المبدعون بين خلود الوهم ووهم الخلود

بيتهوفن
بيتهوفن
TT

المبدعون بين خلود الوهم ووهم الخلود

بيتهوفن
بيتهوفن

بين ما هو متحقق اليوم وما كان ممكناً أمس فجوة كبيرة: الأول حقيقي بالمطلق والثاني مستحيل بالمطلق.
العزاء: في كل الأحوال، كل شيء عابر. والندم على عدم تحقيق ما كان ممكناً يقوم على وهم بأزلية الحياة.
العيش العابر على هذه الأرض هو العزاء الحقيقي بتضييع فرص الماضي.
الكل: من حقق أحلامه ومن لم يحققها يشتركون معاً في ديمومة الفناء على حساب البقاء العابر.
المستفيد الوحيد مما يتركه المبدعون الموتى وراءهم هم أحياء اليوم.
هؤلاء المبدعون يمتدون عبر أجيال كثيرة في كل القطاعات: العمارة، والأدب، والفن التشكيلي، والموسيقى، والمسرح، والفلسفة، والعلوم والطب، والسياسة، والقيادة، وتنظيم الطرق، وهندسة المدن والحدائق العامة والملاعب والمتاحف والأسواق والمعابد وغيرها.
بين إغماض العينين وفتحهما عالمان مرئيان: الأول سواد مطلق والثاني غني بتفاصيله وتنويعاته يحيط بنا من كل الجوانب.
وعند إيقاظ الذاكرة وإغلاقها يواجهنا عالمان: الأول عالم الأفكار والتصورات والديانات والشعر والأدب والفلسفة والموسيقى وغيرها، والثاني عبارة عن فراغ يشبه الفراغ الذي يرثه الطفل لحظة ولادته.
هل هناك عزاء لكل أولئك المبدعين الذين كرسوا أحسن سنوات أعمارهم للإبداع على حساب مباهج حياتية أخرى ضاعت منهم بسبب هوسهم بإنجازاتهم؟
ما الذي استفاد بيتهوفن من الموسيقى التي كرس كل حياته لابتكارها إذا كان موته المبكر لم يسمح له أن يلمس كيف أن ما أبدعه غير مسار الموسيقى الكلاسيكية دون رجعة.
كان عليه أن يغالب فقدان سمعه الذي يشكل عصب الموسيقى للمؤلف والمستمع، باستخدام عصا حديدية توصل بين أسنانه والبيانو الذي يعزف عليه، لينتقل الصوت عبر عظام خده إلى منطقة السمع في دماغه.
وكانت النتيجة ثورة أنهت فصلاً من تاريخ الموسيقى الكلاسيكية بالكامل: فبدلاً من أن يستمتع المتلقي بسريان الألحان وتنوعها بين البطيء والسريع والمتوسط، بين الهارموني والطباق (كوانتربوانت)، انقلبت الموسيقى على يد بيتهوفن رأساً على عقب: بدلاً من انجذاب الفرد للخارج أصبحت تدفعه إلى الداخل، لتستثير مشاعر متعددة في داخله: إنها موسيقى تخاطب العواطف الدفينة لتهزها مثلما تهزها رواية أو مسرحية … ولتفتح الطريق إلى عصر الموسيقى الرومانتيكية الذي شغل تقريباً النصف الأخير من القرن التاسع عشر.
لقد مضت ثلاثون عاماً تقريباً بعد وفاة بيتهوفن من دون ظهور موسيقي واحد قادر على احتلال جزء ضئيل من الفراغ الذي تركه؟
ما الذي استفاد منه سيزان الذي ظل حتى أواخر حياته موضع تشكيك النقاد بما كان يرسمه، وظل حريصاً على الخروج إلى الطبيعة رغم قسوة المناخ أحياناً لينقل مناظرها، وفق رؤيته الخاصة.
في تلك المنطقة الجنوبية النائية عن باريس: بروفانس، راح سيزان يطبق في رسوم البورتريت والمشاهد الطبيعية مبدأ أصبح الأساس الذي قامت عليه التكعيبية: ما نراه ليس ما ينقله البصر إلينا فقط بل عقلنا، وأن بالإمكان التعويض عن المنظور بالألوان الباردة والساخنة.
بالتأكيد هو لم يكن يعلم حتى وفاته عام 1906، أنه أرسى الأساس الذي قام عليه الفن التشكيلي في القرن العشرين. فباعتراف بيكاسو وماتيس كان «سيزان أبانا جميعاً».
الأحياء هم المستفيدون، تحسيناً فيما تركه المبدعون لشروط حياتهم، أو استمتاعاً بأوقاتهم، أو إغناءً لحياتهم الروحية والعقلية.
أما المبدعون الموتى فهم متساوون في حقوقهم مع الآخرين: نفس المساحة التي يحتلونها تحت التراب، وإذا كانوا محظوظين هناك شاهدة فوق رؤوسهم تشير إلى أنهم مروا ذات يوم في هذا النهر الذي اسمه الحياة.
هل هناك أي سلوان على تضييع فرص حياتية تجعل هذا المبدع أو ذاك أسعد مما هو عليه خلال حياته لو أنه تخلى عن تكريس حياته لمشروعه الفردي؟
لعل السلوان الوحيد يكمن في ذلك الشعور الوهمي الذي قد يخالج المبدع وهو يلتفت إلى الطريق المضني الذي سار عليه بأنه قلد الإله في قدرته اللامتناهية على الإبداع؛ في قدرته على إنجاز عمل متقن جداً يشبه، إلى حد ما، ما يحيطه من كون شديد الإتقان في صنعه، تساهم كل العناصر الصغيرة والكبيرة في جعله قابلاً للحياة، لكن على مستوى ضئيل جداً.
عبر أحد عازفي الكمان عن غضبه على بيتهوفن حين صرخ فيه: «أنت تؤلف موسيقى لا نستطيع أن نعزفها»، فأجابه: «أنا لا أؤلف لك، بل لعازف الكمان المستقبلي».
كم هي شهادة صادقة تجمع بين إيمان بخلود ما يصنعه المبدع، وتسليم كامل بفناء المبدع نفسه.
هل هناك أي سلوان على تضييع فرص حياتية تجعل هذا المبدع أو ذاك أسعد مما هو عليه خلال حياته لو أنه تخلى عن تكريس حياته لمشروعه الفردي؟
لعل السلوان الوحيد يكمن في ذلك الشعور الوهمي الذي قد يخالج المبدع وهو يلتفت إلى الطريق المضني الذي سار عليه بأنه قلد الإله في قدرته اللامتناهية على الإبداع؛ في قدرته على إنجاز عمل متقن جداً يشبه، إلى حد ما، ما يحيطه من كون شديد الإتقان في صنعه، تساهم كل العناصر الصغيرة والكبيرة في جعله قابلاً للحياة، لكن على مستوى ضئيل جداً.
هل هناك عزاء لكل أولئك المبدعين الذين كرسوا أحسن سنوات أعمارهم للإبداع على حساب مباهج حياتية أخرى ضاعت منهم بسبب هوسهم بإنجازاتهم؟



