه لباقي الزملاء، خلقت تلك الفقرة مناخاً حميمياً بين المشاركين، ووطدت علاقتنا ببعض كأشخاص من خلال مشاركة الطعام، تأكيداً للعلاقة الشعبية بين (العيش والملح)».
وترى مي زيادي أن الورشة كانت مفيدة لأنها «فتحت المجال لاستكشاف عالم أنثروبولوجيا الطعام، وعلاقته بالفنون مثل السينما والأدب والفن التشكيلي، مما خلق لدينا ثراءً معرفياً فيما يتعلق بالطعام من جوانب جينية، سياسية، واقتصادية، وثقافية، وأدركنا أن الطعام ليس مجرد طقس اعتيادي يومي، لكن هو طقس له كثير من الدلالات التي لها علاقة بالإنسان». كما تقول لـ«الشرق الأوسط».
لفت نظر رانيا هلال أن عدداً لافتاً من المتقدمين للورشة كانوا من الرجال، وأن جميع المشاركين لا يعملون في مجالات تتصل بالطهي «المشاركين ينتمون لمجالات الإخراج والثقافة والفن والترجمة والصحافة، جميعهم مهتمون بمعرفة دوافعهم وعلاقتهم بالأكل وتطويرها بشكل إبداعي، لذا اختلفت النتاجات الإبداعية بين المشاركين بين دفقات كتابة قصص أو رسوم، أو دفقات كتابة تتحول لمشروع فيلم، فالجميع اشترك في تدوين نصوص خلال الورشة، لكن المشروع النهائي لكل منهم كان بلغتهم الفنية الخاصة».
تأمل رانيا أن تواصل الورشة فعالياتها، وأن تقوم بتنظيمها في صعيد مصر، وفي دول العالم العربي المختلفة «هذا جانب من طموحي، الاقتراب من موروثات الأكل في العالم العربي وتأصيل تلك الموروثات والبحث فيها، وفي علاقة المشاركين بها، ربما تكون تلك الأكلات في يوم ما مجرد ذكرى، تستحق التوثيق».



رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
TT

رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»

