المخرج هادي زكّاك يرفع الستار عن «العرض الأخير» لسينما طرابلس

كتاب وفيلم يطاردان مائة سنة من حياة عاصمة لبنان الثانية

سينما «كولورادو» في طرابلس شمال لبنان
سينما «كولورادو» في طرابلس شمال لبنان
TT

المخرج هادي زكّاك يرفع الستار عن «العرض الأخير» لسينما طرابلس

سينما «كولورادو» في طرابلس شمال لبنان
سينما «كولورادو» في طرابلس شمال لبنان

سريعاً أجهزت المعاول بعد انتهاء الحرب الأهلية، على صالات السينما في بيروت. كان المخرج والباحث اللبناني هادي زكّاك يسابق العدم، وهو يبحث عما تبقى من صالات ليؤرشف ويصور ويوقف الزمن، فيسبقه الخراب. عام 2014 طلبت منه صحافية ألمانية - فرنسية مرافقتها في جولة على سينمات طرابلس، ليكتشف هناك، كماً هائلاً من الصالات المقفلة، التي تمتد من ساحة التل وسط المدينة إلى باب التبانة وساحة النجمة وصولاً إلى الميناء. بعدها بثلاث سنوات، كان مشروعاً قد تبلور، وهو إعادة تركيب مسار المدينة الحديث من خلال قراءة حياة هذه الصالات، في صعودها، وهبوطها قبل توقفها الكلي. خلال فترة التجوال والبحث التي قام بها زكّاك، كانت بعض الصالات، تختفي من الوجود. عرف بأن عليه أن يسرع، لأن الهدم أسرع. بين أن يجمع المعلومات في كتاب أو يشهر كاميرته وهو المعروف بأفلامه الوثائقية، ويصور هذا التراث المهدد في أي لحظة بالزوال، قرر أن يضرب عصفورين بالحجر نفسه. فأصدر كتاب «العرض الأخير، سيرة سيلما طرابلس» - هكذا يلفظ الطرابلسيون «سينما»، أما الفيلم فهو في طور التحضير.
بصفحاته التي تفوق 600 وأكثر من 700 صورة، يبدو الكتاب موسوعة توثيقية لحياة مدينة عربية نموذجية طوال قرن في ظل السينما. أرشفة دقيقة، عميقة، لمرحلة تاريخية مفصلية، وما رافقها من تحولات سياسية واجتماعية طالت طرابلس، من خلال رصد العلاقة الوطيدة بين الناس وما فعله بهم الفن السابع. عمل زكّاك في كل الاتجاهات، بحث في الكتب، قرأ مذكرات لطرابلسيين، نبش في أرشيف صحف محلية، أجرى مقابلات مع شبان وطاعنين في السن، كشهود عيان، زار صالات العرض المهجورة، تقصى تاريخها وملكياتها وما استجرته من مشكلات.
حين نسأل المخرج هادي زكّاك عن سبب عنونة كتابه بـ«العرض الأخير»، يقول إن «كل شي يوشك أن يموت، لذلك نبدو كأننا في العرض الأخير على كل المستويات». والأشياء بين المدن متشابهة إلى حد بعيد، «طرابلس نموذج عن كثير من المدن العربية، القصص نفسها يمكن أن نسمعها، موجة الأفلام نفسها مرّت على الصالات، التقاليد متشابهة، وكذلك الدمار والحروب كما في سوريا والعراق وغيرها. من هنا تأتي أهمية العمل على تفاصيل مرت بها مدينة لبنانية مثل طرابلس».
ثمة صالات اختفت وهدمت مثل «ريفولي» التي تمكن زكّاك من تصويرها قبل الإجهاز عليها، وأخرى تحولت إلى محال تجارية، ومخازن، ومستودعات، أو تركت نهباً للغبار وخيوط العنكبوت.
هادي زكّاك، المخرج والأستاذ الجامعي، الذي ولد قبل سنة من اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية، جاء غريباً على مدينة لا يعرفها، ليكتب عن مرحلة لم يشهدها، أصغى كثيراً، عقد صداقات، سار أياماً في الشوارع لاكتشاف الأماكن. تجاوب الناس كان جزءاً أساسياً من نجاح العمل. «الموضوع متشعب» يقول زكّاك لـ«الشرق الأوسط»: «كان لا بد من منهجية صارمة وعسكرية، كي لا تتشتت الأفكار. عملت على تقسيم المناطق جغرافياً، واشتغلت على منطقة تلو أخرى. هكذا كان يمكنني أن أحدد عدد الصالات، وعدد الأشخاص الذين أستجوبهم، وبدت الصورة أوضح».