شعراء «الخيام» يقاتلون بالقصائد وشواهد القبور

شعراء «الخيام» يقاتلون بالقصائد وشواهد القبور
TT

شعراء «الخيام» يقاتلون بالقصائد وشواهد القبور

شعراء «الخيام» يقاتلون بالقصائد وشواهد القبور

لم تكن بلدة الخيام، الواقعة على التخوم الشرقية للجنوب اللبناني، مجرد تفصيل هامشي في خارطة جبل عامل، وتاريخه المحكوم بالقلق العاصف وصراعات الدول والمصالح، بل كانت ولا تزال واسطة عقد القرى المحيطة بها، بقدر ما كان لها النصيب الأوفر من كل حرب تقع، أو سلام يتحقق، أو ربيع ينشر ملاءات جماله على الملأ. والأرجح أن الأهمية التي اكتسبتها البلدة عبر الزمن، تتراوح أسبابها بين سحر موقعها الجغرافي، وعراقة تاريخها الحافل بالأحداث، وتعدد القامات الأدبية والشعرية التي أنجبتها البلدة عبر القرون.

ولعل في تسمية الخيام أيضاً، ما يعيد إلى الأذهان منازل العرب الأقدمين، والمساكن التي كانت تقيمها على عجل جيوش الفتوحات، والخيم المؤقتة التي كان الجنوبيون ينصبونها في مواسم الصيف، عند أطراف كروم التين، بهدف تجفيف ثمارها الشهية وادّخارها مؤونة للشتاء البخيل. وإذا كان الدليل على ذلك حاضراً في ذاكرة سهل الخيام المترعة بآلاف الأشجار والنصوب والكروم، فإن الشعر بدوره كان جاهزاً للتحول إلى مدونة كبرى لذلك العالم الزراعي، الذي كادت تطيح به عشوائيات عمرانية مرتجلة وبالغة الفظاظة.

