حرب النجوم والأفلام مع بداية موسم جديد

بمناسبة إطلاق «ڤينوم» و«بوند» وسواهما

وحش الأسبوع: «ڤينوم»
وحش الأسبوع: «ڤينوم»
TT

حرب النجوم والأفلام مع بداية موسم جديد

وحش الأسبوع: «ڤينوم»
وحش الأسبوع: «ڤينوم»

انطلق «ڤينوم: لتكن هناك مذبحة» (Venom‪:‬ Let There be a Carnage) في الأسواق الأميركية مسجلاً في يومه الأول (الجمعة) ما يُقارب 40 مليون دولار مع نهاية يوم أوّل من أمس. ويتوقع أن تُحصي شركة «سوني» المنتجة نحو 70 مليون دولار، دافعة بفيلمها للتربّع على قمة العروض لهذا الأسبوع.‬
هذه القمّة كانت ملك فيلم «شانغ - تشي وأسطورة الحلقات العشر» (Shang‪ - ‬ Chi and the Legend of the Ten Rings) للأسابيع الثلاث الماضية، إذ حقق خلالها 200 مليون دولار في الولايات المتحدة وكندا.‬
«شانغ - تشي» من إنتاج «ديزني» و«ديزني» مستاءة من أنّ بعض شخصيات شركة «Marvel Comics» لا تزال خارجة عن ممتلكاتها، كحال معظم شخصيات مارڤل مثل «كابتن أميركا» و«ذا أفنجرز» و«آيرون مان» و«بلاك وِدو» إلى آخر منظومة مارڤل من السوبر هيروز باستثناء شخصية «سبايدر - مان» وما ينبثق عنها مثل «ڤينوم».

«ديزني» تلجأ للمحكمة
في «ڤينوم: لتكن هناك مذبحة» يحاول إيدي بروك حل قضايا بوليسية شائكة يساعده في ذلك ڤينوم الشرير بدوره. ڤينوم لا يرضى بأن يسود الخير لكنّه مجبر على أن يسكن داخل التحري بروك «لأنه ليس هناك من خيار آخر» كما يقول له في الفيلم الجديد.
الصراع الحقيقي هو بين شركة «مارڤل» المنتمية بالكامل لشركة «ديزني»، وبين مالكي الحقوق السابقين لشخصيات أو من آلت إليهم تلك الحقوق. ترى «ديزني» و«مارڤل» أنّ كل شخصيات «مارڤل» هي ملك لـ«ديزني» ولا يجوز لأحد أن يُتاجر بها أو يصنع من شخصياتها أفلاماً أو مسلسلات، لا هي ولا ما ينبثق عنها. وهي لهذه الغاية رفعت دعوى قضائية تنشد فيها الحفاظ على ملكية هذه الشخصيات ومن بينها «بلاك ودو» و«أنت - مان» و«دكتور سترانج» و«آيرون مان» و… «سبايدر - مان» وما ينبثق عن «سبايدر - مان» من شخصيات مثل «ڤينوم».
بالتالي هي معركة مصير بين «ديزني» و«سوني»، يزيدها حدّة أنّ «سوني» تنجز نجاحاً كبيراً عبر هذا الفيلم الجديد. وهذه ليست المرّة الأولى التي تدخل فيها «ديزني - مارڤل» المحاكم للحفاظ على ما تعدّه من أملاكها التي يجب ألا تتهاون فيها على أساس أنّ إيراداتها مجتمعة تبلغ عشرات مليارات الدولارات.
وهي القضية الثانية التي واجهتها «ديزني» مؤخراً، بعدما رفعت الممثلة سكارلت جوهانسن، قبل نحو شهر، دعوى ضد الشركة الكبيرة على أساس أنّ قيام ديزني بعرض «بلاك وِدو» على قنوات العروض المنزلية لقاء اشتراك، حرم الفيلم من فرصته لتسجيل إيرادات أعلى في صالات السينما.
في باطن القضية مطالبة جوهانسن بنصيب من إيرادات «ديزني» التي دخلتها عبر منصّتها الإلكترونية. «ديزني» رّدت بأنّ جوهانسن تقاضت 20 مليون دولار وتسعى فقط للاستحواذ على أجر آخر لا حق لها فيه. لكنّ «ديزني» نفسها وجدت أنّ جوهانسن، وحسب العقد المبرم وثناياه، قد تربح القضية وتجبر «ديزني» على الدفع.
هذا ما أدّى إلى مباحثات بين محامي الطرفين تم على إثرها، قبل ثلاثة أيام، عقد اتفاق بينهما يقتضي بإسقاط الدعوى وحل الخلاف خارج المحكمة وذلك من دون ذكر تفاصيل الاتفاق الذي سيقضي بالطبع بدفع تعويض ما للممثلة.
حسب كل الكوميديات في هذه الظروف، أعلن كل طرف «سعادته» للتوصل إلى هذا الاتفاق، ما يحيلنا إلى فيلم «ڤينوم: لتكن هناك مذبحة»، فـ«سوني» ليست في وارد إجراء اتفاق خارج المحكمة إذا ما انتصر فريق «مارڤل» على فريق مالكي الحقوق الأصلية الذين يريدون التحرر من تلك الملكية (أو تعديل شروطها). «سوني»، على الأرجح، ستتمسك بحقوقها في «سبايدر - مان» وكل الشخصيات الواردة في مسلسلاتها وحكاياتها ومن بينها شخصية إيدي بروك وڤينوم.