لكن لم تكن الأمور سهلة ولا الشهادات موثوقة. «أزعجتني المبالغة في تجميل الماضي عند الشهود المتحدثين. الذاكرة الشفهية لا تؤتمن. ذهبت إلى أرشيف جريدة الإنشاء المحلية لأتمكن من ربط الوقائع، وتصحيح ما أفلت مني، واكتشفت تفاصيل لا تخطر على بال».
تمكن الكتاب من رصد 40 صالة في المدينة، وتتبع مسارها. وهي ليست صنفاً واحداً، ولم تعِش حيوات متشابهة، كما أن أقدارها تغيرت صعوداً وهبوطاً.
بعض الصالات ألصقت بها نوعية معينة من الأفلام، فباتت سيئة السمعة وأخرى 5 نجوم. «ما لا يعرفه الناس أن شركات الإنتاج هي التي كانت توزع أنواعاً مختلفة من الأفلام وتخص بها الصالات. بعض الصالات تصعد فتصبح نجمة ثم تأفل، وتبرز غيرها. لم تلفتني الصالات الكبرى المعروفة بقدر ما وجدت نفسي مهتماً، بتلك التي كانت في الأحياء الشعبية مثل (الشرق) و(الكواكب) وصالات منطقة الميناء، حيث كان انتشارها كثيفاً». سار زكاك كثيراً على قدميه ليكتشف ويتحسس نبص الحياة. نام في طرابلس، ليصحو في اليوم الثاني إلى جانب دار سينما تبعد عنه خطوات. «فهمت من هذه التجربة، فكرة أن يقطن الشخص بقرب سينما ويرتادها كأنه يدخل بيت الجيران، أو أن تسأل عن سينما (دنيا) التي كانت شهيرة ذات يوم، فلا يعرف أحد إن كانت قد وجدت أصلاً، أم لا. المفاجأة كانت في حجم بعض الصالات وكبرها، وهندستها كما جماليتها».
أواخر القرن التاسع عشر، بدأت حركة مسرحية في طرابلس. في الثلاثينات من القرن العشرين أخذت دور السينما تزحف صوب المدينة. في منتصف القرن، بلغ الازدهار ذروته. في الكتاب نقرأ أنه بحسب بيان صادر عن الأمن العام اللبناني في 8 مارس (آذار) 1963، فإن عدد دور السينما في طرابلس بلغ 31 داراً. حتى القرى والبلدات، عرفت الصالات والعروض ونوادي السينما التي انتشرت في طرابلس أيضاً، وناقشت الأفلام بعد عرضها، وهي تجمع المثقفين والمهتمين. جاءت الحرب الأهلية عام 1975، لتوجه ضربة كبيرة لهذا النشاط الاجتماعي المؤثر، لكن مع هدوء المعارك بعد حرب السنتين، حاول الناس استعادة حياتهم الطبيعية حتى عشية الاجتياح الإسرائيلي عام 1982، لكن مع دخول الجيش السوري سنة 1985 وما تلاه من معارك في طرابلس، وجهت ضربة قاسمة للسينما ولعلاقة الأهالي بها. «لا غرابة في هذه الفترة أن ينتشر نوعان من أنواع العروض، نوادي السينما التثقيفية، ونقاشاتها الجادة والعميقة إلى جانب استمرار عمل صالات تعرض أفلاماً إباحية، فيما غابت العروض اليومية المعتادة، بعد أن أغلقت الصالات أبوابها، واكتفى جمهورها الواقع تحت وطأة الحرب بأفلام الفيديو كاسيت التي غزت الدكاكين، وجاءت بديلاً مناسباً، في فترة صعبة». من عجائب الأمور أن يتحول مدخل سينما «ريفولي» بعد إغلاقها إلى متجر لبيع أفلام الفيديو. وهو ما يصفه زكّاك بأنه «نوع من الاستسلام للأمر الواقع، ومحاولة الاستمرار حتى لو اضطر من يدير السينما المهزومة للتعامل مع العدو». مع انتهاء الحرب، بدا أن الصالات القديمة لا قيامة لها، وجاءت بديلاً عنها تجمعات الصالات الحديثة، التي تسببت بقطيعة مع الجيل السابق، إذ إنه لم يرتدِ هذه الصالات وتركها للأولاد وربما الأحفاد. أما مع كورونا والانهيار الاقتصادي، فلربما كبوة جديدة، قد أصابت الصالات الجديدة التي تجد صعوبة في استعادة نشاطها.
