رحيل سماح إدريس... المثقف الذي رفض اعتبار الكتب مقبرة

آخر مشاريعه هو أشمل قاموس «عربي ـ عربي»

الراحل سماح إدريس
الراحل سماح إدريس
TT

رحيل سماح إدريس... المثقف الذي رفض اعتبار الكتب مقبرة

الراحل سماح إدريس
الراحل سماح إدريس

باكراً جداً رحل سماح إدريس، المثقف الفاعل، المتعدد، الحماسي، النشيط. كتب في النقد والأدب. ألّف للأطفال. أدار مجلة «الآداب» بحيوية بالغة رغم كل الصعاب. نظّم المؤتمرات. شارك في الحوارات. الشاب البيروتي الوسيم الذي وصل من نيويورك متخرجاً في أعرق جامعاتها، كان بمقدوره أن يركن إلى التعليم الجامعي، ويؤلّف الكثير من الكتب الأكاديمية، لكنّ التعليم لم يكن هواه. رأى في مشاريع «دار الآداب» المتشعبة، التي أسسها والده العصامي الراحل سهيل إدريس عام 1956، ميدانه لينطلق.
منذ البدء انكبّ على قاموس «المنهل». في المرة الأولى التي تعرفت إليه فيها، كان جالساً في مكتبه تحيط به على الطاولة قواميس كثيرة مفتوحة، يقرأ فيها، ويقارن بينها، لينتهي مع كل مفردة إلى المعنى والصيغ التي ترضيه. وقتها كان قد تسلم رئاسة تحرير مجلة «الآداب» عام 1992 وأول العوائق التي واجهته هي التسويق في بلاد لم تعد ترى في الأدب منفعة. ناضل كثيراً إلى أن اضطر لإيقاف المجلة عام 1912، ليعيد إصدارها إلكترونياً بعد ذلك بثلاث سنوات. لكنه في المقابل، أنجز مهمة رائعة، حين أنقذ أرشيف «المجلة» التاريخي ونشره إلكترونياً بتبويب متقن، وأتاحه للقراء بالمجان. ذاك إنجاز له سيبقى كصدقة جارية.
وُلد سماح إدريس في بيروت عام 1961 لعائلة عاشت بين الكتب. والدته الكاتبة والمترجمة عائدة مطرجي، ووالده الأديب العروبي سهيل إدريس. كانت «دار الآداب» بكل نتاجاتها الغنية، وقربها من الوجودية، وتعلقها بالحرية، هي البيت الثاني لسماح وشقيقته رنا التي ستدير الدار بمهارة بعد ذلك، برفقة شقيقتها رائدة. لكن سماح إدريس لم يرَ في الكتب مقابر نهائية للأفكار، بقدر ما كانت بالنسبة له هي واحدة من أدوات الحياة، ووسائل التعبير. امتد نشاطه في كل ميدان. تحول إلى وجه ثقافي بارز بسبب دفاعه الذي لم يتوقف عن فلسطين».
يحتاج سماح إدريس بعد وفاته لمن يجمع عشرات المقالات ويحرر مداخلاته الكثيرة، التي كان يشارك فيها دون تردد، لأنه آمن بأن الفكر وُلد لينتشر. من أدواته كانت قصص الأطفال والفتيان. عمل على هذا المشروع بجدٍّ كبير. كان من بين الأوائل الذين لحظوا خلوّ المكتبة العربية من نصوص قريبة إلى قلب الأطفال وتحترم ذكاءهم، وتخاطبهم بلغة فصيحة دون أن تبتعد عن عاميتهم. راح يتصيد المفردات العامية المتأتية من الفصحى، ويستخدمها ببراعة. كتب بهذه اللغة الجميلة التي لاقت رواجاً إحدى عشر قصة للصغار، وأربع روايات للناشئة وزيّنها برسوم مرحة، من بينها «تحت السرير»، و«فلافل النازحين»، و«قصة الكوسى»، و«النصاب»، و«الملجأ»، و«حين قرر أبي». لم يكن سماح ليكتفي بالتأليف، بل كان يقرأ قصصه للصغار عبر قناته على «يوتيوب»، يحاورهم. جال في المدارس قارئاً محاوراً، استقبل الأطفال في معرض الكتاب، ذهب إليهم في المخيمات، حتى باتت كتبه هذه من بين الأكثر مبيعاً.
له كتابان نقديان هما «رئيف خوري وتراث العرب»، و«المثقف العربي والسلطة: بحث في روايات التجربة الناصرية». ومن كتبه المترجمة «صناعة الهولوكوست – تأمّلات في استغلال المعاناة اليهوديّة» لنورمان فنكلستين، و«الماركسية والدين والاستشراق»، إضافةً إلى عشرات المقالات التي ترجمها أو كتبها ولم تُجمع.
لا نعرف إلى أين وصل سماح في مشروعه لاستكمال ما بدأه والده، والعلامة صبحي الصالح. فقد وعدنا بثلاثة أجزاء، من «المنهل» يكون أكبر وأشمل معجم عربي - عربي، خصوصاً أننا في أمسّ الحاجة إليه. لم يتح السرطان لسماح المشغول حتى الثمالة، لجمع نتاجه، ولم يمهله إلا بضعة أسابيع. قاوم بشجاعة. كان التفاف الأصدقاء والأحبة حوله كبيراً ولافتاً، لكن الموت كان أسرع.



ستيف بركات لـ«الشرق الأوسط»: أصولي اللبنانية تتردّد أبداً في صدى موسيقاي

عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية     -   ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية - ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
TT

ستيف بركات لـ«الشرق الأوسط»: أصولي اللبنانية تتردّد أبداً في صدى موسيقاي

عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية     -   ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية - ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)

ستيف بركات عازف بيانو كندي من أصل لبناني، ينتج ويغنّي ويلحّن. لفحه حنين للجذور جرّه إلى إصدار مقطوعة «أرض الأجداد» (Motherland) أخيراً. فهو اكتشف لبنان في وقت لاحق من حياته، وينسب حبّه له إلى «خيارات مدروسة وواعية» متجذرة في رحلته. من اكتسابه فهماً متيناً لهويته وتعبيره عن الامتنان لما منحه إياه الإرث من عمق يتردّد صداه كل يوم، تحاوره «الشرق الأوسط» في أصله الإنساني المنساب على النوتة، وما أضفاه إحساسه الدفين بالصلة مع أسلافه من فرادة فنية.
غرست عائلته في داخله مجموعة قيم غنية استقتها من جذورها، رغم أنه مولود في كندا: «شكلت هذه القيم جزءاً من حياتي منذ الطفولة، ولو لم أدركها بوعي في سنّ مبكرة. خلال زيارتي الأولى إلى لبنان في عام 2008. شعرتُ بلهفة الانتماء وبمدى ارتباطي بجذوري. عندها أدركتُ تماماً أنّ جوانب عدة من شخصيتي تأثرت بأصولي اللبنانية».
بين كوبنهاغن وسيول وبلغراد، وصولاً إلى قاعة «كارنيغي» الشهيرة في نيويورك التي قدّم فيها حفلاً للمرة الأولى، يخوض ستيف بركات جولة عالمية طوال العام الحالي، تشمل أيضاً إسبانيا والصين والبرتغال وكوريا الجنوبية واليابان... يتحدث عن «طبيعة الأداء الفردي (Solo) التي تتيح حرية التكيّف مع كل حفل موسيقي وتشكيله بخصوصية. فالجولات تفسح المجال للتواصل مع أشخاص من ثقافات متنوعة والغوص في حضارة البلدان المضيفة وتعلّم إدراك جوهرها، مما يؤثر في المقاربة الموسيقية والفلسفية لكل أمسية».
يتوقف عند ما يمثله العزف على آلات البيانو المختلفة في قاعات العالم من تحدٍ مثير: «أكرّس اهتماماً كبيراً لأن تلائم طريقة عزفي ضمانَ أفضل تجربة فنية ممكنة للجمهور. للقدرة على التكيّف والاستجابة ضمن البيئات المتنوّعة دور حيوي في إنشاء تجربة موسيقية خاصة لا تُنسى. إنني ممتنّ لخيار الجمهور حضور حفلاتي، وهذا امتياز حقيقي لكل فنان. فهم يمنحونني بعضاً من وقتهم الثمين رغم تعدّد ملاهي الحياة».
