سلوى خطاب: الفنان يحتاج للتكريم مهما بلغت مكانته

قالت لـ«الشرق الأوسط» إنها ستتوقف عن التمثيل إذا فقدت الشغف

الفنانة المصرية سلوى خطّاب (الشرق الأوسط)
الفنانة المصرية سلوى خطّاب (الشرق الأوسط)
TT

سلوى خطاب: الفنان يحتاج للتكريم مهما بلغت مكانته

الفنانة المصرية سلوى خطّاب (الشرق الأوسط)
الفنانة المصرية سلوى خطّاب (الشرق الأوسط)

قالت الفنانة المصرية سلوى خطاب إن تكريمها بمهرجان الإسكندرية السينمائي أخيراً يُعد دفعة قوية لها لمواصلة المشوار، مشيرة إلى أنها لن تتوقف عن التمثيل إلا إذا استنفدت طاقتها وفقدت شغفها، وأكدت في حوارها مع «الشرق الأوسط» أنها تشعر بحنين جارف للوقوف مجدداً على خشبة المسرح الذي شهد بدايتها الفنية، وقدمت به عروضاً مهمة، من بينها «جاسوس في قصر السلطان» و«دقة زار» و«شهرزاد»، بالتعاون مع كبار النجوم أمثال جميل راتب وسناء جميل وكمال الشناوي ونور الشريف.
وبدأت سلوى خطاب مشوارها الفني منذ أن كانت طالبة بمعهد الفنون المسرحية، واتسمت أعمالها الفنية بالتنوع، مسرحياً وسينمائياً، حيث قدمت أدواراً بارزة مع كبار المخرجين، ومن بينهم عاطف الطيب ومحمد خان وهاني لاشين وأسامة فوزي. كما أثبتت تفوقها بأدوار مميزة في التلفزيون عبر مسلسلات عدة، من بينها «رأفت الهجان» و«حديث الصباح والمساء» و«الضوء الشارد» و«سجن النساء».
وتؤكد خطاب أن الفنان، مهما كبرت مكانته أو ثقته في نفسه أو سنه، يحتاج إلى التشجيع والإشادة بعمله دائماً، مشيرة إلى أنها كانت محظوظة بتنوع أدوارها، حيث ساعدتها دراستها بمعهد الفنون المسرحية على ذلك «فنحن ندرس مختلف المجالات الفنية، ومن بينها النصوص العالمية الكلاسيكية، دراسة تحليلية، وكيفية رسم الشخصية، وهذا يعطي ميزة للفنان الأكاديمي خلال اختيار أدواره، ويجعله أكثر وعياً».
وتعترف كذلك بأنها كانت محظوظة بعملها مع عدد من كبار الفنانين، قائلة: «لقد رسموا لي طريقي منذ البداية لفرط تأثري بهم وتعلمي منهم؛ كنت أرى القديرة سناء جميل تراجع كل كلمة مع المؤلف، وقد علمتني معنى الالتزام أمام الجمهور، وألا آخذ الأمر بتهاون. وفي مسرحية (شهر زاد)، كان الفنان جميل راتب يحذرني من لمس الأرض بقدمي على المسرح حتى يشعر المتفرج بخفة شهر زاد.
وفي السينما، قدمت أفلام (درب الهوى) و(الأراجوز) و(كتيبة الإعدام) مع مخرجين كبار. وفي الدراما التلفزيونية، قدمت (هند والدكتور نعمان) مع الفنان كمال الشناوي، و(الرقص على سلالم متحركة) مع العظيمة سناء جميل، و(الضوء الشارد) مع يوسف شعبان ومجدي أبو عميرة، فقد بدأت تمثيل وأنا طالبة بالمعهد، لكنني كنت حريصة على إنهاء دراستي التي عطلتني قليلاً، وأفادتني كثيراً».
وتؤكد خطاب أنها لن تترك التمثيل إلا إذا فقدت طاقتها، موضحة أن «التمثيل يتطلب طاقة وقدرة على الاستمرار، فهي التي تمنح الفنان الشغف. ولأنني أبحث دائماً عن أعمال مميزة، فالأمر يستلزم مجهوداً ذهنياً ونفسياً وعصبياً كبيراً، وقد كنت ألاحظ ذلك مع النجم أحمد زكي، والقديرة سناء جميل، اللذين يتمتعان بإحساسٍ عالٍ في الأداء، مما يمثل ضغطاً على جهازهم العصبي؛ كنت أشفق عليهما وهما يؤديان، لكني وجدت نفسي في الخندق ذاته في فترة لاحقة، لذلك فإنني أجلس في بيتي أسبوعين للاستجمام بعد انتهائي من تصوير أعمالي».
وعن الصعوبات الفنية التي تواجهها، تقول إن «طول ساعات التصوير التي تصل لنحو 20 ساعة يومياً تعد عذاباً كبيراً، فالممثل يشتغل بأحاسيسه وانفعالاته ووجهه، وعليه أن يظل محتفظاً بسخونة انفعالاته ويقظته طوال هذا الوقت، لأن الجمهور لن يقبل بمبرر أنه يعمل 20 ساعة متواصلة، بعيداً عن قوانين العمل التي حددتها المنظمات الدولية، لكننا نعمل في ظروف صعبة لارتباط العمل بتوقيت عرض وتعاقدات لا مجال لأي إخلال بها؛ هناك مخرجون كبار، مثل يوسف شاهين، كانوا يحددون ساعات التصوير خلال اليوم بما لا يتجاوز 8 ساعات، حتى يحصل على تركيز جيد من الممثلين، لكن صار هذا صعباً الآن».
وتشير إلى أنها رفضت «بدء تصوير أحد المسلسلات من دون تسلم سيناريو العمل كاملاً»، لافتة إلى أنها عندما زارت بيروت منذ فترة، سألها سائق هناك: «لماذا لم تعد المسلسلات المصرية مثل أعمال زمان، لكننا على الرغم من ذلك علينا أن نتذكر أننا مؤثرون، ولا بد من الحفاظ على هذه المكانة. في لبنان، شاهدت مسلسلات جميلة بسيطة تبرز التعبير عن المشاعر، وبها شخصيات متباينة، لذلك يجب ألا أن تكون أعمالنا ضرباً وقتلاً فقط».
وتواصل خطاب حالياً تصوير مسلسل «أيام وبنعيشها»، المكون من 45 حلقة، للمخرج محمد أسامة، وإنتاج صادق الصباح، وهو مسلسل اجتماعي يناقش مشكلات وعلاقات الناس بعضها ببعض. وبحسب الفنانة المصرية، فإنها تجسد دور أم تستغل أولادها، وتزوجهم بأثرياء، لرغبتها في الثراء، بالتعاون مع رياض الخولي، وحورية فرغلي، وأحمد صفوت، وأحمد حجازي، وندى موسى، وشيري عادل، مؤكدة أن النص أعجبها بشدة لأنه يمس الناس.
وقدمت خطاب فيلماً واحداً فقط مع المخرج الراحل أسامة فوزي، وهو «عفاريت الأسفلت»، حققت من خلاله نجاحاً كبيراً، بحسب النقاد. وعن ذلك تقول: «أسامة أخرج 4 أفلام فقط، لكنه ترك بصمة مميزة بأعماله القليلة، وقدم لغة جديدة في السينما.
ومن خلال معرفتي به وعشرتي معه، كنت متأكدة من موهبته وإصراره. وهذا الفيلم جاء بمثابة مرحلة جديدة في حياتي الفنية. كما أن ارتباطي بالزواج منه ضاعف الترابط والتشابه بيننا، فكان حكمنا على الفن متطابقاً، ولا نجري وراء تقديم أي عمل، وتعلمت منه الكثير، ومرحلة الأداء التي تعلمتها منه في فيلم (عفاريت الأسفلت) هي التي قادتني للإجادة في فيلم (الساحر)».
وعلى الرغم من بداياتها الفنية القوية بالمسرح، فإنها تغيب عنه منذ سنوات، وتقول عن ذلك: «بدأت بأعمال كبيرة، وهذه مشكلتي دائماً؛ لا أجد أعمالاً كبيرة تشجعني على العودة إليه مجدداً، فقد شاركت بمسرحيات (دقة زار) و(جاسوس في قصر السلطان) و(في عز الظهر) و(شهرزاد).
وأدواري كلها كانت صعبة، لذلك أتمنى بشدة الوقوف مجدداً على خشبته؛ لدينا تاريخ مسرحي لم نحافظ عليه منذ الأربعينات، فحالياً المسرح مزدهر، ويوجد إقبال عليه من الجمهور، لكن لا توجد عروض مزدهرة، باستثناء الفنان الكبير يحيى الفخراني الذي يواصل تقديم عروض تجد إقبالاً كبيراً من الجمهور.
وبسؤالها عن مسؤولية الممثل في هذا التراجع، تقول: «لا يجب أن نظلم الممثل، فهو لا يكتب ولا ينتج، بل تُعرض عليه الأعمال؛ أعطي الممثل أعمالاً جيدة سيعطي أداء جيداً.
ومنذ سنوات قريبة، كان المخرج يبحث عن نص ويكتبه مع المؤلف، وبعد ذلك يختار أبطاله، لأن المخرج هو الأساس، لكن دوره تراجع. وبالنسبة لي، حينما أصور عملاً، لا بد أن أتقنه، وأعترف أنني أكون مرهقة دائماً للناس من حولي، وبعضهم يقول إنني دقيقة جداً، وهذا صحيح، لأنه لا بد أن نعمل كل شيء بشكل منضبط، ولا أتنازل عن ذلك».