يشعر زكّاك بأنه كان في سباق مع الوقت، ليفوز بآخر الشهود على تلك المرحلة الذهبية للسينما. «هؤلاء الذين ولدوا في عشرينات وثلاثينات القرن الماضي، يرحلون واحدهم بعد الآخر». تماماً كما تختفي الصالات التي ذهب يصورها ويتعقب سيرتها. «أغرب ما في الأمر، أنني كنت أزور أناساً في بيوتهم يعيشون قرب صالات قديمة، لأستمع لذكرياتهم معها، فيسألونني هم إن كانت هذه الصالات لا تزال تعمل. كأنه عالم انقطعوا عنه بالكامل، وإن كانوا جغرافياً على التصاق به».
جال زكاك الصالات واحدة واحدة، استمع إلى حكاياتها ممن عرفوها. المهمة أصعب مما يتصور البعض. «الدخول إلى هذه المباني التي هجرت وأغلقها أصحابها، دونها عقبات، منها من لا تجد من يفتحها لك، بعضها معروض للبيع أو الإيجار، بعض آخر معلّق بمشاكل عقارية أو ضريبة، ومنها ما هي مرتبطة بجهة سياسية، أحياناً كنا بحاجة لإزالة حائط كي نعبر إلى الصالة. الدخول إلى هذه الأماكن يفتح الباب على مشكلات تشبه ما تعاني منه المدينة نفسها، لنكتشف كم أن الأمور معقدة ومتعفنة. نحن نتحدث عن دور لم يدخل إليها أحد، منذ عشرين أو ثلاثين سنة، تعاني من تسربات صرف صحي، أو تكاثر الجرذان، لهذا حين يفتح الباب يأتي السكان ليكتشفوا ويستعيدوا الذاكرة».
يتحدث الكتاب عن السينما كامتداد لليومي، كجزء من الحركة الحياتية. كأنما صالات العرض هي امتداد لما هو خارجها. التقاليد المحافظة في طرابلس لم تمنع النساء من ارتيادها أفواجاً مع أولادهن ومن دون صحبة الرجال. وحين يعزم الخطيب خطيبته، لا بد أن يصطحب معها عائلتها. أما العيد فمناسبة إضافية للاحتفاء بالأفلام. يقول زكاك: «ظهر معارضون، يريدون تحطيم البوسترات، لكن السينما هي التي فازت في النهاية. حتى حينما اعترض الطلاب على ارتفاع التسعيرة، تمكنوا من انتزاع حقهم في بطاقات دخول مخفضة، بعد تظاهرات واحتجاجات».
الكتاب شهادة على ما كان لمدينة طرابلس من أهمية في تلك الفترات الذهبية، يروي الكاتب: «إن نجوماً كباراً كان يأتون لمواكبة أفلامهم ولقاء الجمهور. عبد الحليم حافظ أحد هؤلاء، فقد أتى أكثر من مرة، إحداها كان إلى سينما (بلس) بمناسبة عرض فيلم (أبي فوق الشجرة). أما المغنون فكانت طرابلس على خريطة جولاتهم، يقيمون حفلاتهم فيها قبل الذهاب إلى حلب ودمشق، ومن بينهم أم كلثوم التي غنت في مسرح (الإنجا)، وهو بدوره زال من الوجود، من فترة ليست ببعيدة».
الكتاب التوثيقي الأنيق، صار بين أيدينا إذن، فيما العمل جارٍ على الفيلم الذي قد يحمل عنوان الكتاب نفسه. فالمخرج المفتون بالذاكرة والأرشفة وأنجز 20 فيلماً وثائقياً أبرزها «يا عمري» و«مرسيدس»، مشغول هذه الأيام، بالتركيب السردي، واستكمال نواقص فيلمه الجديد.
يقول زكّاك: «أزور مدناً عربية، وأكتشف سينماتها، وأرى أنها تتشارك الكثير فيما بينها. في الجزائر وفي عمان رأيت هذا وفي مدن عديدة أخرى. الهندسة الداخلية، والإهمال الطويل، والهجر، ورائحة الرطوبة التي نشتمها في سينماتنا القديمة، هي ذاتها».
أما لماذا طرابلس، وكيف وجد فيها زكّاك بدلاً عن ضائع؟ فلأنها «نجت من التدمير السريع بسبب الإهمال واللامبالاة، وهو ما أبطأ الهدم والتخريب. كل التركيز كان على إعمار بيروت، ذاك ما جنى عليها، وحرمها صالاتها، وأشياء أخرى».