كيف يستعد ستيف بركات لحفلاته؟ هل يقسو عليه القلق ويصيبه التوتر بإرباك؟ يجيب: «أولويتي هي أن يشعر الحاضر باحتضان دافئ ضمن العالم الموسيقي الذي أقدّمه. أسعى إلى خلق جو تفاعلي بحيث لا يكون مجرد متفرج بل ضيف عزيز. بالإضافة إلى الجانب الموسيقي، أعمل بحرص على تنمية الشعور بالصداقة الحميمة بين الفنان والمتلقي. يستحق الناس أن يلمسوا إحساساً حقيقياً بالضيافة والاستقبال». ويعلّق أهمية على إدارة مستويات التوتّر لديه وضمان الحصول على قسط كافٍ من الراحة: «أراعي ضرورة أن أكون مستعداً تماماً ولائقاً بدنياً من أجل المسرح. في النهاية، الحفلات الموسيقية هي تجارب تتطلب مجهوداً جسدياً وعاطفياً لا تكتمل من دونه».
عزف أناشيد نالت مكانة، منها نشيد «اليونيسف» الذي أُطلق من محطة الفضاء الدولية عام 2009 ونال جائزة. ولأنه ملحّن، يتمسّك بالقوة الهائلة للموسيقى لغة عالمية تنقل الرسائل والقيم. لذا حظيت مسيرته بفرص إنشاء مشروعات موسيقية لعلامات تجارية ومؤسسات ومدن؛ ومعاينة تأثير الموسيقى في محاكاة الجمهور على مستوى عاطفي عميق. يصف تأليف نشيد «اليونيسف» بـ«النقطة البارزة في رحلتي»، ويتابع: «التجربة عزّزت رغبتي في التفاني والاستفادة من الموسيقى وسيلة للتواصل ومتابعة الطريق».
تبلغ شراكته مع «يونيفرسال ميوزيك مينا» أوجها بنجاحات وأرقام مشاهدة عالية. هل يؤمن بركات بأن النجاح وليد تربة صالحة مكوّنة من جميع عناصرها، وأنّ الفنان لا يحلّق وحده؟ برأيه: «يمتد جوهر الموسيقى إلى ما وراء الألحان والتناغم، ليكمن في القدرة على تكوين روابط. فالنغمات تمتلك طاقة مذهلة تقرّب الثقافات وتوحّد البشر». ويدرك أيضاً أنّ تنفيذ المشاريع والمشاركة فيها قد يكونان بمثابة وسيلة قوية لتعزيز الروابط السلمية بين الأفراد والدول: «فالثقة والاهتمام الحقيقي بمصالح الآخرين يشكلان أسس العلاقات الدائمة، كما يوفر الانخراط في مشاريع تعاونية خطوات نحو عالم أفضل يسود فيه الانسجام والتفاهم».
بحماسة أطفال عشية الأعياد، يكشف عن حضوره إلى المنطقة العربية خلال نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل: «يسعدني الوجود في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا كجزء من جولة (Néoréalité) العالمية. إنني في مرحلة وضع اللمسات الأخيرة على التفاصيل والتواريخ لنعلن عنها قريباً. تملؤني غبطة تقديم موسيقاي في هذا الحيّز النابض بالحياة والغني ثقافياً، وأتحرّق شوقاً لمشاركة شغفي وفني مع ناسه وإقامة روابط قوامها لغة الموسيقى العالمية».
منذ إطلاق ألبومه «أرض الأجداد»، وهو يراقب جمهوراً متنوعاً من الشرق الأوسط يتفاعل مع فنه. ومن ملاحظته تزايُد الاهتمام العربي بالبيانو وتعلّق المواهب به في رحلاتهم الموسيقية، يُراكم بركات إلهاماً يقوده نحو الامتنان لـ«إتاحة الفرصة لي للمساهمة في المشهد الموسيقي المزدهر في الشرق الأوسط وخارجه».
تشغله هالة الثقافات والتجارب، وهو يجلس أمام 88 مفتاحاً بالأبيض والأسود على المسارح: «إنها تولّد إحساساً بالعودة إلى الوطن، مما يوفر ألفة مريحة تسمح لي بتكثيف مشاعري والتواصل بعمق مع الموسيقى التي أهديها إلى العالم».