عمر مرزوق يقدم سيرة شخصية وفكرية لـ«عبقري العباقرة وفيلسوف الفلاسفة»

ابن سينا وفّق بين الفلسفة والدين أو بين العقل والإيمان

ابن سينا... رسم تخطيطي
ابن سينا... رسم تخطيطي
TT

عمر مرزوق يقدم سيرة شخصية وفكرية لـ«عبقري العباقرة وفيلسوف الفلاسفة»

ابن سينا... رسم تخطيطي
ابن سينا... رسم تخطيطي

صدر في باريس مؤخراً كتاب هام بعنوان: «ابن سينا، أو إسلام الأنوار». ومؤلفه باحث جزائري الأصل اسمه عمر مرزوق. وأعترف بأني لم أكن قد سمعت باسمه من قبل قط. وهذا من نواقصي الشخصية التي ألوم نفسي عليها. وذلك لأن الرجل مفكر حقيقي من الطراز الأول. وهو حاصل على شهادة الدكتوراه في الفلسفة من جامعة السوربون، ومختص عموماً بفكر القرون الوسطى. ولكنه مطلع أيضاً على فكر الحداثة بشكل متين. وكان قد نشر سابقاً كتاباً بعنوان: هل توجد فلسفة إسلامية؟ منشورات دفاتر الإسلام عام 2018. وكان خلال سبع سنوات أستاذاً للفلسفة والحضارة الإسلامية في معهد الإمام الغزالي، التابع لجامع باريس الكبير. وهو الآن ينشر كتاباً ضخماً يتجاوز الأربعمائة صفحة عن واحد من أكبر فلاسفة العرب والإسلام: الشيخ الرئيس أبو علي ابن سينا. وهو كتاب مشوق لأنه يتخذ أحياناً شكل الرواية أو حتى الملحمة القصصية الممتعة. ولكنه كتاب علمي أكاديمي في الوقت ذاته. بمعنى أنه لا يلقي الكلام على عواهنه وإنما يقدم لنا لأول مرة السيرة الشخصية والفكرية لعبقري العباقرة وفيلسوف الفلاسفة. بصراحة كنا بحاجة ماسة إلى كتاب من هذا النوع. لقد طال انتظاره. والسؤال الذي يطرحه الكتاب هو التالي: هل يمكن أن تكون مسلماً مؤمناً، ومع ذلك تمارس روحك النقدية على التراث؟ بمعنى آخر: هل يمكن أن تكون مسلماً حقيقياً وفيلسوفاً تنويرياً في آنٍ معاً؟ والجواب نعم، يمكن بشرط أن تكون في مستوى ابن سينا. من المعلوم أن هذا المفكر لم يكن فقط طبيباً عظيماً سيطر على جامعات أوروبا طيلة سبعة قرون متواصلة. وإنما كان أيضاً فيلسوفاً ضخماً مطلعاً على كل علوم عصره وبالأخص على مؤلفات أفلاطون وأرسطو وأبقراط وبطليموس وغالينوس... إلخ، ولهذا السبب كان يريد إدخال العقل والمنطق والفلسفة إلى عالم الإسلام، فلا يبقى محصوراً بالأفكار التقليدية والعقليات الضيقة. كان يريد أن يقدم للمسلم الوسائل المعرفية التي تمكنه من التحرر من الظلاميات الدينية. من هنا عنوان الكتاب: «ابن سينا، أو إسلام الأنوار». هذا الكتاب يروي لنا قصة ابن سينا، أو بالأحرى ملحمته الشخصية الهادفة إلى إصلاح الفكر العربي الإسلامي وتنويره وتوسيع آفاقه في عالم هائج مائج وظروف قلقة مضطربة.
الشيء اللافت في شخصية ابن سينا هو عبقريته المبكرة التي أدهشت معاصريه وأذهلتهم. إنه يفهم «على الطائر» إذا جاز التعبير. ما يحتاجه الآخرون إلى سنوات لفهمه واستيعابه يفهمه هو في بضعة أيام. كان يستوعب أصعب النظريات العلمية أو الطبية أو الفلسفية وهو لا يزال حدثاً صغيراً في السن. يقول لنا المؤلف بهذا الصدد ما معناه: ما إن اكتشف والده هذه المواهب المتفجرة فيه حتى راح يؤمن له أفضل الأساتذة لتربيته وتعليمه. ولكن المشكلة أنه بعد فترة قصيرة سرعان ما تفوق على الأساتذة أنفسهم! بل وأصبح يفحمهم. بل وأصبح يخيفهم. فماذا تفعل بطفل كهذا؟ فلتة الفلتات. أعتقد أنه يشبه من هذه الناحية باسكال الفرنسي أو نيتشه الألماني، أو ربما أينشتاين ذاته. لم لا؟ لحسن الحظ فإن المجتمع الذي ولد فيه ابن سينا لم يكن منغلقاً كارهاً للمعرفة على عكس ما نظن. لم يكن عصراً معادياً للفلسفة والعلوم الدخيلة التي ولدت خارج أرض الإسلام: كعلم المنطق، وعلم النفس، والفلسفة... إلخ. وذلك لأن عصر ابن سينا كان امتداداً للعصر الذهبي الذي ازدهر بين القرنين الثامن والتاسع للميلاد. أما هو فقد ولد في القرن العاشر ومات في القرن الحادي عشر. لم يكن التزمت الفكري الكبير قد حصل بعد. لم يكن باب الاجتهاد قد أغلق بعد. هنا يكمن حظ ابن سينا.
ومع ذلك فإن الدكتور عمر مرزوق يقول لنا إن أكبر مشكلة واجهت ابن سينا في حياته وظلت تلاحقه حتى النهاية هي: معارضة الفقهاء المتشددين له وتركيزهم الشديد عليه حتى أقضوا مضجعه. نعم لقد كان رد فعل رجال الدين عليه وعلى أفكاره ومؤلفاته سلبياً جداً. وسوف تلاحقه هذه المشكلة طيلة حياته كلها. علاوة على ذلك فسوف يظلون يحسدونه ويغارون منه بسبب مواهبه الهائلة في المجالات كافة وذكائه المنقطع النظير. وحتى بعد موته مرغوا سمعته في الوحل واغتابوه وشتموه! وأكبر مثال على ذلك الغزالي الذي كفره رغم أنه استفاد من علمه الغزير وأخذ بعض أفكاره دون أن يعترف بذلك صراحة. لم ير في فلسفة ابن سينا إلا تقليداً باهتاً لأرسطو وأفلاطون في حين أنه كان مبدعاً حقيقياً. كان الفقهاء يمتلكون سلاحاً فعالاً وفتاكاً لتشويه سمعته وإسكات صوت شخص عبقري موهوب مثله. ما هو؟ إنه اتهامه بالكفر والإلحاد! ينبغي العلم أن حملة الإشاعات المغرضة التي استهدفت العلماء والمفكرين الحقيقيين اتخذت أبعاداً هائلة ومخيفة. وإذا كان هناك علماء كرههم الفقهاء، فهم بالدرجة الأولى الفلاسفة. لهذا السبب اضطهدوا الكندي وابن رشد والسهروردي وسواهم كثيرين. وتمت ملاحقتهم بل واغتيال بعضهم كالسهروردي وابن المقفع وابن باجة... إلخ. ويرى الدكتور عمر مرزوق أن هذه الممارسات استمرت حتى يومنا هذا، حيث اضطهد نصر حامد أبو زيد من قبل علماء الأزهر الذين اعتبروه ملحداً مرتداً، في حين أنه كان مسلماً حقيقياً، ولكن بعقلية فلسفية متنورة.
