«فوضى» لبسام كيرلس... هروب إلى الفن لمعانقة الحرية

يستوحي منحوتاته من حكايات محيطة به

TT

«فوضى» لبسام كيرلس... هروب إلى الفن لمعانقة الحرية

وأنت تجول في معرض «فوضى» في غاليري «كاف» في الأشرفية، تشعر وكأن الفنان التشكيلي بسام كيرلس يقف على قمة عالية، ومنها يستشف حكايات منحوتاته.
الفوضى التي يتحدث عنها النحات اللبناني تطال الحجر، كما الإنسان، تبكي على مكان وتحاكي الزمان، تنتصب وتتحفز لتستقر في حضن الحرية. «الفوضى هي الوسيلة الأفضل لإخراج مشاعر مدفونة فينا. معها نتحرر من واقع منظم فيصبح الشفاء من أوجاعنا أسهل، وهو ما يدوزن أوتار حياتنا»، هكذا يصف كيرلس الفوضى التي تعنون معرضه الذي افتتحه مؤخراً ويستمر لغاية الأول من نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل.
في نحو 32 منحوتة يترجم كيرلس هواجس تسكنه بأسلوب حديث. لم يلجأ إلى الحجر مادة النحت المعروفة، بل ابتكر أخرى مغايرة تختلف بتقنيتها، وترتكز على مادتي الفلين والباتين والكريستال، فحلق بأفكاره وطوع حرفته كي يسابق معها الزمن. «التقدم العلمي يقابله انعكاس على الفلسفة والفن، فالأولى تزوده بالقيم، والثاني يطرح الهواجس الموجودة وراء هذه الاكتشافات العلمية»، هكذا يصف النحات بسام كيرلس رؤيته الفنية التي تنبثق من علم الفيزياء، الأحب إلى قلبه.
«التقنية التي ابتكرتها، غير مألوفة في فن النحت. أساساً بدأت حياتي بنحت الحجر ومن ثم البرونز، فالصلصال أو الطين الذي لطالما شكل المادة الأساسية للنحات التقليدي عبر الأزمنة. ولكنني اكتشفت أن تلك التقنيات لا تخدم هدفي الأساسي. فاستعنت بمادة الـستايروفون، والمعروفة بالفلين، فهي قابلة للقولبة، تتحمل إحداث فراغات فيها غير متوفرة بالحجر. هذه الفتحات هي متنفس بالمعنى السيكولوجي، تحدث اتصالاً بين العالمين الداخلي والخارجي في عالم الفن. اخترقت الجدران ومع البرونز والألومينيوم وريزين الكريستال عبرت عن أفكاري. أحياناً أستعين بالإسمنت والحديد لأخدم الفكرة. هي حكايات من نوع آخر أتلوها على طريقتي، وهذه الشبابيك التي تلاحظينها في الأبنية المنحوتة تذكرني بمشاهد الحياة وراء الجدران».
الفوضى عارمة في المعرض، بعضها استوحاه الفنان من الحرب السورية المدمرة التي طبعت ذاكرته. «تأثرت بهذه الحرب. صحيح أني ابن بيروت وعشت حروبها الصغيرة والكبيرة. كنت فتياً يومها لا أستوعب تماماً ما يحصل حولي. ولكن في الحرب السورية اكتشفت مدى النتائج التي يمكن للحروب أن تتسبب بها».
