بحثاً عن مزيد من التفاعل و«الخصوصية» فيما يتعلق بتعليقات القراء على صفحات الصحف في منصات التواصل الاجتماعي، ووسط مساعٍ للتوصل إلى قواعد محددة لـ«ضبط المحتوى» وفق معايير أخلاقية، تشكل منصات التواصل الاجتماعي أداة أساسية ومحركاً فعالاً في علاقة القراء بالصحف.
ربما في البدايات كان الأمر مثيراً أن يتمكن القارئ من ترك تعليق على الخبر بوتيرة آنية، إلا أنه مع تطور هذه العلاقة الثلاثية (الصحف، والقارئ، ومنصات التواصل الاجتماعي) غدت النتائج ضاغطة، وهو ما دفع بعض التجارب الصحافية لإعادة سبل التعامل مع تعليقات القراء على محتواها عبر صفحاتها على منصات التواصل».
وبينما يرى متخصصون أنه «لا يحق للصحف منع أو حذف تعليق على صفحاتها بهذه المنصات لمجرد أنه سلبي أو لا يثني على المحتوى الصحافي». أشار آخرون
إلى أن «القراء ليس لهم مطلق الحرية في التعليق على المحتوى الإخباري، وثمة معايير أخلاقية ومهنية يحق للصحيفة ضبطها على الصفحة الخاصة بها على منصات التواصل الاجتماعي».
في خطوة أثارت الكثير من التساؤلات حول المعايير التي تحكم تعليقات القراء، أعلنت هيئة الإذاعة الكندية «سي بي سي» مطلع نوفمبر (تشرين الثاني) الجاري أنها «ستقوم باتخاذ خطوة نحو تقليص حرية القراء في التعليق على المحتوى الإخباري من خلال إلغاء خدمة التعليقات».
الخطوة الجديدة هذه جاءت في أعقاب تجربة أطلقتها الشبكة في يونيو (حزيران) الماضي لإيقاف التعليقات على صفحاتها على منصة «فيسبوك». ويعلق رئيس تحرير «سي بي سي» برودي فينلون، على الخطوة الأخيرة للشبكة بقوله إنها «جاءت بعد رؤية قدر هائل من الكراهية، وإساءة المعاملة، والتهديدات في التعليقات الموجودة ضمن القصص الإخبارية التي نقدمها».
وتابع فينلون في مقال نشر على الموقع الرسمي للشبكة الإخبارية مطلع الشهر الجاري إلى أنها «كانت التجربة إيجابية... والآن ننشر قصصاً متنوعة أكثر من أي وقت مضى، ولم نعد نعبأ بالضوابط والضغوط التي فرضتها منصات التواصل الاجتماعي، فقد نال صحافيونا مزيداً من الرفاهية والراحة، وباتت بيئة العمل أكثر إنتاجية مقارنة بأوقات مضت».
حسب مراقبين فإن «تقييد تعليقات القراء أثار المخاوف حول الحريات والتفاعل من قبل القراء»؛ إلا أن الشبكة الكندية أشارت، من جانبها، إلى أنها «وجدت زيادة في التعليقات على موقعها على الإنترنت وفقاً لمسح داخلي أجرته لتقييم التجربة». ويؤكد فينلون أن «المستخدمين لهم ملء الحرية في التعليق عبر صفحاتهم الشخصية وعلى حسابات وسائل التواصل الاجتماعي الأخرى».
أمير جمعة، منتج محتوى وسائل التواصل الاجتماعي في صحيفة «اقتصاد الشرق»
التابعة لوكالة «بلومبرغ» يرى أن «الأصل في الخدمة الصحافية، هو تقديم المعلومات وتبسيطها للقراء على الشاكلة التي تروق لهم، ومن ثم يحق للقارئ التعليق، وربما التقييم، شريطة عدم وقوع ضرر على أشخاص بعينهم».
ويشير جمعة في لقاء مع «الشرق الأوسط» إلى أنه «انطلاقاً من طبيعة عملي على مواقع التواصل الاجتماعي، لا يحق للصحف منع التعليق، أو حذف تعليق لمجرد أنه سلبي أو لا يثني على المحتوى الصحافي». ثم يضيف أن «هذا لا يعني أن للقراء مطلق الحرية في التعليق على المحتوى الإخباري، فهناك ثمة معايير أخلاقية ومهنية يحق للصحيفة ضبطها على الصفحة الخاصة بها عبر منصات التواصل الاجتماعي، وهنا يتعامل المتخصص أو المسؤول عن تقديم محتوى التواصل الاجتماعي بتحديد كلمات قد تحض على الكراهية أو ألفاظ غير ملائمة تستوجب الحجب بشكل تلقائي دون تدخل من فريق السوشيال ميديا».