محفوظ يكشف عن مزاجه وعلاقته بالموسيقى... والخريف

محفوظ يكشف عن مزاجه وعلاقته بالموسيقى... والخريف
TT

محفوظ يكشف عن مزاجه وعلاقته بالموسيقى... والخريف

محفوظ يكشف عن مزاجه وعلاقته بالموسيقى... والخريف

لأول مرة، يجمع عمل واحد كل ما قاله نجيب محفوظ حول أسرار فن الكتابة لديه وطقوس الإبداع، من واقع تجربته العملية الخاصة، وهو ما يوضح أهمية كتاب «نجيب محفوظ– عن الكتابة» الصادر عن دار «الكرمة» بالقاهرة، للباحث عمرو فتحي.

في هذا الكتاب، يتحدث أديب «نوبل» عن علاقته بمؤثرات خارجية وداخلية تؤثر على الكتابة لديه، مثل الحالة المزاجية، والموسيقى، وفصل الخريف، وكذلك الإلهام، وهل يخضع له أم لا؟ ومتى يعرف أن الموضوع الذي خطر بباله يستحق الكتابة؟ وما الفارق بين كتابة الرواية والقصة القصيرة؟ وهل يشغل نفسه أثناء الكتابة بتساؤلات وجودية؟ مثل: «هل يُكتب لهذا النص الخلود؟».

يتضمن الكتاب إجابات شافية عن كثير من علامات الاستفهام في هذا السياق التي تكشف عن خفايا وكواليس الإنتاج الإبداعي لعميد الرواية العربية، والأب المؤسس لهذا الفن السردي في ثقافتنا.

يقول محفوظ إنه كتب أغلب أعماله وهو في «دوامة انفعال نفسي وفكري»، فهو لا يحب أن يكتب شيئاً وهو في ظروفه الفكرية الهادئة، فالأحداث والأنباء تثير الأفكار، وبوصفه كاتباً يضع نصب عينيه ألا يتخلف عن الحياة، ويسعى لأن يعايش حياة الناس حوله، ليستشف من وجوههم فهمه لواقعهم، لأسلوب حياتهم، لأفراحهم وأحزانهم وكل قيم وجودهم حتى يصورها ويعبر عنها.

