«بُلوغ» السعودي يفتتح تظاهرة الفيلم العربي بخمس قصص

مهرجان القاهرة لسينمائي الدولي (2)

من الفيلم السعودي «بُلوغ»
من الفيلم السعودي «بُلوغ»
TT

«بُلوغ» السعودي يفتتح تظاهرة الفيلم العربي بخمس قصص

من الفيلم السعودي «بُلوغ»
من الفيلم السعودي «بُلوغ»

بعض الأمور على ما يرام وبعضها الآخر على ما لا يُرام في الدورة الحالية من مهرجان القاهرة السينمائي.
على سبيل المثال: استقبال الضيوف ونجاح العروض ونسبة الجيد من الأفلام هي تجسيد لما سعى إليه المهرجان، برئاسة محمد حفظي للسنة الرابعة، لتحقيقه.
ما ليس على ما يرام هي تلك المشكلات الإدارية التي تتبع مكاتب تعمل تحت إشرافه أو تنتمي إلى هيكل المهرجان الكلّي. الدعوات المرسلة إلى الكثير تقول غير ما يكتشفه هؤلاء حين وصولهم. العروض التي يؤمّها المشاهدون بهواتفهم المفتوحة. وما لا يتبدّى لبعضنا من حسنات أو سيئات تنظيم يبقى من دون علم أحد. هناك بالطبع جهود كبيرة لإنجاح التجربة لكنّ هناك كذلك مكوّنات إدارية تعمل على نظام وتبعاً لسلوكيات غير مشبعة بالتحديث بعد.
ثم هناك ما يشهده العالم من أوضاع صحية. سمعنا مثلاً أنّ أحد المخرجين المفترض بهم القدوم من المغرب ألغى حضوره كون المطار بات مغلقاً. أميركي واحد على الأقل اعتذر عن الحضور في آخر لحظة لأنّه لا يضمن، كما قال، أن يستطيع العودة إذا ما قررت الولايات المتحدة إقفال أبوابها.
وهذا ينقلنا إلى المهرجانات الأخرى المرتصفة واحداً بعد واحد في المستقبل القريب. ما سيكون حال مهرجاني «صندانس» و«بالم سبرينغز» الأميركيين إذا لم يستطعا استقطاب حضور عالمي؟ ماذا سيكون حال «روتردام» في هولندا و«برلين» في ألمانيا؟ هل يمكن الركون إلى ما بعد هذا العدد الأول من المهرجانات السينمائية أم سيجد مهرجان «كان» (وما يسبقه) نفسه يعود إلى اختيارات صعبة كما فعل في العام الماضي؟