من جهة أخرى، يرى المؤلف أن الصفة الأساسية لابن سينا هي عطش إلى المعرفة لا يرتوي، وجوع إلى الفكر لا يشبع. كان فضوله المعرفي يشمل كل شيء: الفيزياء، وعلم الفلك، والكيمياء، والسياسة، والطب، وعلم النفس، وعلم المنطق، وعلم الرياضيات، وبالطبع الفلسفة. كان مفكراً موسوعياً بالمعنى الحرفي للكلمة. بل وينبغي أن نضيف الشعر أيضاً! فقد كان شاعراً موهوباً حقاً. لقد جمع المجد من طرفيه، أو من جميع أطرافه دفعة واحدة.
ثم يقول لنا المؤلف إن فكر ابن سينا كان نقدياً ومنفتحاً في آن. نقصد بالمنفتح أنه كان يأخذ الأفكار الآتية من الخارج ولكن بعد إعادة صياغتها وتعديلها والإضافة إليها. لم يكن يأخذها جاهزة كما هي. عبقري مثله لا يمكن أن يقلد الآخرين حرفياً. وهذا ما فعله مع علم النفس الموروث عن أرسطو. فلم يأخذه كلياً، وإنما جزئياً فقط ثم أضاف إليه. وكان فكره نقدياً لأنه كان يخضع أفكار الفلاسفة الذين سبقوه للغربلة النقدية والتمحيص الشديد. فما صمد منها أخذ به وما لم يصمد طرحه وتخلى عنه. وهذه هي سمة العباقرة في الأخذ: الهضم والاستيعاب والتجاوز.
لكن ماذا عن موقفه من العقل والنقل؟
هنا يموضع الدكتور عمر مرزوق الإشكالية ضمن إطارها الواسع ويقول لنا ما معناه:
تسود في أيامنا هذه أطروحة مغلوطة تقول بوجود تضاد بين الإسلام والعقل. فالبعض يتوهمون أن الفلسفة تؤدي إلى الكفر، أو الابتعاد عن الله، أو فقدان الإيمان والورع. وبالتالي فالمسلم مطالب بالاختيار بين شيئين: إما الفلسفة، وإما الدين. لقد أدت قرون متواصلة من الحملات الهجومية على الفلسفة إلى هذه النتيجة المؤسفة. ولكن الحل الصحيح هو التوفيق بين الفلسفة والدين، أو بين العقل والإيمان كما فعل ابن سينا، وكما فعل ابن رشد من بعده. وكذلك كما فعل طه حسين ومحمد أركون وعبد النور بيدار في عصرنا الراهن.
إننا لنشعر بالألم إذ نقول هذا الكلام. ولكننا نشعر بالغضب أيضاً على أولئك الذين أدانوا الفلسفة في العالم الإسلامي وأوصلونا إلى هذه النتيجة الكارثية التي أدت إلى تأخرنا وتخلفنا عن ركب الحضارة والتقدم. نقول ذلك، وبخاصة أن العقلانية الفلسفية هي التي جعلت الغرب ينطلق حضارياً ويتفوق على العالم العربي والإسلامي كله بدءاً من لحظة ديكارت. فقد أعطى هذا المفكر العملاق للغرب المفاتيح المنهجية التي مكنته من التحرر من السلاسل والأغلال القروسطية وتشكيل حضارة عقلانية وتكنولوجية هائلة. وهي حضارة أصبحت لاحقاً كونية بحجم العالم.