إنه «فضلو» في «بياع الخواتم»، و«أبو الأناشيد الوطنية» في مشواره الفني، وأحد عباقرة لبنان الموسيقيين، الذي رحل أول من أمس (الأربعاء) عن عمر ناهز 84 عاماً.
فبعد تعرضه لأزمة صحية نقل على إثرها إلى المستشفى، ودّع الموسيقي إيلي شويري الحياة. وفي حديث لـ«الشرق الأوسط» أكدت ابنته كارول أنها تفاجأت بانتشار الخبر عبر وسائل التواصل الاجتماعي قبل أن تعلم به عائلته. وتتابع: «كنت في المستشفى معه عندما وافاه الأجل. وتوجهت إلى منزلي في ساعة متأخرة لأبدأ بالتدابير اللازمة ومراسم وداعه. وكان الخبر قد ذاع قبل أن أصدر بياناً رسمياً أعلن فيه وفاته».
آخر تكريم رسمي حظي به شويري كان في عام 2017، حين قلده رئيس الجمهورية يومها ميشال عون وسام الأرز الوطني. وكانت له كلمة بالمناسبة أكد فيها أن حياته وعطاءاته ومواهبه الفنية بأجمعها هي كرمى لهذا الوطن.
ولد إيلي شويري عام 1939 في بيروت، وبالتحديد في أحد أحياء منطقة الأشرفية. والده نقولا كان يحضنه وهو يدندن أغنية لمحمد عبد الوهاب. ووالدته تلبسه ثياب المدرسة على صوت الفونوغراف الذي تنساب منه أغاني أم كلثوم مع بزوغ الفجر. أما أقرباؤه وأبناء الجيران والحي الذي يعيش فيه، فكانوا من متذوقي الفن الأصيل، ولذلك اكتمل المشوار، حتى قبل أن تطأ خطواته أول طريق الفن.
- عاشق لبنان
غرق إيلي شويري منذ نعومة أظافره في حبه لوطنه وترجم عشقه لأرضه بأناشيد وطنية نثرها على جبين لبنان، ونبتت في نفوس مواطنيه الذين رددوها في كل زمان ومكان، فصارت لسان حالهم في أيام الحرب والسلم. «بكتب اسمك يا بلادي»، و«صف العسكر» و«تعلا وتتعمر يا دار» و«يا أهل الأرض»... جميعها أغنيات شكلت علامة فارقة في مسيرة شويري الفنية، فميزته عن سواه من أبناء جيله، وذاع صيته في لبنان والعالم العربي وصار مرجعاً معتمداً في قاموس الأغاني الوطنية. اختاره ملك المغرب وأمير قطر ورئيس جمهورية تونس وغيرهم من مختلف أقطار العالم العربي ليضع لهم أجمل معاني الوطن في قالب ملحن لا مثيل له. فإيلي شويري الذي عُرف بـ«أبي الأناشيد الوطنية» كان الفن بالنسبة إليه منذ صغره هَوَساً يعيشه وإحساساً يتلمسه في شكل غير مباشر.
عمل شويري مع الرحابنة لفترة من الزمن حصد منها صداقة وطيدة مع الراحل منصور الرحباني. فكان يسميه «أستاذي» ويستشيره في أي عمل يرغب في القيام به كي يدله على الصح من الخطأ.
حبه للوطن استحوذ على مجمل كتاباته الشعرية حتى لو تناول فيها العشق، «حتى لو رغبت في الكتابة عن أعز الناس عندي، أنطلق من وطني لبنان»، هكذا كان يقول. وإلى هذا الحد كان إيلي شويري عاشقاً للبنان، وهو الذي اعتبر حسه الوطني «قدري وجبلة التراب التي امتزج بها دمي منذ ولادتي».
تعاون مع إيلي شويري أهم نجوم الفن في لبنان، بدءاً بفيروز وسميرة توفيق والراحلين وديع الصافي وصباح، وصولاً إلى ماجدة الرومي. فكان يعدّها من الفنانين اللبنانيين القلائل الملتزمين بالفن الحقيقي. فكتب ولحن لها 9 أغنيات، من بينها «مين إلنا غيرك» و«قوم تحدى» و«كل يغني على ليلاه» و«سقط القناع» و«أنت وأنا» وغيرها. كما غنى له كل من نجوى كرم وراغب علامة وداليدا رحمة.
مشواره مع الأخوين الرحباني بدأ في عام 1962 في مهرجانات بعلبك. وكانت أول أدواره معهم صامتة بحيث يجلس على الدرج ولا ينطق إلا بكلمة واحدة. بعدها انتسب إلى كورس «إذاعة الشرق الأدنى» و«الإذاعة اللبنانية» وتعرّف إلى إلياس الرحباني الذي كان يعمل في الإذاعة، فعرّفه على أخوَيه عاصي ومنصور.