مستويات فيلم واحد
افتتح الفيلم السعودي «بُلوغ» برنامج «آفاق السينما العربية» وحشدت مُخرجاته الخمسة (هند الفهاد، ونور الأمير، وجواهر العامري، وسارة مسفر، وفاطمة البنوي) خمس حكايات اجتماعية عن وضع المرأة في السعودية من منظور تطلّعاتها وما كانت تعانيه من ظروف اجتماعية تبعت تقاليد المرحلة السابقة قبل أن تجد نفسها اليوم في إطار عهد جديد يضمن لها تكافؤ الفرص وحرية العمل والكثير من الاختيارات الحياتية المهمة.
كون الفيلم تألّف من خمسة أفلام قصيرة متآزرة لا يُفضي فقط إلى الكشف عن خمس مواهب جديدة بل أيضاً عن تفاوت مستوياتها. هذا طبيعي لأي فيلم من النوع ذاته بصرف النظر عن بلد الإنتاج. فبصورة شبه آلية تختلف الأساليب وبالتالي المستويات، لكن المؤكد أنّ مسابقة «آفاق السينما العربية» أحسنت اختيار «بُلوغ» كفيلم افتتاح.
هذا يتأكد أكثر بالنظر إلى مستويات الأفلام الأخرى التي ستقوم لجنة تحكيم من ثلاثة أشخاص، هم المخرجة السعودية فاطمة البنوي والمخرج اللبناني هادي زكّاك والمخرج المصري تامر محسن، باختيار الفائز بينها. فإلى الآن تنوّعت هذه المستويات مع غالبية تفتقر إلى حسن الإخراج وفعل التوازن بين النص والتنفيذ الفني بحيث لا يستولي الأول على العمل كحال معظم ما يحدث في أفلام اليوم.
«من القاهرة» لهالة جلال (مصر) أحد هذه الأفلام المرتبكة بين ما تودّ المخرجة قوله وبين ما تستطيع أن تفعله إخراجاً وتنفيذاً وشكلاً لضمان بلورة فعل سينمائي محض.
يبدأ هذا الفيلم غير الروائي باعتراف المخرجة جلال بأنّها تخاف. تعد ما تخافه مثل المرتفعات والزحام والليل والقاهرة و-تقريباً- كل شيء آخر. وسريعاً ما ينجلي الأمر عن أنها تحتال على هذا الخوف بمعايشته (كما تقول) وبالاحتماء وراء الكاميرا لتسرد عبرها مشاهد ومواقف. ويحمل الفيلم عنوان «من القاهرة» وهو يتبلور على أنّه حول المخرجة أكثر مما هو عن القاهرة فعلياً.
التصوير (بديجيتال كاميرا تبدو كما لو لم تكن حديثة ما يكفي)، شاحب هنا، وثري هناك، والحركة متمحورة حول بطلة الفيلم وما تقوله لنا وما تقوله للآخرين من حولها. للأسف، كُشف قبل التصوير عن معاناة امتدت 4 سنوات لتحقيق هذا الفيلم والكثير من إعادة التصوير والتوليف. فترة طويلة أفضت إلى لا شيء يقارب في فن سرده الطموح الذي يكشف عنه.
«قدحة» للتونسي أنيس الأسود يشبه سيارة فقدت الاتجاه ووجدت نفسها في منحدر وبلا مكابح. دراما بكائية تبدأ قصّتها بعد نحو ربع ساعة من بداية الفيلم. هناك صِبية يلعبون في البحر ثم يركضون في الشارع وسيارة تضرب الطفل «قدحة» ونجده في المستشفى ملقى على ظهره بعد التطبيب والكشف والتحاليل وهو ما زال بالشورت.
حين خروجه يتابع المخرج ما بدأه من دون تطوير من أي نوع. لا على صعيد الشخصيات ولا على صعيد الحكاية ذاتها. هذه الأخيرة تنتقل من حزن لآخر وتنتهي في قعر الأحزان على نحو فجاعي وميلودرامي بائس. هو فيلم من النوع الذي تقرأ نصّه المكتوب في «كاتالوغ» الأفلام، فتتحمّس له كونه يطرح أسئلة ومشارف أحوال تدعو للاهتمام. تشاهد الفيلم فإذا بالنص قد تحوّل إلى تشكيل تلفزيونيّ السرد (من نوع لقطة للممثل الأول حين يتحدث ثم للممثل الثاني حين يأتي دوره للحديث) والإيقاع بليد في الطموح مع تمثيل لا تودّ التعليق عليه احتراماً لمن قام به.

الحب في مدينة الحزن
أفضل ما شوهد حتى الآن من أفلام عربية هو «دفاتر مايا» للثنائي المتزوّج جوانا حاجي توما وخليل جريج.
يبدأ الفيلم بتقديم امرأة (ريم تركي) ووالدتها (كليمانس صبّاغ) اللتين تعيشان الآن في مونتريال. كانتا قد هاجرتا من لبنان خلال الحرب الأهلية. للأم فتاة في مطلع سنوات المراهقة لا تفهم الكثير عما حدث في تلك الفترة ولا تعرف شيئاً عن تلك الحرب وكيف عاشت العائلة اللبنانية حياتها قبل ذلك وخلاله.
هناك صندوق يصل بالبريد من باريس، أرسلته عائلة صديقة للأم كانت قد هاجرت إلى فرنسا كذلك من لبنان في الفترة ذاتها، يحمل أسراراً لا تود الأم لابنتها الصغيرة أن تفتحه. في الصندوق رسائل وأفلام وأشرطة تسجيل وصور ووثائق. هو صندوقها الذي حملته معها صديقتها ليزا إلى فرنسا (ذكريات مشتركة) وعندما ماتت هناك، أرسلته لها عائلتها.
يقود فضول الفتاة الصغيرة لفتح الصندوق ومعايشة ما فيه. ترى وتسمع كيف أنّ أمها مايا أحبت شاباً من طائفة أخرى رغم اعتراض الأهل. تتكشّف أمامها صور الحياة السابقة الجميلة منها والمثيرة للحزن. تشاركها والدتها (فيما بعد) تلك الذكريات بعدما كانت قد اعترضت على قيام ابنتها بالوقوف على ما فيه من أسرار.
الفيلم هو قصّة ذكريات منسابة من فترة كان يجب أن تكون طبيعية تمر بها كل فتاة وشاب في مقتبل العمر. الأم مايا كانت قد أغلقت الباب على تلك الذكريات والآن تواجهها من جديد وما نراه هو انتقال المخرجين توما وجريج من الحاضر في مونتريال، إلى الماضي في بيروت عبر صور ثابتة وأخرى ممثّلة وثالثة وثائقية بحياتها السابقة، التي لم تعرفها من جديد إلا في فترات متباعدة وبالتأكيد ليس في المرحلة الحالية.
ينقلنا الفيلم إلى أيام الحياة المنطلقة بحيوية وتلقائية من موسيقى وحياة شباب ورفص وسهولة عيش. هذا كله ينضوي بعيداً وتباعاً عندما ترتفع أصوات الأسلحة ويشتد القصف والقصف المضاد، وتجد العائلة نفسها عارية أمام الخطر كشأن كل الأبرياء في تلك الآونة.
يتحاشى «دفاتر مايا» انتقاد أي فريق. في الواقع لم يكن ليصل إلى ذلك المستوى من الصدق في المعالجة لو انضم إلى جانبٍ ما. هو قصّة حب على خلفية حرب مكروهة. كل ذلك مهم في الفيلم ويتوالى بسلاسة مطلقة على الرغم من أنّ الحكاية تتنقل ما بين الماضي والحاضر وما بين مدينتين وجيلين. هناك كذلك تآلُف بين مقاسات التصوير المختلفة (35 ملم و16 ملم) واستخدام الصور كوثائق ممنهجة جيداً. هذا يتم بفضل مخرجين يوفران طاقة كبيرة لعملهما. في الأساس فيلم مكتوب جيداً، ومشغول فيما بعد، على المستوى ذاته موفراً ثراءً في المشاهد والأحاسيس. بعض المشاهد تحمل ابتكاراً بليغاً مثل تلك التي نجد فيها مايا وصديقها رجا يركضان كل منهما بلقطة منفصلة على شاشة واحدة (Split Screen) كل منهما باتجاه الآخر ولا يلتقيان. خلفهما بيروت مهدمة ومنهوبة الحاضر والمستقبل.
على كثرة الأفلام التي عالجت الحرب اللبنانية وتبعاتها (وأحياناً قليلة مسبباتها) يبرز هذا الفيلم ضمن مجموعة قليلة من تلك الأكثر تميّزاً بفضل المعالجة الفنية المختارة لتقديم ما في العمل من مضامين وأفكار.