مقالات ذات صلة

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

ثقافة وفنون «أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

في كتابها «رحِم العالم... أمومة عابرة للحدود» تزيح الكاتبة والناقدة المصرية الدكتورة شيرين أبو النجا المُسلمات المُرتبطة بخطاب الأمومة والمتن الثقافي الراسخ

منى أبو النصر (القاهرة)
تكنولوجيا شركات الذكاء الاصطناعي تتفق مع دور النشر بما يتيح لهذه الشركات استخدام الأعمال المنشورة لتدريب نماذجها القائمة على الذكاء الاصطناعي التوليدي (رويترز)

شركات الذكاء الاصطناعي التوليدي تلجأ إلى الكتب لتطوّر برامجها

مع ازدياد احتياجات الذكاء الاصطناعي التوليدي، بدأت أوساط قطاع النشر هي الأخرى في التفاوض مع المنصات التي توفر هذه التقنية سعياً إلى حماية حقوق المؤلفين.

«الشرق الأوسط» (باريس)
يوميات الشرق كاميلا ملكة بريطانيا تحصل على الدكتوراه الفخرية في الأدب بحضور الأميرة آن (رويترز)

قدمتها لها الأميرة آن... الملكة كاميلا تحصل على دكتوراه فخرية في الأدب

حصلت الملكة البريطانية كاميلا، زوجة الملك تشارلز، على الدكتوراه الفخرية؛ تقديراً لـ«مهمتها الشخصية» في تعزيز محو الأمية.

«الشرق الأوسط» (لندن)
كتب سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو  أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"

الشبحُ في الآلة

شغل موضوع أصل الأشياء The Origin مكانة مركزية في التفكير البشري منذ أن عرف البشر قيمة التفلسف والتفكّر في الكينونة الوجودية.

لطفية الدليمي
كتب سيمون سكاما

قصة اليهود... من وادي النيل حتى النفي من إسبانيا

يروي الكاتب البريطاني اليهودي «سيمون سكاما»، في كتابه «قصة اليهود»، تفاصيل حياة اليهود ابتداءً من استقرارهم في منطقة الألفنتين

سولافة الماغوط (لندن)

أسامة مسلم وسارة ريفنس وبيت الطاعة الأدبي!

توافد  العشرات في معرض الجزائر للحصول على  نسخة موقعة من رواية" خوف" لأسامة مسلم
توافد العشرات في معرض الجزائر للحصول على نسخة موقعة من رواية" خوف" لأسامة مسلم
TT

أسامة مسلم وسارة ريفنس وبيت الطاعة الأدبي!

توافد  العشرات في معرض الجزائر للحصول على  نسخة موقعة من رواية" خوف" لأسامة مسلم
توافد العشرات في معرض الجزائر للحصول على نسخة موقعة من رواية" خوف" لأسامة مسلم

أراقب باهتمام كبير عالمنا المتغير هذا. لعلك أنت أيضاً تفعل ذلك. تتمعن فيه وهو يعيد تشكيل ذاته مثل وحش أسطوري، في زمن إيلون ماسك ومارك زوكربيرغ وما لهما وما عليهما... في زمن الروبوتات المؤنسنة والعقول الذكية الاصطناعية وما لها وما عليها، تحدُث من حين لآخر هزات عنيفة تحلج بعض العقول الهانئة، ذات القناعات القانعة، فتستيقظ بغتة على أسئلة طارئة. مدوِّخة بلْ مكهرِبة.

- ما هذا الذي يحدث؟

تماماً كما حدث في المعرض الدولي للكتاب في الجزائر، حدث ذلك منذ طبعتين في الصالون الدولي للكتاب في باريس، إذ حضر كتاب كبار ذوو شهرة عالمية، كل واحد منهم يركب أعلى ما في خيله، وحطّت رحالَها دورُ نشرٍ لا يشقّ لها غبار. لكن المنظمين والمشاركين والملاحظين والمراقبين والذين يعجبهم العجب، والذين لا يعجبهم العجب، على حين غرة وفي غفلة من أمرهم، فوجئوا بآلاف القادمين من الزوار شباباً وبالغين، كلهم يتجهون صوب طاولة، تجلس خلفها كاتبة في العشرينات، لا تعرفها السجلات العتيقة للجوائز، ولا مصاطب نقاش المؤلفين في الجامعات، أو في القنوات الشهيرة المرئية منها والمسموعة. الكاتبة تلك شابة جزائرية تفضّل أن تظلَّ حياتها الخاصة في الظِّل، اسمها سارة ريفنس، وتُعد مبيعات نسخ رواياتها بعشرات الملايين، أما عدد قرائها فبعدد كتّاب العالم أجمعين.