مع أندي سركيس
نقدياً، ولنا عودة للفيلم في هذا المجال لاحقاً، لم ينجُ الفيلم من مذبحة نقدية. صحيح أن 15 ناقداً وجدوا حسنات الفيلم (كما أخرجه البريطاني ذو الأصل العراقي أندي سركيس) أعلى من سيئاته، إلا أن هناك 25 ناقداً وجدوا العكس. أحد الذين عابوا على الفيلم رداءته بيتر دبروج، في مجلة «فارايتي» المؤثّرة، والذي كتب أنّ الفيلم «أُدير» من المؤثرات ولم يتم «إخراجه».
أمّا «بطل» الفيلم توم هاردي فإنّ قليلين توقفوا عنده بالاسم نظراً لأنّ مشاهده، في نسبة عالية منها، ممتزجة بشخصية الوحش الذي يواكبه أينما حل، ما يعني أنّه كان يمْثل للمؤثرات التي ستُضاف بعد التصوير أكثر مما كان يمثّل دوراً كاملاً.
كنت قد التقيت مع أندي سركيس قبل بضع سنوات في لندن. كان قد بدأ التمثيل من عام 1994 (عندما كان في الثلاثين من عمره)، لكنّه لم يستحوذ على الاهتمام والشهرة إلا بعد 7 سنوات من بدايته، ظهر خلالها في 18 فيلماً ودوراً.
فيلم الشهرة هو الجزء الأول من «سيد الخواتم» 2001، حين لعب شخصية المخلوق «غولام» الذي هو انتصار تقني وأدائي في الوقت ذاته. في الناحية الأولى لا يشبه سركيس شخصية غولام لا شكلاً ولا كملامح أو تصرّفات، بل مثّل بجسده وهيئته كاملة قبل أن يُحوّل ما ارتسم في الكاميرا إلى أنيميشن غرافيك بالكامل، فبدا على النحو الذي بدا عليه. في ذلك اللقاء الذي تم من دون موعد في أحد الفنادق قال: «شخصية غولام كانت مثيرة تحت أي شكل تظهر به. من يُلاحظ أنّ هناك أداء فعلياً تحت شكل المخلوق الغريب، وحواراً جيداً على لسانه، سيدرك أنّ الممثل تحت الجلد الظاهر قام بإداء جيد ساهم في نجاح الشخصية».
سألته عن النقلة صوب الإخراج، التي قام بها سنة 2017 عبر فيلم «Breathe» العاطفي. أجاب:
«توخيت في فيلمي الأول الخروج عمّا يتوقعه البعض منّي. أنا فخور وسعيد بذلك الفيلم لكنّي أدركت أيضاً أنّ طموحاتي تكمن في سينما الخيال والفانتازيا وعلى ذلك عمدت إلى تحقيق فيلم Mowgli (العنوان الكامل Mowgli‪:‬ Legend of the Jungle). بقيت في إطار التمثيل وابتعدت قدر الإمكان عن تكرار نفسي من فيلم لآخر وما زلت».‬ وهو بالفعل ظهر في تركيبة من عدة أدوار مختلفة في الخيال العلمي «ستار وورز: الجزء التاسع - صعود سكايووكر» 2019، والكوميديا كما في «احتمال بعيد» (Long Shot) في العام ذاته، والجاسوسي في «إنذار أحمر» 2021.
أضاف في النهاية: «لا أقوم بما هو فريد من نوعه. أرى السينما من زوايا ثلاث كمنتج وكمخرج وكممثل، وهي عندي جوانب بعضها يكمل بعضاً. أيُّ جانب أفضل؟ لا أدري تماماً. أعتقد الجانب الذي أضع جهدي فيه وقت العمل عليه».