ورغم أن جغرافيا البلدة التي تشبه ظهر الفرس، بهضبتها الطويلة المطلة على الجولان والجليل وجبل حرمون، هي التي أسهمت في تحولها إلى واحدة من أكبر بلدات جبل عامل، فإن هذه الجغرافيا بالذات قد شكلت نعمة الخيام ونقمتها في آن، وهي المتربعة عند المفترقات الأكثر خطورة لخرائط الدول والكيانات السياسية المتناحرة. وفي ظل التصحر المطرد الذي يضرب الكثير من الدول والكيانات المجاورة، تنعم البلدة ومحيطها بالكثير من الينابيع، ومجاري المياه المتحدرة من أحشاء حرمون لتوزع هباتها بالتساوي بين ربوع إبل السقي، التي أخذت اسمها من سقاية الماء، والخيام التي يتفجر عند سفحها الغربي نبع الدردارة، ومرجعيون، أو مرج العيون، التي ترفدها في أزمنة الجدب والقبح بئر من الجمال لا ينضب معينه.

وإذا كانت الشاعريات والسرديات والفنون العظيمة هي ابنة المياه العظيمة، كما يذهب بعض النقاد والباحثين، فإن هذه المقولة تجد مصداقيتها المؤكدة من خلال البلدات الثلاث المتجاورة. إذ ليس من قبيل الصدفة أن تنجب إبل السقي قاصاً متميزاً من طراز سلام الراسي، وتنجب مرجعيون قامات من وزن فؤاد وجورج جرداق وعصام محفوظ ومايكل دبغي ووليد غلمية وإلياس لحود، فيما أنجبت الخيام سلسلة الشعراء المتميزين الذين لم تبدأ حلقاتها الأولى بعبد الحسين صادق وعبد الحسين عبد الله وحبيب صادق وسكنة العبد الله، ولم تنته حلقاتها الأخيرة مع حسن ومحمد وعصام العبد الله وكثيرين غيرهم.

ومع أن شعراء الخيام قد تغذوا من منابت الجمال ذاتها، ولفحهم النسيم إياه بمهبه الرقراق، فإن الثمار التي جنتها مخيلاتهم من حقول المجاز لم تكن من صنف واحد، بل كانت لكل منهم طريقته الخاصة في مقاربة اللغة والشكل والرؤية إلى الأشياء. فحيث جهد عبد الحسين عبد الله، في النصف الأول من القرن المنصرم، في تطعيم القصيدة التقليدية بلمسة خاصة من الطرافة والسخرية المحببة، حرص حبيب صادق على المزاوجة بين المنجز الشعري الحداثي وبين النمط العمودي الخليلي، مع جنوح إلى المحافظة والالتزام بقضايا الإنسان، أملته شخصية الشاعر الرصينة من جهة، وانتماؤه الفكري والسياسي الذي دفعه من جهة أخرى إلى الانصراف عن الكتابة، وتأسيس «المجلس الثقافي للبنان الجنوبي» الذي شكل الحاضنة الأكثر حدباً لكوكبة الشعراء الذين عرفوا في وقت لاحق بشعراء الجنوب اللبناني.

حبيب صادق

لكن الكتابة عن الخيام وشعرائها ومبدعيها يصعب أن تستقيم، دون الوقوف ملياً عند المثلث الإبداعي الذي يتقاسم أطرافه كلُّ من عصام ومحمد وحسن العبد الله. اللافت أن هؤلاء الشعراء الثلاثة لم تجمعهم روابط القرابة والصداقة وحدها، بل جمعهم في الآن ذاته موهبتهم المتوقدة وذكاؤهم اللماح وتعلقهم المفرط بالحياة.

على أن ذلك لم يحل دون مقاربتهم للكتابة من زوايا متغايرة وواضحة التباين. فعصام الذي ولد وعاش في بيروت ودُفن في تربتها بعد رحيله، والذي نظم باللغة الفصحى العديد من قصائده الموزونة، سرعان ما وجد ضالته التعبيرية في القصيدة المحكية، بحيث بدت تجربته مزيجاً متفاوت المقادير من هذه وتلك.