ويشير إلى أنه أحياناً يكون قد مر على الفكرة عام أو عامان دون أن يمسك بالقلم، حتى إذا وصل إلى مرحلة التنفيذ فإن المسألة تتحول إلى عمل يجب أن يُنجز، ولن ينجز إلا بالإرادة والصبر، فهو لا يعرف «دلال الإلهام»، وإنما يعرف أن عليه أن يجلس إلى مكتبه كل يوم ساعة أو ساعتين، حتى يفرغ من الرواية في عام أو عامين.

إنه يكتب الموضوع كتابة أولى غير متمهلة وشبه عفوية، ولكنه لا يبدأ الكتابة إلا بعد اختمار الفكرة في نفسه وكذلك الشخوص، ثم يشرع في كتابتها بتأنٍّ من أولها إلى آخرها. وفي الكتابة الثانية يتغير النص تغيراً كبيراً، ولكن الفكرة لا يصيبها التغيير إلا في أضيق الحدود.

ويوضح أنه عبر تجربته الممتدة، مرت عليه فترة لم يكن يبدأ في كتابة الرواية إلا بعد أن يعايش أحداثها مدة طويلة، إلى أن تتبلور الفكرة تبلوراً نهائياً في ذهنه، بعد أن يكون قد تحدث إلى أشخاص كثيرين، بوصفه نوعاً من البحث وجمع المعلومات واستقراء الأحداث، وعندها يبدأ في الكتابة من منظور واقعي بحت.

وفي فترة أخرى، كان يكتب نصوصاً مدفوعاً بحالة ذهنية، فيشرع في تأليف العمل وليس في ذهنه سوى زاوية صغيرة أو فكرة معينة غامضة، ويترك للقلم أن يتدفق ويسيل عبر توارد الأفكار لاحقاً.

وفي أحيان ثالثة، كان يكتب انطلاقاً من «اللاشيء» بمعنى أنه لا توجد في ذهنه أي فكرة على الإطلاق، سوى الرغبة في الكتابة.

ويرى محفوظ أن عملية الكتابة في حد ذاتها هي فعل متفائل؛ لأنها تؤكد أن الكاتب يعتقد أن العالم رغم كل ما به من مآسٍ يمكن أن يكون أفضل مما هو عليه، وهذا يقودنا إلى أن الكتابة مسؤولية، فلا بد من أن ينطوي النص على ابتكار جديد، وإلا فهو لا يستحق أن يكون عملاً فنياً. والقارئ لا يريد أن يطالع ما سبق أن كتبه الآخرون.

الخلود والسجائر

وعما إذا كان يشغل نفسه بمسألة الخلود الأدبي، يتساءل محفوظ: ولكن ماذا يعني الخلود أصلاً؟ مائة سنة؟ عدة مئات من السنين؟ وماذا تكون تلك الفترة البسيطة إذا قورنت بتاريخ الوجود الإنساني؟ الحقيقة أن أي كاتب يتمنى أن يبقى إنتاجه؛ لكنه لم يشغل نفسه قط بموضوع الخلود أو يفكر فيه أو يتصوره، بالعكس هو دائماً خائف من الموت، ولذلك كتب عنه كثيراً؛ لأن الكتابة عن الشيء تحرر الإنسان من مخاوفه، على حد تعبيره.

ونتيجة انقسام حياته بين الوظيفة والأدب، اقتضى الأمر من محفوظ إخضاعها لنظام دقيق، حتى يتسنى له دائماً وبصفة مستمرة مواصلة الكتابة. ولظروف خاصة وحتمية، اقتصر موسم عمله الأدبي على الفترة ما بين أكتوبر (تشرين الأول) وأبريل (نيسان) من كل عام. ولم يعد ذلك خسارة مطلقاً؛ إذ أخذ من أشهر مايو (أيار) ويونيو (حزيران) ويوليو (تموز) وأغسطس (آب) وسبتمبر (أيلول) راحة نسبية، واختلاطاً بالناس والأماكن، فنضجت خبرته بالمكان الضيق الوحيد الذي عاشره على ظهر الأرض، وهو القاهرة.