من جهة ثانية، أشار جمعة إلى بُعد آخر في علاقة القراء بالصحيفة، هو التواصل والتصحيح في بعض الحالات، بقوله «كصناع محتوى، من شأن وظيفتنا خلق علاقة شخصية بين القارئ والصحيفة، ومد جسور الثقة. وبالتالي، فنحن نتابع التعليقات بجدية... وربما يصحح قارئ معلومة أو يشير إلى بُعد لم ينتبه له الصحافي، لأنه إنسان معرض للخطأ... ولكن أحد المعايير المهنية، ألا تتبنى الصحيفة رأياً دون آخر، أو توجهاً سياسياً أو عرقياً، فالحيادية سمة الصحافة المهنية والموثوقة. ولذا لا يحق لمسؤول التواصل حذف تعليق لا يتفق مع رأي شخصي أو توجه بعينه».
جمعة وضع الضرر الأخلاقي كأحد أهم أسباب «حجب أو منع التعليق على الأخبار»، موضحاً «باتت منصات التواصل مساحة لعرض الأفكار غير الأخلاقية
بحجة أن الجميع يختبئ خلف لوحة شاشة ولوحة مفاتيح». ثم يلفت إلى أن «هناك
مسؤولية مجتمعية وأخلاقية تقع على عاتق الصحف، فإذا قابلت تعليقات تروج لأعمال غير مشروعة أو تحض على الكراهية، فلا خلاف على حق الصحيفة في حذف التعليقات».
في السياق نفسه، وعن السياسة التي تتبعها الصحف مع تعليقات القراء على منصات التواصل. يرى محمد فتحي، الصحافي المصري المتخصص في الإعلام الرقمي، أن «بعض الصحف لا تتعامل بآلية واضحة مع تعليقات القراء». ورجح فتحي في حوار مع «الشرق الأوسط» عدم وجود «متابعة حقيقية أو آلية رصد وتحليل للتعليقات أو الرد عليها في بعض الصحف، ربما لأنها تمثل عبئاً وظيفياً على المؤسسة، وعبئاً على فريق عمل التواصل الاجتماعي الذي عليه أن يتحلى بالخبرة والدقة، لا سيما فيما يخص القضايا الشائكة على شاكلة الحروب أو الخلافات الدينية والعرقية».
ويرى فتحي أن «تتبع قواعد التعليقات على منصات التواصل الاجتماعي، نفس قواعد النشر الخاصة بالمؤسسة الصحافية، فضلاً عن أن جميع منصات التواصل لها سياساتها ومعاييرها، التي لا تسمح بالدعوة إلى العنف أو التعصب أو الكراهية. كذلك تتيح بعض المنصات خاصية الإبلاغ عن التعليقات، لتتوافر بذلك رقابة إلكترونية (خوارزمية) من الشركات نفسها إزاء كلمات بعينها، وكذلك فتح الباب أمام الشكاوى والنظر فيها».
عودة إلى شبكة «سي بي سي» التي أشارت إلى «الضغوط التي يمارسها القراء على الصحافي، وتأثير التعليقات الداعية إلى الكراهية على سير العمل وإنتاج المؤسسة».
يقول جمعة «لا أتفق مع فكرة أن القراء يؤثرون سلبياً على عمل الصحافي، أو أنهم سبب مباشر في إفساد بيئة العمل الصحافي، بينما ثمة علاقة شخصية ودافعة تربط بين القارئ وصحيفته المفضلة، فكيف أن نقطع أوصالها لمجرد فرضيات يمكن التدخل وتحجيم آثارها؟».
أما حول حجب التعليقات، يشرح فتحي فيقول إن «حجب التعليقات يفرض قيوداً على بعض المستخدمين، الذين بدورهم يمثلون نسبة من عدد المشاهدات تترجم إلى عائدات إعلانية من المشاهدات سواء في الأخبار أو الفيديو». ويضيف «صحيح ليست كل التعليقات إيجابية؛ لكن هناك نحو 10 في المائة من التعليقات تكون لها صلة بالمحتوى، وقد تصوب أخطاء أو تفتح زاوية جديدة للنقاش، وهو ما دفع البعض لعمل جلسات بث مباشر تفاعلية لاستقبال الأسئلة. كذلك اتجهت بعض الصحف لنشر سؤال تفاعلي لتحقيق مزيد من الخصوصية والتفاعل، ما يشير إلى أنها خاصية يصعب خسارتها».
تعليقات القراء... بين المعايير الأخلاقية و«ضبط المحتوى»
تعليقات القراء... بين المعايير الأخلاقية و«ضبط المحتوى»
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة