مع استمرار جائحة «كوفيد - 19» وتحورات الفيروس الأخيرة، أثيرت تساؤلات حول «استهلاك» الجمهور للأخبار في ظل التداعيات المستمرة. كذلك تزايد الجدل بشأن تأثير الجائحة على الإعلام ومستوى الثقة به، وما إذا كان يتوجب على وسائل الإعلام تغيير استراتيجيتها في نقل ومتابعة الأخبار، لمواجهة الكم الهائل من «المعلومات» المزيفة والمضللة على المنصات المختلفة خاصة مع متحورات الفيروس.
حسب بعض المراقبين «أصبحت المناقشات بين المتخصصين في الإعلام تتحدث عن تعلق الجماهير بوسائل الإعلام، بحثاً عن مزيد من الأخبار والمعلومات حول تحورات الفيروس، أو ملل البعض الآخر من كثرة الأخبار التي تتعلق بأخطار متحوّرات (كوفيد – 19) واتخاذهم قراراً بالابتعاد عن وسائل الإعلام». وفي حين أشار متخصّصون في الإعلام إلى أن تحوّرات الفيروس غيّرت من عادات المتابعين، ثمة رأي بأن مساعي الجمهور للحصول على معلومات عن تحوّرات الفيروس والحصول على التعليمات والتوصيات الصحية للوقاية من خطرها، دفعه إلى مزيد من استهلاك وسائل الإعلام.
وفي هذا السياق، قسمت دراسة هولندية نشرها معهد «نيمان لاب» المتخصّص في الدراسات الإعلامية، بنهاية أغسطس (آب) الماضي، جمهور الإعلام وفقاً لمدى تأثر استهلاكه للأخبار خلال الجائحة. وأشارت إلى أن «فئتين قللتا من استهلاكهما للأخبار، وهما فئة متجنبي الأخبار والمتابعين الذين تحولوا إلى متجنبين للأخبار، لأسباب تتعلق بمدى ما تخلقه هذه الأخبار من شعور بالضعف والعجز. وفي المقابل، ازداد استهلاك الأخبار لدى الفئة التي اعتادت التعرّض للأخبار بشكل متكرّر، وفئة الذين يُطلق عليهم اسم «مدمني الأخبار»، بينما لم تغير الجائحة من عادات المتابعين المستقرين للأخبار.
الدراسة أشارت أيضاً إلى أن «تغير عادات استهلاك الأخبار مرتبط بعدة عوامل من بينها، مدى تأثير الجائحة في الحياة اليومية للشخص وعائلته وأصدقائه، كما تلعب مشاهد القلق والتوتر المرتبطة بالجائحة دوراً في تحديد طريقة تعامل الجمهور واستهلاكه للأخبار.
يوتام أوفير، أستاذ الإعلام بجامعة ولاية نيويورك يرى أن «الجائحة غيرت بطريقة ما من استهلاك الجمهور للأخبار». ويضيف لـ«الشرق الأوسط» أن «الجمهور ما زال يحصل على معلوماته من المصادر نفسها؛ لكن نتيجة للإجراءات الاحترازية المصاحبة للجائحة، التي عزلت الناس في منازلهم لفترات طويلة، شعر الناس بالخوف والعزلة والملل، فاستهلكوا أخباراً أكثر من المعتاد، كما أن إحساس الجمهور بالشك، ومكابدتهم مشقات للحصول على معلومات عن تحورات الفيروس والحصول على التعليمات والتوصيات الصحية للوقاية منه، دفعهم إلى مزيد من استهلاك وسائل الإعلام». لكن أوفير يشير بأسف إلى أنه مع زيادة اتجاه الناس للحصول على الأخبار، تراجعت أيضاً درجة الثقة في الوسائل التقليدية للإعلام، وزاد اعتماد الجمهور على مصادر «المعلومات البديلة» التي تروج لـ«نظريات المؤامرة» و«الأضاليل».
أما يوشنا إكو، الباحث الإعلامي الأميركي، رئيس ومؤسس «مركز الإعلام ومبادرات السلام» في نيويورك فقال لـ«الشرق الأوسط» إن «الجائحة ربما لم تغير من طريقة استهلاك الجمهور للأخبار؛ لكن الحالة الصحية العامة زادت من الشكوك لدى العامة حول ما يمكن تصديقه من قصص إعلامية حول الفيروس خاصة في ظل تحوراته الجديدة». ويضيف أن «كثيرين من الناس ابتعدوا عن الفضاء الإعلامي بسبب إحباطهم من كثرة المعلومات المحملة بالأضاليل خاصة التي تتعلق بمتحورات الفيروس». وفي هذا السياق، تحدثت دراسة أخرى نشرها باحثان نرويجيان في يوليو (تموز) الماضي، عن الفئة التي تلقب بـ«متجنبي الأخبار»، بسبب تداعيات الجائحة، وأظهرت الدراسة فعلاً أن «بعض الناس حدّدوا أوقاتاً معينة لتلقي الأخبار والمعلومات عن الجائحة خلال اليوم، والبعض الآخر حدد مصادر المعلومات التي يحصل منها على الإفادات من خلال المؤتمرات الصحافية الحكومية».
عودة إلى أوفير الذي يقول إنه في بحث أجراه أخيراً عن تغطية وسائل الإعلام للأوبئة، وجد أن «بعض وسائل الإعلام لم تنجح في تزويد الجمهور بالمعلومات خلال الأزمات الصحية العالمية على غرار الجائحة، كما أظهر بحث آخر أن بعض التغطيات الإخبارية أثرت على مستوى الثقة في المؤسسات الصحية، وأدت إلى إحجام الجمهور عن استخدام الكمامات، وتلقي اللقاحات». وحسب كلام أوفير فإن «وسائل الإعلام منحت وقتاً طويلاً جداً لمناقشة القضايا السياسية والاقتصادية والثقافية المتعلقة بالجائحة على حساب تفسير معنى الجائحة بالنسبة للناس، وكيف يمكنهم أن يعيشوا بشكل أفضل؟... وإبلاغهم بالمزيد من المعلومات عنها».
وحول تداعيات متحوّرات «كوفيد - 19» الأخيرة، يشرح إكو فيقول إن «الـ18 شهراً الأخيرة أظهرت تراجع مستوى المصداقية في وسائل الإعلام مرة أخرى، مما يحتم على وسائل الإعلام تغيير استراتيجيتها في نقل القصة الخبرية، والتركيز على الحلول والتحقيق من الأخبار مهما طالت مدة إنتاج هذا النوع من القصص، وذلك بهدف إنتاج مواضيع صحافية مؤثرة». إكو أشار أيضاً إلى أن «كثيراً من المؤسسات مثل (منصة أخبار الحلول) التي ينشرها مركز الإعلام ومبادرات السلام في نيويورك، تعمل في اتجاه ما يسمى بـ(صحافة الحلول) لتصحيح الممارسات الإعلامية وتشجيع الصحافيين على إنتاج قصص ترتبط بالجمهور، وتقرّبهم من إيجاد حلول للتحديات التي يواجهونها، فهي تقدم طريقة جديدة لرواية القصة لمكافحة الأضاليل والمعطيات المزيفة».
من جهة ثانية، ذكر معهد «رويترز» لدراسات الصحافة التابع لجامعة أكسفورد البريطانية، في تقريره السنوي العاشر عن الإعلام الرقمي، يونيو (حزيران) الماضي، أن «تنامي الثقة في الأخبار بوسائل الإعلام بلغ 44 في المائة، بزيادة ست نقاط عن العام الماضي، وهذا بالتزامن مع ثبات معدلات الثقة في الأخبار المنشورة على مواقع التواصل الاجتماعي». وأرجع التقرير ذلك إلى أن «هذا يعني أن القارئ بات يعطي أهمية أكبر للمصادر الموثوقة التي تتمتع بمصداقية وتقدم أخباراً دقيقة، خاصة مع التحوّرات المستمرة للفيروس».
بيد أن أوفير يرى أن «الجمهور» اتجه إلى «الإعلام البديل»، سواءً كان مواقع إلكترونية أو وسائل تواصل اجتماعي. وقال إن «الإعلام يلعب دوراً مهماً في المجتمعات الصحية، فهو الوسيط بين الجماهير والحكومات؛ لكن عندما يفقد الجمهور الثقة في الإعلام المهني، ويفضل غير ذلك، فإن النتيجة هي زيادة الاقتناع بالأضاليل، وهو ما يخلق تحديات عظيمة للصحة العامة على غرار رفض التطعيم، وارتداء الكمامات».
في السياق نفسه، وعن حاجة الجمهور للمعلومات الدقيقة خاصة مع التحوّرات المستمرة لـ«كوفيد - 19». يرى أوفير أن «الجمهور الذي كان لا يثق في الإعلام بشكل عام قلّت ثقته في ظل تداعيات الجائحة؛ لكن مَن كان يثق في الإعلام شعر بحاجة أكبر للمعلومات عن المتحوّرات، لأنه في ظل الأزمات يحتاج الجمهور إلى مزيد من المعلومات الدقيقة ويسعى للحصول عليها».
وهنا يقول إكو إنه «من الواضح أن الجمهور ليس راضياً عن المحتوى الإخباري على بعض وسائل الإعلام، لكن هذا لا يعني أنه ضد وسائل الإعلام، بل يعني أن على العاملين في مجال الإعلام، العمل أكثر على إنتاج مواد تلبي طموحات واحتياجات هذا الجمهور».