ومر محفوظ إبداعياً بثلاث مراحل، هي: مرحلة «الوظيفة»، ومرحلة «ما بعد التقاعد»، ومرحلة «ما بعد جائزة نوبل». في مرحلة الوظيفة كان يفرغ من عمله في الثانية ظهراً، ويعود إلى البيت لتناول الغداء، ثم يستريح بعض الوقت عبر نوم القيلولة، ثم يجلس على مكتبه عندما تدق الساعة الرابعة، ويبدأ في الكتابة أولاً لمدة 3 ساعات، ثم تليها 3 ساعات أخرى للقراءات المتنوعة. وفي هذه المرحلة كان يمنح نفسه إجازة من الأدب، يومي الخميس والجمعة.

يقول محفوظ: «لم يكن جلوسي اليومي للكتابة بالأمر السهل؛ لأنه يقتضي أولاً أن يكون موضوع الكتابة قد اختمر في ذهني، وكان هذا الأمر يجعلني في حالة تفكير مستمر أثناء وجودي في الوظيفة، وفي أوقات العمل، وفي أثناء المشي، وحتى وقت تناول الطعام. وفي كل مرة تأتيني تفصيلة من جسم الرواية، وما الراوية إلا مجموعة تفاصيل صغيرة تتجمع وتكون العمل الروائي في صورته النهائية. في بعض الأحيان كنت أسجل بعض الملاحظات والأفكار العابرة التي تأتيني أثناء وجودي خارج المنزل في ورقة صغيرة حتى لا أنساها، وكنت أهتم بتسجيل هذه الملاحظات خلال فترة اهتمامي بالكتابة الواقعية. أجلس على المقهى مثلاً، فتجذب اهتمامي ملاحظات وتفاصيل صغيرة كانت تفيدني أثناء الكتابة».

ويوضح أنه إلى جانب السجائر، يحب أن تكون هناك خلفية موسيقية أثناء الكتابة، يجعلها في هامش الشعور ولا يلتفت إليها، ثم إنه لا يتناول أي مشروبات بما فيها الشاي والقهوة، ويدهشه ما يسمعه عن بعض الكتاب الذين يحرصون على تناول الخمر أو الحشيش حتى يهيئوا أنفسهم للكتابة، فعندما يمسك بالقلم لا بد من أن يكون في أقصى درجات الوعي والتركيز والانتباه، ثم إنه لا يستطيع الكتابة إلا على مكتبه في البيت، أما خارجه فلا يمكنه الإمساك بالقلم. وكل أعماله الروائية كتبها في البيت باستثناء السيناريوهات، فأغلبها قام بكتابته على المقهى، وذلك لأنها لا تحتاج إلى درجة التركيز نفسها التي تحتاجها الروايات.

وعندما خرج إلى المعاش وتقاعد، لم يختلف نظام الكتابة كثيراً. يذهب إلى المقهى مبكراً، ثم يعود ليبدأ الكتابة ولمدة 3 ساعات؛ حيث خصص فترة الصباح للكتابة. أما القراءة فكانت في فترة ما بعد الظهيرة حتى بدايات الليل. وقبل حصوله على جائزة نوبل أصيب بضمور في شبكية العين، ما جعل موضوع القراءة والكتابة من الأمور العسيرة والمرهقة، وسبَّب هذا الأمر له إزعاجاً شديداً وهدم النظام الذي سار عليه طيلة حياته؛ بل لم يعد هناك نظام أصلاً؛ حيث امتنع عن القراءة نهائياً، وأصبح أقصى مدة يجلس فيها إلى مكتبه لممارسة الكتابة ساعة واحدة في اليوم.

ويشير نجيب محفوظ إلى أنه أحب فصلَي الخريف والشتاء، وكان يجد نفسه مقبلاً على الدنيا أكثر في ذلك الوقت من السنة، بينما يتحمل الصيف بصبر، وكأنه يغالب حالة -وإن كانت خفيفة- من الاكتئاب، ويظل ينتظر حلول الشتاء التالي، ويجد نفسه مقبلاً على الكتابة وهو في حالة من الاشتياق.