وكالعادة، وكما حدث منذ سنوات مع الروائية الجزائرية الشابة سارة ريفنس، أثار القدوم الضاج للكاتب السعودي أسامة مسلم ذهول جل المهتمين بالشأن الثقافي والأدبي، حين حضر إلى المعرض الدولي للكتاب في الجزائر 2024. وقبله معرض الكتاب بالمغرب ومعارض كتب عربية أخرى، وفاجأ المنظمين والزوار والكتاب فيضانُ نهر هادر من الجموع الغفيرة الشابة من «قرائه وقارئاته». اكتظ بهم المكان. جاءوا من العاصمة ومن مدن أخرى أبعد. أتوا خصيصاً للقائه هو... هو وحده من بين الكتاب الآخرين الكثر المدعوين للمعرض، الذين يجلسون خلف طاولاتهم أمام مؤلفاتهم، في انتظار أصدقاء ومعارف وربما قراء، للتوقيع لهم بقلم سائل براق حبرُه، بسعادة وتأنٍّ وتؤدة. بخط جميل مستقيم، وجمل مجنّحة منتقاة من تلافيف الذاكرة، ومما تحفظه من شذرات ذهبية لجبران خليل جبران، أو المنفلوطي أو بودلير، أو كلمة مستقاة من بيت جميل من المعلقات السبع، ظلّ عالقاً تحت اللسان منذ قرون.

لا لا... إنهم جاءوا من أجله هو... لم تأتِ تلك الجموع الغفيرة من أجل أحد منهم، بل ربما لم ترَ أحداً منهم، وأكاد أجزم أنها لم تتعرف على أحد منهم... تلك الجموع الشابة التي ملأت على حين غرة أجنحة المعرض، ومسالكَه، وسلالمَه، وبواباتِه، ومدارجَه، واكتظت بهم مساحاته الخارجية، وامتدت حتى مداخله البعيدة الشاسعة. يتدافعون ويهتفون باسم كاتبهم ومعشوقهم، هتافات مضفورة بصرخات الفرح:

- أووو... أووو... أووو أسامة...!!

يحلمون بالظفر برؤيته أخيراً عن قرب، وبلقائه هذه المرة بلحمه وعظمه، وليس شبحاً وصورة وصوتاً وإشارات خلف الشاشات الباردة لأجهزتهم الإلكترونية. يأملون بتوقيعه على الصفحة الأولى من إحدى رواياته، ولتكن روايته «خوف» مثلاً.

هكذا إذن... الأدبُ بدوْره، أضحى يرفض بيت الطاعة، بل يهدمه ويِؤسس قلعته الخاصة، التي تتماهى مع هندسة ذائقة العصر الجديدة، القابلة للنقاش. إنها الإشارة مرة أخرى ومنذ ظهور الكائن البشري من نحو ثلاثة مليارات سنة، على أن الزمن يعدو بالبشر بسرعة مدوخة، بينما هم يشاهدون - بأسف غالباً - حتف الأشياء التي تعوّدوا عليها، وهي تتلاشى نحو الخلف.

من البديهي أن الكتابة على الصخور لم تعد تستهوي أحداً منذ أمد بعيد، سوى علماء الأركيولوجيا الذين لهم الصبر والأناة، وقدرة السِّحر على إنطاقها، وقد أثبتوا ذلك بمنحنا نص جلجامش، أول نص بشري كتب على الأرض، وأما نظام الكتابة فقد تجاوز معطى الشفهية إلى الطباعة، ثم إلى الرقمية، وتكنولوجيا المعلومات، والذكاء الاصطناعي و...!