إلا أن الهوى المديني لصاحب «سطر النمل» الذي حوّل مقاهي بيروت إلى مجالس يومية للفكاهة والمنادمة الأليفة، لم يمنعه من النظر إلى العاصمة اللبنانية بوصفها مجمعات ريفية متراصفة، ومدينة متعذرة التحقق. وهو ما يعكسه قوله باللهجة المحكية «ما في مْدينة اسمْها بيروت بيروتْ عنقود الضّيّع». كما أن حنينه الدفين إلى الريف الجنوبي، والخيام في صميمه، ما يلبث أن يظهر بجلاء في قصيدته «جبل عامل» ذات الطابع الحكائي والمشهدية اللافتة، التي يقول في مطلعها: «كان في جبلْ إسمو جبلْ عاملْ راجعْ عبَيتو مْنِ الشغلْ تعبانْ وْكانِ الوقتْ قبل العصرْ بِشْوَيْ بكّيرْ تيصلّي تْمدّدْ عَكرْسي إسمها الخيامْ كتْفو الشمال ارتاح عالجولانْ كتْفو اليمين ارتاحْ عا نيسانْ».

حسن عبد الله

ومع أن الخيام، كمكان بعينه، لا تظهر كثيراً في أعمال محمد العبد الله الشعرية، فهي تظهر بالمقابل خلفية طيفية للكثير من كتاباته، سواء تلك المترعة بعشق الطبيعة وأشجارها وكائناتها، كما في قصيدته «حال الحور»، أو التي تعكس افتتانه بوطن الأرز، الذي لا يكف عن اختراع قياماته كلما أنهكته الحروب المتعاقبة، كما في قصيدته «أغنية» التي يقول فيها:

من الموج للثلج نأتيك يا وطن الساعة الآتية

إننا ننهض الآن من موتك الأوّليّ

لنطلع في شمسك الرائعة

نعانق هذا التراب الذي يشتعلْ

ونسقيه بالدمع والدم يمشي بنسغ الشجرْ

أما حسن عبد الله، الذي آثر حذف أل التعريف من اسمه العائلي، فقد عمل جاهداً على أن يستعيد من خلال شعره، كل تلك الأماكن التي غذت ببريقها البرعمي حواسه الخمس، قبل أن تتضافر في إبعاده عنها إقامته الطويلة في بيروت، والحروب الضروس التي نشبت غير مرة فوق مسقط رأسه بالذات، وحولت عالمه الفردوسي إلى ركام. ورغم أن نتاجه الشعري اقتصر على مجموعات خمس، فقد تمكن حسن أن يجعل من البساطة طريقته الماكرة في الكتابة، وأن يحمل أكثر الصور غرابة وعمقاً، على الكشف عن كنوزها بسلاسة مدهشة أمام القارئ.

وإذ أفاد صاحب «أذكر أنني أحببت» و«راعي الضباب» من فن الرسم الذي امتلك ناصيته بالموهبة المجردة، فقد بدت قصائده بمعظمها أشبه بلوحات متفاوتة الأحجام منتزعة من تربة الخيام وأشجارها وعسل فاكهتها الأم، ومياهها الغائرة في الأعماق. وكما استطاع بدر شاكر السياب أن يحوّل جدول بويب النحيل إلى نهر أسطوري غزير التدفق، فقد نجح حسن عبد الله من جهته في تحويل نبع «الدردارة»، الواقع عند الخاصرة الغربية لبلدته الخيام، إلى بحيرة مترامية الأطراف ومترعة بسحر التخيلات.

وإذا كانت المشيئة الإلهية لم تقدّر لشعراء الخيام أن يعيشوا طويلاً، فإن في شعرهم المشبع بروائح الأرض ونسغها الفولاذي، ما لا يقوى عليه فولاذ المجنزرات الإسرائيلية المحيطة ببلدتهم من كل جانب. وكما يواجه الجنوبيون العدو بما يملكون من العتاد والأجساد، واجهه الشعراء بالقصائد وشواهد القبور ونظرات الغضب المدفونة في الأرض. ومن التخوم القصية لبراري الفقدان، راح حسن عبد الله يهتف ببلدته المثخنة بحراب الأعداء:

تأتي الطائرات وتقصف الصفصاف،

تأتي الطائراتُ ويثْبتُ الولد اليتيمُ

وطابتي في الجوّ والرمان في صُرَر الغيوم،

وتثبتينَ كراية التنّين،

إني مائلٌ شرقاً

وقد أخذ الجنوب يصير مقبرةً بعيدة.