... وترجّل صباح فخري عن صهوة جواده

لفظ أنفاسه الأخيرة في دمشق بين أفراد عائلته

صباح فخري في مهرجان «أنغام من الشرق» بأبوظبي (أ.ف.ب)
صباح فخري في مهرجان «أنغام من الشرق» بأبوظبي (أ.ف.ب)
TT

... وترجّل صباح فخري عن صهوة جواده

صباح فخري في مهرجان «أنغام من الشرق» بأبوظبي (أ.ف.ب)
صباح فخري في مهرجان «أنغام من الشرق» بأبوظبي (أ.ف.ب)

منذ شهر مارس (آذار) الفائت، قررت عائلة صباح فخري بمن فيهم زوجته فاطمة وابنه أنس الانتقال من بيروت إلى الشام. فالأوضاع المضطربة التي يمر بها لبنان دفعتها للقيام بذلك.
صباح أول من أمس أسلم صباح فخري الروح في غرفة العناية الفائقة، في أحد مستشفيات الشام حيث كان يرقد منذ أيام قليلة.
شكل رحيل الفنان السوري الملقب بـ«مطرب القدود الحلبية»، مفاجأة حزينة لمحبيه في سوريا ولبنان والعالم العربي كافة. فنعاه فنانون من لبنان والعالم العربي عبر وسائل التواصل الاجتماعي.
وفي حديث لـ«الشرق الأوسط» أخبرتنا زوجته ورفيقة دربه فاطمة، بأنّ الفنان الكبير «بدأت صحته تتدهور بشكل كبير منذ فترة، وكنا نمضي الوقت غالباً، متنقلين بين المستشفى والمنزل. وبعد ظهر الاثنين وإثر نقله إلى غرفة العناية المركزة، تفاقمت أعراض النزلة الصدرية التي أصابته، فتوقف قلبه وأسلم الروح في صباح اليوم التالي».
وكانت عائلة الفنان قد استقرت في بيروت منذ عام 2014، ولغاية شهر مارس (آذار) الفائت: «ومع انقطاع التيار الكهربائي وتدهور الأحوال المعيشية في لبنان أخذنا هذا القرار وانتقلنا إلى سوريا. كانت أوضاعه الصحية تتراجع مع الوقت، منذ أنّ كنا في بيروت. ولكن شاء القدر أن يرحل في بلده سوريا الذي يعشق وهو بين أهله ومحبيه». وتتابع في سياق حديثها لـ«الشرق الأوسط»: «بقي واعياً ومدركاً لكل ما يحصل حوله حتى لحظاته الأخيرة. وفي الخامسة من بعد ظهر الاثنين 1 نوفمبر (تشرين الثاني) تحدثنا معه وكان متعباً، لكن لا يزال بكامل وعيه. بيد أنّ الموت كان له بالمرصاد فرحل عن هذه الدنيا في التاسعة من صباح الثلاثاء 2 نوفمبر».
زخر مشوار الفنان الراحل صباح فخري بإنجازات هامة في عالم الغناء، فتبوأ مناصب فنية مختلفة من بينها نقيب الفنانين في سوريا لأكثر من مرّة، قدّم خلالها خدمات جليلة للنقابة وأعضائها. كما شغل منصب نائب رئيس اتحاد الفنانين العرب، وكان له دور بارز فيه. انتخبَ عضواً في مجلس الشعب السوري في دورته التشريعية السابعة لعام 1998 استكمالاً لدوره الريادي الفني والقومي.
تميز مشواره الفني بعلامات فارقة كثيرة، فضرب الرقم القياسي ودخل موسوعة غينيس العالمية، من خلال غنائه على المسرح مدّة تتجاوز عشر ساعات متواصلة من دون استراحة في مدينة كاراكاس الفنزويلية عام 1968. وتقديراً لفنه الراقي وأصالته أُنشئت له في مصر عام 1997، جمعية فنية تضم محبيه. وهي أول جمعية رسمية من نوعها تقام لفنان غير مصري.
أُجريت على صوته الدراسات والأبحاث العلمية، وفي تونس قُدمت أول رسالة ماجيستير في العلوم الموسيقية الوحيدة عنه في العالم.
اسمه الحقيقي هو صبحي أبو قوس، ونال لقب «فخري» نسبة لـ«فخري البارودي» الذي رعى مسيرته الفنية وتبنى موهبته منذ أن سمعه يؤذن في جامع الروضة بحلب.
لحّن صباح فخري وغنى العديد من القصائد العربية. فغنى لأبي الطيب المتنبي وأبي فراس الحمَداني ومسكين الدارمي. كما غنى لابن الفارض والروّاس ابن زيدون وابن زهر الأندلسي ولسان الدين الخطيب. ومن بين الشعراء المعاصرين الذين غنى لهم، فؤاد اليازجي، وأنطوان شعراوي، والدكتور جلال الدهان، والدكتور عبد العزيز محيي الدين الخوجة، وعبد الباسط الصوفي، وعبد الكريم الحيدري، وغيرهم.
أحيا مهرجانات كثيرة في سوريا والأردن والعراق وتونس والمغرب ومصر وفرنسا والكويت وغيرها. وفي لبنان غنى في «مهرجانات بيت الدين» وفي منطقة عنجر وفي بيسين عاليه. أمّا آخر حفلاته فكانت في عام 2013، ضمن «أعياد بيروت». اشتهر بأدائه للقدود الحلبية ومن بينها «قل للمليحة»، و«يا بهجة الروح»، و«فوق النا خِل»، و«مالك يا حلوة» وغيرها.
كان الفنان الراحل وفي حديث سابق لـ«الشرق الأوسط» قد أبدى إعجابه بالمغني الشاب محمد عساف. ووصف زوجته فاطمة (أم أنس) بأنّها رفيقة دربه وبأنّه يحب كتابة الأشعار والقصائد لها. وعن المصاعب التي واجهها في حياته عامة قال يومها: «أنا من أصحاب القول إنّه لا شيء مستحيل في الحياة، وكل ما علينا القيام به هو الاجتهاد للوصول إلى مبتغانا. ولذلك تجاوزت كل المصاعب في حياتي من دون تذمّر وكنت دائماً أتمسك بالأمل».
وتقول زوجته لـ«الشرق الأوسط»: «لطالما ربطتنا علاقة وطيدة مبنية على الحب، فنحن منذ 50 عاماً على هذا المنوال ولم يتغير شيء. كان يحب أن أطعمه بيدي وأنا أستمتع بذلك منذ بداية زواجنا. ولطالما كان يعتبر المرأة عنصراً مهماً في الحياة. شعاره المحبة وكان يردد دائما أن هناك كثراً بحاجة إليها في أيامنا هذه». وتوجهت بكلمة وداع إلى زوجها الراحل عبر «الشرق الأوسط» وهي تبكي قائلة: «في السنوات العشر الأخيرة تعب كثيراً، ولكني كنت لا أفقد الأمل، وأشعر بالحياة تنبض في من جديد في كل مرة يتجاوز محنة صحية. يا حبيبي صباح... الفراق صعب وليكن مثواك الجنة».
يوارى جثمان صباح فخري الثرى اليوم، في مدينة حلب، بعد صلاة الظهر. ومن المتوقع أن يقام له مجلس عزاء في بيروت بعد الانتهاء من مراسم الدفن في سوريا.



رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
TT

رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»

إنه «فضلو» في «بياع الخواتم»، و«أبو الأناشيد الوطنية» في مشواره الفني، وأحد عباقرة لبنان الموسيقيين، الذي رحل أول من أمس (الأربعاء) عن عمر ناهز 84 عاماً.
فبعد تعرضه لأزمة صحية نقل على إثرها إلى المستشفى، ودّع الموسيقي إيلي شويري الحياة. وفي حديث لـ«الشرق الأوسط» أكدت ابنته كارول أنها تفاجأت بانتشار الخبر عبر وسائل التواصل الاجتماعي قبل أن تعلم به عائلته. وتتابع: «كنت في المستشفى معه عندما وافاه الأجل. وتوجهت إلى منزلي في ساعة متأخرة لأبدأ بالتدابير اللازمة ومراسم وداعه. وكان الخبر قد ذاع قبل أن أصدر بياناً رسمياً أعلن فيه وفاته».
آخر تكريم رسمي حظي به شويري كان في عام 2017، حين قلده رئيس الجمهورية يومها ميشال عون وسام الأرز الوطني. وكانت له كلمة بالمناسبة أكد فيها أن حياته وعطاءاته ومواهبه الفنية بأجمعها هي كرمى لهذا الوطن.
ولد إيلي شويري عام 1939 في بيروت، وبالتحديد في أحد أحياء منطقة الأشرفية. والده نقولا كان يحضنه وهو يدندن أغنية لمحمد عبد الوهاب. ووالدته تلبسه ثياب المدرسة على صوت الفونوغراف الذي تنساب منه أغاني أم كلثوم مع بزوغ الفجر. أما أقرباؤه وأبناء الجيران والحي الذي يعيش فيه، فكانوا من متذوقي الفن الأصيل، ولذلك اكتمل المشوار، حتى قبل أن تطأ خطواته أول طريق الفن.
- عاشق لبنان
غرق إيلي شويري منذ نعومة أظافره في حبه لوطنه وترجم عشقه لأرضه بأناشيد وطنية نثرها على جبين لبنان، ونبتت في نفوس مواطنيه الذين رددوها في كل زمان ومكان، فصارت لسان حالهم في أيام الحرب والسلم. «بكتب اسمك يا بلادي»، و«صف العسكر» و«تعلا وتتعمر يا دار» و«يا أهل الأرض»... جميعها أغنيات شكلت علامة فارقة في مسيرة شويري الفنية، فميزته عن سواه من أبناء جيله، وذاع صيته في لبنان والعالم العربي وصار مرجعاً معتمداً في قاموس الأغاني الوطنية. اختاره ملك المغرب وأمير قطر ورئيس جمهورية تونس وغيرهم من مختلف أقطار العالم العربي ليضع لهم أجمل معاني الوطن في قالب ملحن لا مثيل له. فإيلي شويري الذي عُرف بـ«أبي الأناشيد الوطنية» كان الفن بالنسبة إليه منذ صغره هَوَساً يعيشه وإحساساً يتلمسه في شكل غير مباشر.
عمل شويري مع الرحابنة لفترة من الزمن حصد منها صداقة وطيدة مع الراحل منصور الرحباني. فكان يسميه «أستاذي» ويستشيره في أي عمل يرغب في القيام به كي يدله على الصح من الخطأ.
حبه للوطن استحوذ على مجمل كتاباته الشعرية حتى لو تناول فيها العشق، «حتى لو رغبت في الكتابة عن أعز الناس عندي، أنطلق من وطني لبنان»، هكذا كان يقول. وإلى هذا الحد كان إيلي شويري عاشقاً للبنان، وهو الذي اعتبر حسه الوطني «قدري وجبلة التراب التي امتزج بها دمي منذ ولادتي».
تعاون مع إيلي شويري أهم نجوم الفن في لبنان، بدءاً بفيروز وسميرة توفيق والراحلين وديع الصافي وصباح، وصولاً إلى ماجدة الرومي. فكان يعدّها من الفنانين اللبنانيين القلائل الملتزمين بالفن الحقيقي. فكتب ولحن لها 9 أغنيات، من بينها «مين إلنا غيرك» و«قوم تحدى» و«كل يغني على ليلاه» و«سقط القناع» و«أنت وأنا» وغيرها. كما غنى له كل من نجوى كرم وراغب علامة وداليدا رحمة.
مشواره مع الأخوين الرحباني بدأ في عام 1962 في مهرجانات بعلبك. وكانت أول أدواره معهم صامتة بحيث يجلس على الدرج ولا ينطق إلا بكلمة واحدة. بعدها انتسب إلى كورس «إذاعة الشرق الأدنى» و«الإذاعة اللبنانية» وتعرّف إلى إلياس الرحباني الذي كان يعمل في الإذاعة، فعرّفه على أخوَيه عاصي ومنصور.