على ذِكر الذكاء، فليس من الذكاء ولا الفطنة التغاضي عن الواقع المستجد، أو التعنت أمام فكرة أن العالم في تغير مدوّ وسريع، وقد مسّ سحره كل جوانبه ومنها سوق الأدب، ولا بد من الاعتراف أن المنتِج للأدب كما المستهلك له، لم يعودا خاضعين في العرض والطلب لشروط أسواقه القديمة، وإن لم تنقرض جميعها، في ظل التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي وتوفر الـ«بلاتفورم» و«يوتيوب» و«إنستغرام» و«تيك توك» و«فيسبوك» وهاشتاغ وما جاورها.

لكن الأمر الذي لا بد من توضيحه والتأكيد عليه، أن دمغة الأدب الجيد وسمة خلود الإبداع، لا تكْمنا دوماً وبالضرورة في انتشاره السريع، مثل النار في الهشيم، وقت صدوره مباشرة، وإلا لما امتد شغف القراء عبر العالم، بالبحث عن روايات وملاحم وقصص عبرت الأزمنة، بينما لم تحظَ في وقتها باهتمام كبير، والأمثلة على ذلك عديدة ومثيرة للتساؤل. أسامة مسلم، وسارة ريفنس وآخرون، كتّاب بوهج ونفَس جديدين، على علاقة دائمة ووطيدة وحميمية ومباشرة مع قرائهم عبر وسائط التواصل الاجتماعي، فلا يحتاجون إلى وسيط. مؤلفون وأدباء شباب كثر عبر العالم، من فرنسا وأميركا وإنجلترا وكندا وغيرها مثل Mélissa Da Costa - Guillaume Musso - Laura Swan - Morgane Moncomble - Collen Hoover - Ana Huang وآخرين وأخريات ينتمون إلى عالم رقمي، تسيطر فيه عناصر جديدة تشكل صلصال الكتابة وجسر الشهرة... لم يمروا كما مر الذين من قبلهم على معابر الأدب، وتراتبية مدارسه المختلفة التي وسمت مراحل أدبية متوهجة سابقة لهم، ولم يهتموا كثيراً بالنّسَب الجيني لأجدادهم من الروائيين من القارات الخمس بمختلف لغاتهم، ولم يتخذوا منهم ملهمين، ولا مِن مقامهم هوى. كتابٌ شباب، أضحت مبيعات رواياتهم تتصدر أرقام السوق، فتسجل عشرات الملايين من النسخ، وتجتاح الترجمات عشرات اللغات العالمية، ودون سعي منهم ترصد ذلك متابعات صحافية وإعلامية جادة، وتدبج عنهم مقالات على صفحات أكبر الجرائد والمجلات العالمية، وتوجه لهم دعوات إلى معارض الكتب الدولية. كتاب لم يلجئوا في بداية طريقهم ومغامرتهم الإبداعية إلى دور النشر، كما فعلت الأجيال السابقة من الأدباء، بل إن دور النشر الكبيرة الشهيرة لجأت بنفسها إليهم، طالبة منهم نشر أعمالهم في طباعة ورقية، بعد أن تحقق نجاحهم من خلال منصات النشر العالمية وانجذب إليهم ملايين القراء. فرص سانحة في سياق طبيعي يتماهى مع أدوات العصر مثل: Wattpad - After Dark - nouvelle app - Creative Commons وغيرها.

ولأن التفاؤل الفكري يرى فرصة في كل عقبة، وليس في كل فرصة عقبة كما جاء على لسان وينستون تشرشل، ولأن الوعي بالحداثة يأتي متأخراً زمنياً، فإن ما يحدثه الكتّاب الروائيون الشباب Bests eller البستسيللر في العالم، من هزات مؤْذنة بالتغيير، ومن توهج استثنائي في عالم الكتابة، ومن حضور مُربك في معارض الكتاب، تجعلنا نطرح السؤال الوجودي التالي: هل ستتغير شروط الكتابة وتتبدل مقاييسها التقليدية، وهل ستنتفي معارض الكتاب أم تتغير. وكيف ستكون عليه إذن في الأزمنة المقبلة؟