مع أفراد عائلته عند تقلده وسام الأرز الوطني عام 2017

ويروي عن هذه المرحلة: «الدخول على عاصي ومنصور الرحباني يختلف عن كلّ الاختبارات التي يمكن أن تعيشها في حياتك. أذكر أن منصور جلس خلف البيانو وسألني ماذا تحفظ. فغنيت موالاً بيزنطياً. قال لي عاصي حينها؛ من اليوم ممنوع عليك الخروج من هنا. وهكذا كان».
أسندا إليه دور «فضلو» في مسرحية «بياع الخواتم» عام 1964. وفي الشريط السينمائي الذي وقّعه يوسف شاهين في العام التالي. وكرّت السبحة، فعمل في كلّ المسرحيات التي وقعها الرحابنة، من «دواليب الهوا» إلى «أيام فخر الدين»، و«هالة والملك»، و«الشخص»، وصولاً إلى «ميس الريم».
أغنية «بكتب اسمك يا بلادي» التي ألفها ولحنها تعد أنشودة الأناشيد الوطنية. ويقول شويري إنه كتب هذه الأغنية عندما كان في رحلة سفر مع الراحل نصري شمس الدين. «كانت الساعة تقارب الخامسة والنصف بعد الظهر فلفتني منظر الشمس التي بقيت ساطعة في عز وقت الغروب. وعرفت أن الشمس لا تغيب في السماء ولكننا نعتقد ذلك نحن الذين نراها على الأرض. فولدت كلمات الأغنية (بكتب اسمك يا بلادي عالشمس الما بتغيب)».
- مع جوزيف عازار
غنى «بكتب اسمك يا بلادي» المطرب المخضرم جوزيف عازار. ويخبر «الشرق الأوسط» عنها: «ولدت هذه الأغنية في عام 1974 وعند انتهائنا من تسجيلها توجهت وإيلي إلى وزارة الدفاع، وسلمناها كأمانة لمكتب التوجيه والتعاون»، وتابع: «وفوراً اتصلوا بنا من قناة 11 في تلفزيون لبنان، وتولى هذا الاتصال الراحل رياض شرارة، وسلمناه شريط الأغنية فحضروا لها كليباً مصوراً عن الجيش ومعداته، وعرضت في مناسبة عيد الاستقلال من العام نفسه».
يؤكد عازار أنه لا يستطيع اختصار سيرة حياة إيلي شويري ومشواره الفني معه بكلمات قليلة. ويتابع لـ«الشرق الأوسط»: «لقد خسر لبنان برحيله مبدعاً من بلادي كان رفيق درب وعمر بالنسبة لي. أتذكره بشوشاً وطريفاً ومحباً للناس وشفافاً، صادقاً إلى أبعد حدود. آخر مرة التقيته كان في حفل تكريم عبد الحليم كركلا في الجامعة العربية، بعدها انقطعنا عن الاتصال، إذ تدهورت صحته، وأجرى عملية قلب مفتوح. كما فقد نعمة البصر في إحدى عينيه من جراء ضربة تلقاها بالغلط من أحد أحفاده. فضعف نظره وتراجعت صحته، وما عاد يمارس عمله بالشكل الديناميكي المعروف به».
ويتذكر عازار الشهرة الواسعة التي حققتها أغنية «بكتب اسمك يا بلادي»: «كنت أقفل معها أي حفل أنظّمه في لبنان وخارجه. ذاع صيت هذه الأغنية، في بقاع الأرض، وترجمها البرازيليون إلى البرتغالية تحت عنوان (أومينا تيرا)، وأحتفظ بنصّها هذا عندي في المنزل».
- مع غسان صليبا
مع الفنان غسان صليبا أبدع شويري مرة جديدة على الساحة الفنية العربية. وكانت «يا أهل الأرض» واحدة من الأغاني الوطنية التي لا تزال تردد حتى الساعة. ويروي صليبا لـ«الشرق الأوسط»: «كان يعد هذه الأغنية لتصبح شارة لمسلسل فأصررت عليه أن آخذها. وهكذا صار، وحققت نجاحاً منقطع النظير. تعاونت معه في أكثر من عمل. من بينها (كل شيء تغير) و(من يوم ما حبيتك)». ويختم صليبا: «العمالقة كإيلي شويري يغادرونا فقط بالجسد. ولكن بصمتهم الفنية تبقى أبداً ودائماً. لقد كانت تجتمع عنده مواهب مختلفة كملحن وكاتب ومغنٍ وممثل. نادراً ما نشاهدها تحضر عند شخص واحد. مع رحيله خسر لبنان واحداً من عمالقة الفن ومبدعيه. إننا نخسرهم على التوالي، ولكننا واثقون من وجودهم بيننا بأعمالهم الفذة».
لكل أغنية كتبها ولحنها إيلي شويري قصة، إذ كان يستمد موضوعاتها من مواقف ومشاهد حقيقية يعيشها كما كان يردد. لاقت أعماله الانتقادية التي برزت في مسرحية «قاووش الأفراح» و«سهرة شرعية» وغيرهما نجاحاً كبيراً. وفي المقابل، كان يعدها من الأعمال التي ينفذها بقلق. «كنت أخاف أن تخدش الذوق العام بشكل أو بآخر. فكنت ألجأ إلى أستاذي ومعلمي منصور الرحباني كي يرشدني إلى الصح والخطأ فيها».
أما حلم شويري فكان تمنيه أن تحمل له السنوات الباقية من عمره الفرح. فهو كما كان يقول أمضى القسم الأول منها مليئة بالأحزان والدموع. «وبالقليل الذي تبقى لي من سنوات عمري أتمنى أن تحمل لي الابتسامة».