مع أفراد عائلته عند تقلده وسام الأرز الوطني عام 2017

ويروي عن هذه المرحلة: «الدخول على عاصي ومنصور الرحباني يختلف عن كلّ الاختبارات التي يمكن أن تعيشها في حياتك. أذكر أن منصور جلس خلف البيانو وسألني ماذا تحفظ. فغنيت موالاً بيزنطياً. قال لي عاصي حينها؛ من اليوم ممنوع عليك الخروج من هنا. وهكذا كان».
أسندا إليه دور «فضلو» في مسرحية «بياع الخواتم» عام 1964. وفي الشريط السينمائي الذي وقّعه يوسف شاهين في العام التالي. وكرّت السبحة، فعمل في كلّ المسرحيات التي وقعها الرحابنة، من «دواليب الهوا» إلى «أيام فخر الدين»، و«هالة والملك»، و«الشخص»، وصولاً إلى «ميس الريم».
أغنية «بكتب اسمك يا بلادي» التي ألفها ولحنها تعد أنشودة الأناشيد الوطنية. ويقول شويري إنه كتب هذه الأغنية عندما كان في رحلة سفر مع الراحل نصري شمس الدين. «كانت الساعة تقارب الخامسة والنصف بعد الظهر فلفتني منظر الشمس التي بقيت ساطعة في عز وقت الغروب. وعرفت أن الشمس لا تغيب في السماء ولكننا نعتقد ذلك نحن الذين نراها على الأرض. فولدت كلمات الأغنية (بكتب اسمك يا بلادي عالشمس الما بتغيب)».
- مع جوزيف عازار
غنى «بكتب اسمك يا بلادي» المطرب المخضرم جوزيف عازار. ويخبر «الشرق الأوسط» عنها: «ولدت هذه الأغنية في عام 1974 وعند انتهائنا من تسجيلها توجهت وإيلي إلى وزارة الدفاع، وسلمناها كأمانة لمكتب التوجيه والتعاون»، وتابع: «وفوراً اتصلوا بنا من قناة 11 في تلفزيون لبنان، وتولى هذا الاتصال الراحل رياض شرارة، وسلمناه شريط الأغنية فحضروا لها كليباً مصوراً عن الجيش ومعداته، وعرضت في مناسبة عيد الاستقلال من العام نفسه».
يؤكد عازار أنه لا يستطيع اختصار سيرة حياة إيلي شويري ومشواره الفني معه بكلمات قليلة. ويتابع لـ«الشرق الأوسط»: «لقد خسر لبنان برحيله مبدعاً من بلادي كان رفيق درب وعمر بالنسبة لي. أتذكره بشوشاً وطريفاً ومحباً للناس وشفافاً، صادقاً إلى أبعد حدود. آخر مرة التقيته كان في حفل تكريم عبد الحليم كركلا في الجامعة العربية، بعدها انقطعنا عن الاتصال، إذ تدهورت صحته، وأجرى عملية قلب مفتوح. كما فقد نعمة البصر في إحدى عينيه من جراء ضربة تلقاها بالغلط من أحد أحفاده. فضعف نظره وتراجعت صحته، وما عاد يمارس عمله بالشكل الديناميكي المعروف به».
ويتذكر عازار الشهرة الواسعة التي حققتها أغنية «بكتب اسمك يا بلادي»: «كنت أقفل معها أي حفل أنظّمه في لبنان وخارجه. ذاع صيت هذه الأغنية، في بقاع الأرض، وترجمها البرازيليون إلى البرتغالية تحت عنوان (أومينا تيرا)، وأحتفظ بنصّها هذا عندي في المنزل».
- مع غسان صليبا
مع الفنان غسان صليبا أبدع شويري مرة جديدة على الساحة الفنية العربية. وكانت «يا أهل الأرض» واحدة من الأغاني الوطنية التي لا تزال تردد حتى الساعة. ويروي صليبا لـ«الشرق الأوسط»: «كان يعد هذه الأغنية لتصبح شارة لمسلسل فأصررت عليه أن آخذها. وهكذا صار، وحققت نجاحاً منقطع النظير. تعاونت معه في أكثر من عمل. من بينها (كل شيء تغير) و(من يوم ما حبيتك)». ويختم صليبا: «العمالقة كإيلي شويري يغادرونا فقط بالجسد. ولكن بصمتهم الفنية تبقى أبداً ودائماً. لقد كانت تجتمع عنده مواهب مختلفة كملحن وكاتب ومغنٍ وممثل. نادراً ما نشاهدها تحضر عند شخص واحد. مع رحيله خسر لبنان واحداً من عمالقة الفن ومبدعيه. إننا نخسرهم على التوالي، ولكننا واثقون من وجودهم بيننا بأعمالهم الفذة».
لكل أغنية كتبها ولحنها إيلي شويري قصة، إذ كان يستمد موضوعاتها من مواقف ومشاهد حقيقية يعيشها كما كان يردد. لاقت أعماله الانتقادية التي برزت في مسرحية «قاووش الأفراح» و«سهرة شرعية» وغيرهما نجاحاً كبيراً. وفي المقابل، كان يعدها من الأعمال التي ينفذها بقلق. «كنت أخاف أن تخدش الذوق العام بشكل أو بآخر. فكنت ألجأ إلى أستاذي ومعلمي منصور الرحباني كي يرشدني إلى الصح والخطأ فيها».
أما حلم شويري فكان تمنيه أن تحمل له السنوات الباقية من عمره الفرح. فهو كما كان يقول أمضى القسم الأول منها مليئة بالأحزان والدموع. «وبالقليل الذي تبقى لي من سنوات عمري أتمنى أن تحمل لي الابتسامة».