مقالات ذات صلة

«سينما 70» تطلق عروضاً في «مهرجان التلال العجيبة» شرق السعودية

يوميات الشرق تتيح العروض للزوار مشاهدة الأفلام تحت السماء المفتوحة (الشرق الأوسط)

«سينما 70» تطلق عروضاً في «مهرجان التلال العجيبة» شرق السعودية

أطلقت «سينما 70» عروضها السينمائية المفتوحة في الهواء الطلق ضمن فعاليات «مهرجان التلال العجيبة» في مدينة الجبيل الصناعية (شرق السعودية).

«الشرق الأوسط» (الجبيل الصناعية)
يوميات الشرق جانب من العرض الخاص للفيلم بالقاهرة (الشركة المنتجة)

فيلم «الحريفة 2» يراهن على نجاح الجزء الأول بشباك التذاكر

احتفل صناع فيلم «الحريفة 2» بالعرض الخاص للفيلم في القاهرة مساء الثلاثاء، قبل أن يغادروا لمشاهدة الفيلم مع الجمهور السعودي في جدة مساء الأربعاء.

أحمد عدلي (القاهرة )
يوميات الشرق فيصل الأحمري يرى أن التمثيل في السينما أكثر صعوبة من المنصات (الشرق الأوسط)

فيصل الأحمري لـ«الشرق الأوسط»: لا أضع لنفسي قيوداً

أكد الممثل السعودي فيصل الأحمري أنه لا يضع لنفسه قيوداً في الأدوار التي يسعى لتقديمها.

أحمد عدلي (القاهرة)
يوميات الشرق يتيح الفرصة لتبادل الأفكار وإجراء حواراتٍ مُلهمة تتناول حاضر ومستقبل صناعة السينما العربية والأفريقية والآسيوية والعالمية (واس)

«البحر الأحمر السينمائي» يربط 142 عارضاً بصناع الأفلام حول العالم

يربط مهرجان البحر الأحمر 142 عارضاً من 32 دولة هذا العام بصناع الأفلام حول العالم عبر برنامج «سوق البحر الأحمر» مقدماً مجموعة استثنائية من الأنشطة.

لقطة من فيلم «عيد الميلاد» (أ.ب)

فيلم «لاف أكتشلي» من أجواء عيد الميلاد أول عمل لريتشارد كيرتس

بعد عقدين على النجاح العالمي الذي حققه الفيلم الكوميدي الرومانسي «لاف أكتشلي» المتمحور حول عيد الميلاد، يحاول المخرج البريطاني ريتشارد كورتس تكرار هذا الإنجاز.

«الشرق الأوسط» (لندن)

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)