قد يكون الملاذ بالنسبة للبعض هو شخص عزيز أو سجل حافل بالذكريات والأحاديث الدافئة معه؛ كما قد يكون مكاناً مريحاً في المنزل أو في إشراقة الشمس في صباحات طازجة، بينما يمكن أن يتلمس المرء ملاذه في الصبر فهو «ملاذ الإنسان من القنوت»، كما وصفه أديب نوبل في رائعته «عبث الأقدار»، إلا أنه من خلال أعمال التشكيلي المصري علي حسان التي ضمها أحدث معارضه بغاليري «ليوان» نصل إلى مفهوم وعناصر مغايرة تماماً لـ«الملاذ الآمن»، فيفاجئنا الفنان بأن بطلة لوحاته تجد ملاذها المنشود في سمكة ملونة تسبح في حوض صغير أو ربما حيوان أليف لا يفارقها إلى جانب الاستغراق في أحلام النوم واليقظة معاً.
تحفل التجربة الفنية لحسان بتعدد مساراتها ما بين التصوير والنص الأدبي والبحثين الفلسفي والإنساني، ويشكل فنه في مجمله عملاً واقعياً اجتماعياً يجسد مشاهد مهمة في حياة فتاة شرقية قررت أن تبوح للفنان بأوجاعها وهواجسها ليجسدها في 45 لوحة زيتية، وإذا كنا قد اعتدنا أن نستقي لحظات غامرة بالإنسانية عبر «أدب الاعتراف» فإننا هذه المرة نتزود بطاقة انفعالية كبيرة من خلال «رسم الاعتراف» أو «سردية اعتراف بصرية» إذا جاز التعبير.
ورغم أن اللوحات لا تحمل تجربة ذاتية للفنان، فإنها تسرد قصة حقيقية للموديل بنت الصعيد التي تطاردنا حتى بعد مفارقتها، ونظل نتفاعل مع اعترافاتها!
كسرت تلك الفتاة الجنوبية حاجز الصمت لتبوح وتحكي وتعبر بصدق عن قضية شائكة ورغم خجلها ورومانسيتها المفرطة وعدم تطرقها إلى التابوهات التقليدية فإنها نجحت في أن تحول اعترافاتها إلى مواجهة فاضحة لقسوة المجتمع وقهره، فالاعتراف ليس تطهيرياً بالضرورة، إنما قد يكون نوعاً من انتهاك ما هو مقموع، أو مسكوت عنه، يقول دكتور علي حسان، الأستاذ بكلية الفنون الجميلة بالأقصر لـ«الشرق الأوسط»: «تسمح لنا طبيعة الدراسة العملية بالكلية بالتواصل الإنساني وجهاً لوجه، لمتابعة أعمال الطلاب، وحين نشعر بأن المشكلات الشخصية تؤثر على منجزهم الفني فإننا قد نتطرق إلى العوامل التي تعوقهم، وذلك ما حدث مع هذه الطالبة التي لم تتحدث فقط عن مشكلتها، لكنها رحبت بأن تكون الموديل للوحات التي تروي تجربتها، وساعد على ذلك صداقتي لأسرتها».
لكن لا تقتصر قصتها على هذه الرومانسية والسلام النفسي، إذ تبرز اللوحات الجانب الآخر الخفي، وهو الكوابيس التي تنغص عليها حياتها، وتتحول فيها عناصر الملاذ الآمن إلى مفردات مخيفة متوحشة، وهو ما روته الفتاة بالتفصيل للفنان، ليربطه بدوره بقيود المجتمع التي توقظ الفتاة من متعة الخيال وتأخذها إلى قسوة الواقع.
واستلهم حسان اسم المعرض (ملاذ آمن) من تجربة الفتاة ذاتها، التي قالت له إن ملاذها الآمن في الحياة هو أحلامها في النوم واليقظة، تحلم بأن تسافر، وأن تشارك أخاها ركوب الموتوسيكل، وأن ترتدي فستان عرس جدتها وتزف إلى فارس أحلامها، أما الجزء الآخر من الملاذ «فتجده في مجموعة حيوانات أليفة تربيها في المنزل، إلى جانب حوض الأسماك الملونة في حجرتها».
يقول حسان: «من أكثر اللحظات التي استوقفتني هي قولها إنها في صباح كل يوم تكتشف فور استيقاظها من النوم أن هناك سمكة قفزت من الحوض الزجاجي إلى الأرض وفقدت حياتها، وحينئذ تشعر أن السمك يشبهها فهو يتطلع للخروج من مكان حبسه إلى فضاء الحرية حتى لو كانت المرة الأولى والأخيرة في عمره».
وفي لوحة «الفيسبا» تعثر على إحساس قهر الأحلام، فالفتاة التي تتطلع إلى ركوب الدراجة البخارية خلف شقيقها في نزهة تتنفس فيها عبير الحرية تصطدم برفض الأخ والمجتمع، لتكتفي بالجلوس في اللوحة من دون حركة، إلا أن عينيها ترويان الكثير من خيبة الأمل، بينما تحيط بها طيور من أماكن متفرقة من العالم في رمز إلى تمنيها السفر، في حين أنها تعجز حتى عن التنقل داخل قريتها النائية في جنوب مصر.
أما في لوحة «زواج مؤقت» فنعيش مخاوفها من تعرضها لمزيد من القهر والقيود بعد الزواج، إذ تعكس الهواجس من تحول عناصر ملاذها الذي رمز إليه بالدجاج القريب منها إلى خطر يهددها رمز له بالضباع والطيور الجارحة.
تضمن المعرض «نصاً اعترافياً» للفتاة كتبه الفنان بنفسه ووضعه في أماكن عدة بالقاعات، ما أثار من جديد الجدل حول الحد من خيال المتلقي، وهو ما ينفيه قائلاً: «أصبح يرافق الفن المعاصر (مانفستو) أو تعريف بالعمل الفني، وأصبحنا نرى ذلك في كبرى القاعات الفنية في أوروبا وأميركا والخليج، إذ يجاور العمل شرحاً مبسطاً عنه، فذلك إنما يؤكد الفكرة والمشاعر للمشاهد من دون أن يحطمها له».
«ملاذ آمن»... رؤية تشكيلية لأوجاع وأحلام فتاة مصرية
تتجسد في معرض يضم 45 لوحة مستلهمة من قصة حقيقية
«ملاذ آمن»... رؤية تشكيلية لأوجاع وأحلام فتاة مصرية
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة