حين أصبحت إيتل عدنان في التسعين، وبعد حياة مليئة بالمغامرة والتجريب والترحال، سُئلت، ما هو الأمر الذي كانت تتمناه، ولم تتمكن منه. قالت: «أحببت لو أنني عرفت والدي أكثر، لو أنني فهمت من هما، واقتربت منهما كصديقة، تلك العلاقة السلطوية بيننا هي التي رفضتها».
عبارات قليلة ربما تفسر كل المسار الفني المتمرد والخصيب لإيتل عدنان التي توفيت يوم الأحد الماضي 14 نوفمبر (تشرين الثاني) في باريس، عن عمر 96 عاماً. فهذه المرأة التي عاشت حياتها طولاً وعرضاً، حتى كادت تبلغ المائة، ولم يعرف لها مقام محدد أو اختصاص فني واحد، كانت الضيفة الفنية والمشاركة النشطة، كلما دعيت أو طلب إليها ذلك. بقيت مقدرة عالمياً، بمواهبها الجامحة، وصديقة للكثيرين. بعد وفاتها وصفتها صحيفة «لوموند» الفرنسية بأنها «قامة ثقافية تعددية».
لحظة وفاتها، كان معرض استعادي يقام لها في متحف «غوغنهام» في نيويورك إلى جانب الفنان فاسيلي كاندنسكي، يستمر حتى الشهر الأول من العام المقبل. وأعمال أخرى لها معروضة، وستبقى لأيام مقبلة، في «بينالي البندقية»، ضمن مشروع المصممة المعمارية هلا وردة «سقف للصمت»، وتشارك فيه التشكيلية الراحلة بـ16 لوحة في الصالة الرئيسية للجناح اللبناني تحمل اسم «أوليفيا: إجلالاً لإلهة شجرة الزيتون»، تجسد من خلالها المهابة الاستثنائية لهذه الشجرات المعمرة، التي شهدت على حضارات تلت حضارات على شاطئ المتوسط. وقبيل رحيل إيتل عدنان مباشرة، افتتح معرض «أكتب وارسم» في «مركز جورج بومبيدو» في ميتز هو ثمرة حوار معها. قليل أن يغادر فنان الفنانية، في مثل هذا العمر، وهو لا يزال حاضراً رغم مرضه إلى هذا الحد.
تركت إيتل عدنان لنفسها العنان، تسرح في الفنون والبلدان. ولدت في بيروت عام 1925 قبل أن يولد لبنان بحدوده الحالية. عاشت الحقبة العثمانية، والدتها يونانية كانت من عائلة تعيش في إزمير، ووالدها سوري، دمشقي، كان ضابطاً في الجيش العثماني. بذلك تكلمت اليونانية والتركية. وحين احترقت إزمير عن بكرة أبيها وسُرح والدها من عمله بعد انهيار الدولة العثمانية، وجدت نفسها مع والدين يعيشان مأساتين، وكأنما تاريخهما مُحي عن الخريطة. درست في مدرسة للراهبات لم تسعفها في تعلم العربية، ثم درست الأدب في الجامعة ببيروت. كتبت ونشرت بالفرنسية قبل أن تبلغ العشرين. فتنتها الطبيعة المحيطة بها، بحر بيروت، وجبال بيت مري، وزهور الحقول وأشجارها، فكانت مادة أولى لكتاباتها. في الرابعة والعشرين استطاعت الحصول على منحة وسافرت إلى فرنسا لدراسة الفلسفة، ثم درست فلسفة الفن في أميركا، وحاضرت في عدد من الجامعات. عادت إلى لبنان ظانة أنها ستجد أخيراً مستقرها. عملت صحافية في المجال الثقافي وكذلك في التعليقات السياسية، في جريدة «الصفا» التي كانت تصدر بالفرنسية، يوم لم تكن النساء يخضن المجالات السياسية.
لكن الحرب اشتعلت، ووجدت نفسها هي التي تقول إنها الباحثة الدائمة عن الهدوء والسلام مضطرة للمغادرة، لتقضي ما تبقى من حياتها مسافرة، أو متنقلة بين منزليها في أميركا وباريس، لتقضي نحبها في العاصمة الفرنسية.