مقالات ذات صلة

مسلسلات مستوحاة من جرائم حقيقية تفرض نفسها على الشاشة المصرية       

يوميات الشرق لقطة من البرومو الترويجي لمسلسل «ساعته وتاريخه» الذي يعرَض حالياً (برومو المسلسل)

مسلسلات مستوحاة من جرائم حقيقية تفرض نفسها على الشاشة المصرية       

في توقيتات متقاربة، أعلن عدد من صُنَّاع الدراما بمصر تقديم مسلسلات درامية مستوحاة من جرائم حقيقية للعرض على الشاشة.

داليا ماهر (القاهرة )
يوميات الشرق من وجهة نظر العلاج بالفنّ (غيتي)

علاج القلق والكآبة... بالمسلسلات الكورية الجنوبية

رأى خبراء أنّ المسلسلات الكورية الجنوبية الزاخرة بالمشاعر والتجارب الحياتية، قد تكون «مفيدة» للصحة النفسية؛ إذ يمكنها أن تقدّم «حلولاً للمشاهدين».

«الشرق الأوسط» (سيول)
يوميات الشرق الفنانة مايان السيد في لقطة من البرومو الترويجي للمسلسل (الشركة المنتجة)

«ساعته وتاريخه»... مسلسل ينكأ جراح أسرة مصرية فقدت ابنتها

أثار مسلسل «ساعته وتاريخه» التي عرضت أولى حلقاته، الخميس، جدلاً واسعاً وتصدر ترند موقع «غوغل» في مصر، خصوصاً أن محتوى الحلقة تناول قضية تذكّر بحادث واقعي.

داليا ماهر (القاهرة )
يوميات الشرق سهر الصايغ خلال تسلمها إحدى الجوائز (حسابها على إنستغرام)

سهر الصايغ: تمردت على دور «الفتاة البريئة»

قالت الفنانة المصرية سهر الصايغ إنها تشارك في مسلسل «أسود باهت» بدور «شغف» التي تتورط في جريمة قتل وتحاول أن تكشف من القاتل الحقيقي.

مصطفى ياسين (القاهرة )
يوميات الشرق مريم الجندي في مشهد يجمعها بأحد أبطال المسلسل (لقطة من برومو العمل)

«ساعته وتاريخه» مسلسل مصري يجذب الاهتمام بدراما حول جرائم حقيقية

في أجواء لا تخلو من التشويق والإثارة جذب المسلسل المصري «ساعته وتاريخه» الاهتمام مع الكشف عن «البرومو» الخاص به الذي تضمن أجزاء من مشاهد مشوقة.

انتصار دردير (القاهرة )

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)