الأبنية الحاضرة بكثافة في منحوتات بسام كيرلس تشبهنا بمطارح كثيرة. يؤنسنها ويفتح فيها نوافذ وطاقات كي تتنفس ويتسرب منها النور. كما يرسمها في لوحة وحيدة تتصدر معرضه بتقنية «ميكسد ميديا». «لقد أنسنتها لدرجة نرى فيها وجه الإنسان مطبوعاً على واجهاتها، أو واقفاً على أسطحها. لقد زودتها بالطابع الإيكونوغرافي، لنرى فيها ملامح وجه يعيش حالة ثبات. إنه الشاهد على كل ما يجري ولكن بصمت».
تلعب الثنائية دوراً أساسياً في أعمال بسام كيرلس. ويشرح في سياق حديثه لـ«الشرق الأوسط»: «هذه الثنائية تحفز عندي الأفكار ومكونات منحوتاتي. أحمل علاقة وطيدة ما بين المادة والروح، تتشابك فتنصهر وتولد الجمال. والجمال عندي موجود في الحقيقة، وليس اصطناعياً نستخدمه للتبرج. أرفض أن أقدم الفرح الكاذب. ينتقدون أعمالي لأنها حزينة، وأرد عليهم بأنها الحقيقية ولو كانت قاسية».
الحروب والتغيرات المناخية ومواجهة الطبيعة تقف وراء أفكار كيرلس الطليعية. «لا ميدوزا» و«الوجه البيضة» و«الإهراءات» و«بيت العنكبوت» و«قبضة الثورة» هي أسماء منحوتاته. ونلحظ وجوداً كثيفاً لمنحوتات تمثل أبنية شاهقة وأخرى مدمرة أو مخربة. «إن فكرة الحرب موجودة في كل زمان ومكان. ولا شك أن لبنان حفزني على استيحاء الحرب في منحوتاتي، ولو كنت في بلد آخر لربما ما خطرت على بالي الفكرة. تأثرت بالفنان هانسن كيفر، خلال دراساتي العليا، فهو يجمع في أعماله بين النحت والمكان. ودراساتي العليا مع الحرب السورية وأحداث لبنان تؤلف ركيزة أعمالي».
تركت التغيرات المناخية بأثرها على الفنان التشكيلي اللبناني، فخطفت ذاكرته حالات غرق أبنية في مدن وقرى بسبب ذوبان جبال الجليد، انعكس طيفها على بؤبؤ عينه، لمعت، فتناولها أيضاً في صور أبنية تنتصب رغم تعب يسودها.
تشعر وأنت تراقب أعمال كيرلس وكأنه يصورها من فوق، ضمن مشهدية شاملة تطال الأخضر واليابس وتفاصيل دقيقة. «نعم أحب أن أنظر إلى الأشياء من الأعالي فيبدو المشهد مكتملاً. لا أحب تقديم الفن الشخصي، بل ذلك الذي يطال الإنسان ككل».
تسكن الفوضى كيرلس نفسه «هي بحر كبير في داخلي» يقول مبتسماً، ويتابع: «التفاعل مع الفوضى يولد الهدوء، فتستقيم الأمور بعدها. رسالتي في هذا المعرض أن نعيش الفن ونخرج المكبوت من داخلنا. نرقص ونرسم وننحت ونكتب القصيدة ونجن. نفسح المجال للفن لأن يعالجنا ويخرج كل هذه التراكمات من داخلنا فنشعر بالراحة والسكينة. منطقتنا محكوم عليها بالتشنجات، لأنها تقع على تقاطع مصالح دولية، لذلك أدعو الناس من خلال معرضي للهروب إلى الفن، كي يتخلصوا من الفوضى التي تسكنهم».



رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
TT

رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»

إنه «فضلو» في «بياع الخواتم»، و«أبو الأناشيد الوطنية» في مشواره الفني، وأحد عباقرة لبنان الموسيقيين، الذي رحل أول من أمس (الأربعاء) عن عمر ناهز 84 عاماً.
فبعد تعرضه لأزمة صحية نقل على إثرها إلى المستشفى، ودّع الموسيقي إيلي شويري الحياة. وفي حديث لـ«الشرق الأوسط» أكدت ابنته كارول أنها تفاجأت بانتشار الخبر عبر وسائل التواصل الاجتماعي قبل أن تعلم به عائلته. وتتابع: «كنت في المستشفى معه عندما وافاه الأجل. وتوجهت إلى منزلي في ساعة متأخرة لأبدأ بالتدابير اللازمة ومراسم وداعه. وكان الخبر قد ذاع قبل أن أصدر بياناً رسمياً أعلن فيه وفاته».
آخر تكريم رسمي حظي به شويري كان في عام 2017، حين قلده رئيس الجمهورية يومها ميشال عون وسام الأرز الوطني. وكانت له كلمة بالمناسبة أكد فيها أن حياته وعطاءاته ومواهبه الفنية بأجمعها هي كرمى لهذا الوطن.
ولد إيلي شويري عام 1939 في بيروت، وبالتحديد في أحد أحياء منطقة الأشرفية. والده نقولا كان يحضنه وهو يدندن أغنية لمحمد عبد الوهاب. ووالدته تلبسه ثياب المدرسة على صوت الفونوغراف الذي تنساب منه أغاني أم كلثوم مع بزوغ الفجر. أما أقرباؤه وأبناء الجيران والحي الذي يعيش فيه، فكانوا من متذوقي الفن الأصيل، ولذلك اكتمل المشوار، حتى قبل أن تطأ خطواته أول طريق الفن.
- عاشق لبنان
غرق إيلي شويري منذ نعومة أظافره في حبه لوطنه وترجم عشقه لأرضه بأناشيد وطنية نثرها على جبين لبنان، ونبتت في نفوس مواطنيه الذين رددوها في كل زمان ومكان، فصارت لسان حالهم في أيام الحرب والسلم. «بكتب اسمك يا بلادي»، و«صف العسكر» و«تعلا وتتعمر يا دار» و«يا أهل الأرض»... جميعها أغنيات شكلت علامة فارقة في مسيرة شويري الفنية، فميزته عن سواه من أبناء جيله، وذاع صيته في لبنان والعالم العربي وصار مرجعاً معتمداً في قاموس الأغاني الوطنية. اختاره ملك المغرب وأمير قطر ورئيس جمهورية تونس وغيرهم من مختلف أقطار العالم العربي ليضع لهم أجمل معاني الوطن في قالب ملحن لا مثيل له. فإيلي شويري الذي عُرف بـ«أبي الأناشيد الوطنية» كان الفن بالنسبة إليه منذ صغره هَوَساً يعيشه وإحساساً يتلمسه في شكل غير مباشر.
عمل شويري مع الرحابنة لفترة من الزمن حصد منها صداقة وطيدة مع الراحل منصور الرحباني. فكان يسميه «أستاذي» ويستشيره في أي عمل يرغب في القيام به كي يدله على الصح من الخطأ.
حبه للوطن استحوذ على مجمل كتاباته الشعرية حتى لو تناول فيها العشق، «حتى لو رغبت في الكتابة عن أعز الناس عندي، أنطلق من وطني لبنان»، هكذا كان يقول. وإلى هذا الحد كان إيلي شويري عاشقاً للبنان، وهو الذي اعتبر حسه الوطني «قدري وجبلة التراب التي امتزج بها دمي منذ ولادتي».
تعاون مع إيلي شويري أهم نجوم الفن في لبنان، بدءاً بفيروز وسميرة توفيق والراحلين وديع الصافي وصباح، وصولاً إلى ماجدة الرومي. فكان يعدّها من الفنانين اللبنانيين القلائل الملتزمين بالفن الحقيقي. فكتب ولحن لها 9 أغنيات، من بينها «مين إلنا غيرك» و«قوم تحدى» و«كل يغني على ليلاه» و«سقط القناع» و«أنت وأنا» وغيرها. كما غنى له كل من نجوى كرم وراغب علامة وداليدا رحمة.
مشواره مع الأخوين الرحباني بدأ في عام 1962 في مهرجانات بعلبك. وكانت أول أدواره معهم صامتة بحيث يجلس على الدرج ولا ينطق إلا بكلمة واحدة. بعدها انتسب إلى كورس «إذاعة الشرق الأدنى» و«الإذاعة اللبنانية» وتعرّف إلى إلياس الرحباني الذي كان يعمل في الإذاعة، فعرّفه على أخوَيه عاصي ومنصور.

مع أفراد عائلته عند تقلده وسام الأرز الوطني عام 2017

ويروي عن هذه المرحلة: «الدخول على عاصي ومنصور الرحباني يختلف عن كلّ الاختبارات التي يمكن أن تعيشها في حياتك. أذكر أن منصور جلس خلف البيانو وسألني ماذا تحفظ. فغنيت موالاً بيزنطياً. قال لي عاصي حينها؛ من اليوم ممنوع عليك الخروج من هنا. وهكذا كان».
أسندا إليه دور «فضلو» في مسرحية «بياع الخواتم» عام 1964. وفي الشريط السينمائي الذي وقّعه يوسف شاهين في العام التالي. وكرّت السبحة، فعمل في كلّ المسرحيات التي وقعها الرحابنة، من «دواليب الهوا» إلى «أيام فخر الدين»، و«هالة والملك»، و«الشخص»، وصولاً إلى «ميس الريم».
أغنية «بكتب اسمك يا بلادي» التي ألفها ولحنها تعد أنشودة الأناشيد الوطنية. ويقول شويري إنه كتب هذه الأغنية عندما كان في رحلة سفر مع الراحل نصري شمس الدين. «كانت الساعة تقارب الخامسة والنصف بعد الظهر فلفتني منظر الشمس التي بقيت ساطعة في عز وقت الغروب. وعرفت أن الشمس لا تغيب في السماء ولكننا نعتقد ذلك نحن الذين نراها على الأرض. فولدت كلمات الأغنية (بكتب اسمك يا بلادي عالشمس الما بتغيب)».
- مع جوزيف عازار
غنى «بكتب اسمك يا بلادي» المطرب المخضرم جوزيف عازار. ويخبر «الشرق الأوسط» عنها: «ولدت هذه الأغنية في عام 1974 وعند انتهائنا من تسجيلها توجهت وإيلي إلى وزارة الدفاع، وسلمناها كأمانة لمكتب التوجيه والتعاون»، وتابع: «وفوراً اتصلوا بنا من قناة 11 في تلفزيون لبنان، وتولى هذا الاتصال الراحل رياض شرارة، وسلمناه شريط الأغنية فحضروا لها كليباً مصوراً عن الجيش ومعداته، وعرضت في مناسبة عيد الاستقلال من العام نفسه».
يؤكد عازار أنه لا يستطيع اختصار سيرة حياة إيلي شويري ومشواره الفني معه بكلمات قليلة. ويتابع لـ«الشرق الأوسط»: «لقد خسر لبنان برحيله مبدعاً من بلادي كان رفيق درب وعمر بالنسبة لي. أتذكره بشوشاً وطريفاً ومحباً للناس وشفافاً، صادقاً إلى أبعد حدود. آخر مرة التقيته كان في حفل تكريم عبد الحليم كركلا في الجامعة العربية، بعدها انقطعنا عن الاتصال، إذ تدهورت صحته، وأجرى عملية قلب مفتوح. كما فقد نعمة البصر في إحدى عينيه من جراء ضربة تلقاها بالغلط من أحد أحفاده. فضعف نظره وتراجعت صحته، وما عاد يمارس عمله بالشكل الديناميكي المعروف به».
ويتذكر عازار الشهرة الواسعة التي حققتها أغنية «بكتب اسمك يا بلادي»: «كنت أقفل معها أي حفل أنظّمه في لبنان وخارجه. ذاع صيت هذه الأغنية، في بقاع الأرض، وترجمها البرازيليون إلى البرتغالية تحت عنوان (أومينا تيرا)، وأحتفظ بنصّها هذا عندي في المنزل».
- مع غسان صليبا
مع الفنان غسان صليبا أبدع شويري مرة جديدة على الساحة الفنية العربية. وكانت «يا أهل الأرض» واحدة من الأغاني الوطنية التي لا تزال تردد حتى الساعة. ويروي صليبا لـ«الشرق الأوسط»: «كان يعد هذه الأغنية لتصبح شارة لمسلسل فأصررت عليه أن آخذها. وهكذا صار، وحققت نجاحاً منقطع النظير. تعاونت معه في أكثر من عمل. من بينها (كل شيء تغير) و(من يوم ما حبيتك)». ويختم صليبا: «العمالقة كإيلي شويري يغادرونا فقط بالجسد. ولكن بصمتهم الفنية تبقى أبداً ودائماً. لقد كانت تجتمع عنده مواهب مختلفة كملحن وكاتب ومغنٍ وممثل. نادراً ما نشاهدها تحضر عند شخص واحد. مع رحيله خسر لبنان واحداً من عمالقة الفن ومبدعيه. إننا نخسرهم على التوالي، ولكننا واثقون من وجودهم بيننا بأعمالهم الفذة».
لكل أغنية كتبها ولحنها إيلي شويري قصة، إذ كان يستمد موضوعاتها من مواقف ومشاهد حقيقية يعيشها كما كان يردد. لاقت أعماله الانتقادية التي برزت في مسرحية «قاووش الأفراح» و«سهرة شرعية» وغيرهما نجاحاً كبيراً. وفي المقابل، كان يعدها من الأعمال التي ينفذها بقلق. «كنت أخاف أن تخدش الذوق العام بشكل أو بآخر. فكنت ألجأ إلى أستاذي ومعلمي منصور الرحباني كي يرشدني إلى الصح والخطأ فيها».
أما حلم شويري فكان تمنيه أن تحمل له السنوات الباقية من عمره الفرح. فهو كما كان يقول أمضى القسم الأول منها مليئة بالأحزان والدموع. «وبالقليل الذي تبقى لي من سنوات عمري أتمنى أن تحمل لي الابتسامة».