بوند على الأبواب
في حين يتبوأ «ڤينوم: لتكن هناك مذبحة» عروض الصالات الأميركية هذا الأسبوع، لن يتمكن من زحزحة فيلم «لا وقت للموت» من مواقعه في العواصم الأوروبية والآسيوية التي بدأت بعروضه منذ بضعة أيام. حتى الآن سجل هذا الفيلم الجيمس بوندي أكثر من 110 ملايين دولار، وهذا من دون حساب كل الأسواق التي سيتم إطلاق الفيلم فيها بدءاً من نهاية الأسبوع المقبل ومن بينها السوق الأميركية ذاتها. كذلك لا تحسب بعد السوق الصينية التي ستستقبل الفيلم بعد أسبوعين إلى ثلاثة.
هذا سيضع «ڤينوم: لتكن هناك مذبحة» على المحكّ أمام «لا وقت للموت» داخل الولايات المتحدة وكندا، ما يعني أن سطوة «ڤينوم» لن تدوم لأكثر من أسبوع واحد.
خلال الفترة الممتدة من أول أكتوبر (تشرين الأول) إلى السابع منه تم حشد أفلام أملت في استحواذ قسط من موسم العودة الكبير إلى الصالات ومن بينها «العزيز إيڤان هنسن» وهو دراما- ميوزيكال مستوحى من مسرحية بالعنوان ذاته، و«عينا تامي فاي» المنتمي إلى السير الحياتية حول شخصية زوجة أحد مبشري الكنيسة الذي كوّن لنفسه وزوجته ثروة غير مشروعة.
سيتاح لفيلم جيمس بوند التمتع بأسبوعين على الأقل من قيادة عروض الصالات الأميركية خلال هذا الشهر. ففي الثاني والعشرين من الشهر الحالي سيلتقي منافسه العتيد «كثبان»، الذي كان قد سبقه للعروض حول العالم وبنجاح جيد. بذلك فإنّ الرهانات على الأفلام التي تستطيع تجاوز سقف الـ500 مليون دولار حول العالم اليوم ستكون حامية، وستزداد سخونة خلال الأشهر القليلة المقبلة كذلك.
بعودة الموسم إلى نشاط زاخر (لم تعد هناك دول ذات صالات مغلقة، حسب إحصاء مجلة «سكرين إنترناشونال» البريطانية) هناك المزيد من حرب النجوم والأفلام في الأسابيع المقبلة. وإذا ما كانت معظم الأفلام المتسارعة صوب استقطاب النجاح التجاري تتوجّه إلى الجمهور الباحث عن الترفيه أولاً، فإنّ الموسم التالي مباشرة سيعيد الزخم للأفلام ذات القيمة الفنية الباحثة عن جوائز المناسبات السنوية المعتادة.


مقالات ذات صلة

«منتدى الأفلام السعودي» يجمع خبراء العالم تحت سقف واحد

يوميات الشرق ‎⁨تضم النسخة الثانية معرضاً يجمع «سلسلة القيمة» في أكثر من 16 مجالاً مختلفاً ومؤتمراً مختصاً يتضمن 30 جلسة حوارية⁩

«منتدى الأفلام السعودي» يجمع خبراء العالم تحت سقف واحد

بعد النجاح الكبير الذي شهده «منتدى الأفلام السعودي» في نسخته الأولى العام الماضي 2023، تستعد العاصمة السعودية الرياض لانطلاقة النسخة الثانية من «المنتدى».

«الشرق الأوسط» (الدمام)
يوميات الشرق ياسمين رئيس مع أسماء جلال في مشهد من الفيلم (حسابها على «فيسبوك»)

فنانون مصريون يتجهون للإنتاج السينمائي والدرامي

انضمت الفنانة المصرية ياسمين رئيس لقائمة الممثلين الذين قرروا خوض تجربة الإنتاج السينمائي من خلال فيلمها الجديد «الفستان الأبيض».

أحمد عدلي (القاهرة )
سينما يبدأ الجزء الثاني من سجن آرثر فليك.. الصورة من صالة سينما سعودية حيث يُعرض الفيلم حالياً (الشرق الأوسط)

فيلم «الجوكر2»... مزيد من الجنون يحبس أنفاس الجمهور

يخرج آرثر فليك (واكين فينيكس) من زنزانته، عاري الظهر، بعظام مقوّسه، يسحبه السجانون بشراسة وتهكّم...

إيمان الخطاف (الدمام)
يوميات الشرق يشجّع المهرجان الأطفال والشباب في مجال صناعة السينما (الشرق الأوسط)

الشيخة جواهر القاسمي لـ«الشرق الأوسط»: الأفلام الخليجية تنمو والطموح يكبُر

الأثر الأهم هو تشجيع الأطفال والشباب في مجال صناعة السينما، ليس فقط عن طريق الإخراج، وإنما أيضاً التصوير والسيناريو والتمثيل. 

إيمان الخطاف (الدمام)
يوميات الشرق صورة تذكارية لفريق عمل مهرجان «الجونة» (إدارة المهرجان)

فنانون ونقاد لا يرون تعارضاً بين الأنشطة الفنية ومتابعة الاضطرابات الإقليمية

في حين طالب بعضهم بإلغاء المهرجانات الفنية لإظهار الشعور القومي والإنساني، فإن فنانين ونقاد رأوا أهمية استمرار هذه الأنشطة وعدم توقفها كدليل على استمرار الحياة.

انتصار دردير (القاهرة )

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)