هذه الفنانة التي كتبت بالفرنسية والإنجليزية، وعاشت في بيروت الكزموبوليتية، انتقلت من الكتابة السياسية والأدب من شعر ورواية ومسرحية إلى الرسم، والخط، وهي عاشقة للمخطوطات، ولقراءة الخطوط، ومحبة للأغلفة، وللمزاوجة بين النصوص والرموز والأشكال. بصرية حتى الثمالة. تقول إنها اعتادت الهزائم وتعايشت معها. تستغرب كيف لهذه المرأة التي تتحدث عربية مكسرة أن تكون عروبية إلى هذا الحد، ومتوسطية، كما لا يمكن أن يتخيلها أحد. حملت فلسطين في قلبها ونصوصها. رأت في هزيمة 67 انكساراً عربياً شاملاً، وتألمت لحرب فيتنام، ثم قهرت بسبب الحروب اللبنانية المتلاحقة التي أجبرتها على مغادرة طويلة لن تكون الرجعة الحقيقية بعدها ممكنة. تألمت شديداً لما حل بالعراق، كما كانت واكبت بأسى حرب الجزائر من قبل. في مساكنها الجديدة، ستبحث عن الطبيعة اللبنانية جبلاً وبحراً وشجراً وزهراً. أشعارها وكتاباتها كلها مسكونة بهذا الألم الذي بقيت تعيشه رغم البعاد.
رسومها التي جاءت متأخرة عن الكتابات الأولى، محاولة للخروج من الحزن والألم، بفيض من الفرح. ألوان زاهية، تجريدية طفولية، الشمس حاضرة أبداً، مع زرقة لا تغيب. بقيت إيتل عدنان تجرب كل ما يحلو لها قائلة «إن الحرية هي الأساس، ولا حياة بلا حرية. وإنها متمسكة بالمحبة في مواجهة الكراهية والبغضاء اللذين لا حياة معهما».
سكينتها الظاهرة، التي جعلت كل من يعرفها يرى فيها طفولة لا تشيخ، لا تمنع تلمس دواخلها المتفجرة أبداً. ساعدها على المضي في طريقها الطويلة، وهي شاهدة أمينة على رواية التاريخ بموضوعيتها، ومحبتها وإنسانيتها، ذاك الوضوح الهائل لديها في الرؤية. فهي قادرة على تجسيد هذه التبسيطية في لوحاتها وشعرها وروايتها، وفي أحاديثها. دراستها للفلسفة لم تزدها إلا بساطة ووضوحاً وقدرة على إعادة الأشياء إلى جوهرها، من دون إكسسوارات تجعل المشاهد ضبابية.
لم تتوقف عن الرسم حتى سنواتها الأخيرة، رغم تقدمها في السن، أقامت المعارض، وأقيمت لها الاحتفاليات الاستعادية. حملت لبنان في أضلعها أينما ذهبت، وآمنت به وطناً قادراً على القيامة. وهي ترى أن هذا البلد له تاريخ لا بد من صيانته، وقدرات بشرية تمنحه خصوصية ليست لغيره.
عايشت يوسف الخال، أنسي الحاج، إدوارد سعيد، جورج شحادة. تألمت كثيراً لفراق جل أصدقائها بعد أن رحلوا هي التي تعتبر الصداقات، هي العائلية التي تتشكل مع الوقت بعد غياب الوالدين. وجدت في صديقتها سيمون فتال ونسها الأخير، وفي نشاطها الذي بقي فذاً سلوتها. فكل ما كانت تريده هذه السيدة، بعد العمر الطويل الذي عاشت وشهدت فيه تحولات البلاد التي أحبتها، خراباً وقيامة، ثم خراباً، هو أن تبقى قادرة على التواصل مع الآخرين. تلك كانت الهدية التي لا تريد التخلي عنها. رحلت الطفلة المعمرة كزيتونة لا تجف. تبرعت بغالبية لوحاتها، وتركت الكثير منها في كبريات متاحف العالم من أميركا إلى الشرق الأقصى. امرأة رائدة عاشت حرة، تعلمت، سافرت، مارست قناعاتها إلى منتهاها في الوقت الذي كانت لا تزال قضية المرأة موضع أخذ ورد عنيفين.
إيتل عدنان الزيتونة المعمرة التي استراحت
فنانة تعددية عالمية انتزعت حريتها ومشت
إيتل عدنان الزيتونة المعمرة التي استراحت
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة